احتجاجات الناصرية تكشف تضامن الجيش العراقي مع المتظاهرين

موجة الاحتجاج الجديدة التي انطلقت قبل أيام في مدينة الناصرية بجنوب العراق، شهدت ظاهرة غير مسبوقة بالبلد تمثّلت في انحياز الجيش للمتظاهرين ضدّ قوات مكافحة الشغب التي حظيت بمساندة بعض كبار قادة الميليشيات الشيعية، وذلك بالتزامن مع احتفال الجيش العراقي بالذكرى المئة لتأسيسه وما شهدته من دعوات ومطالبات لهذا الجيش العريق باستعادة هيبته واستئناف الاضطلاع بدوره الوطني، بعد التراجع الرهيب الذي طاله منذ سنة 2003.
الناصرية (العراق) – أصدر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أمرا خاصا بالإفراج عن ضباط وجنود في الجيش العراقي جرى احتجازهم إثر تدخّلهم لصالح المتظاهرين ضد قوات مكافحة الشغب في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار جنوبي العراق التي تشهد عودة قوية للتظاهرات، بعد أن كانت المدينة إحدى أكبر مراكز انتفاضة أكتوبر 2019 التي عمت أغلب مدن جنوب ووسط العراق، وتواصلت لعدّة أشهر ورُفعت خلالها مطالب تتعلّق بتحسين ظروف العيش وتوفير مناصب العمل ومحاربة الفساد. ولم تلبث أن تدرّجت نحو رفع شعارات منادية بإسقاط النظام برمّته وإنهاء سيطرة إيران عبر أذرعها المحلية من أحزاب دينية وميليشيات شيعية على القرار السياسي والاقتصادي والأمني العراقي.
وبدأت التطورات الجديدة في الناصرية عندما اعتقلت قوات الأمن أحد المتظاهرين في الناصرية ما أثار موجة من الغضب في أوساط المحتجين المرابطين في ساحة الحبوبي، مركز التظاهرات الرئيسية في المدينة.
وتدخّلت قوات مكافحة الشغب بالهراوات لتفريق المتظاهرين الذين طالبوا بإطلاق سراح زميلهم، حيث تطور الأمر إلى اشتباك مباشر.
وعندما احتدمت المواجهة، تدخلت قوة من الجيش العراقي تتبع للفرقة التاسعة وأطلق عناصرها النار لفض الاشتباك ومنع قوات مكافحة الشغب وقوات الشرطة الاتحادية من البطش بالمتظاهرين.
وقال شهود عيان إن الجيش مكّن المتظاهرين من طرد قوات مكافحة الشغب والشرطة الاتحادية إلى خارج ساحة الحبوبي، والعودة إلى تنظيم صفوفهم في داخلها، وتحصين موقع الاعتصام الخاص بهم.
وتسبب هذا الوضع في إغضاب مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي يقول المتظاهرون إنه يحرّض قوات مكافحة الشغب ضدهم، وهادي العامري زعيم منظمة بدر الذي يقولون إنه يشجع الشرطة الاتحادية بسبب نفوذه الكبير بين ضباطها وأفرادها، على سحق المشاركين في الاحتجاجات.
ويتهم متظاهرو الناصرية الصدر بركوب موجة التظاهرات ومحاولة تجييرها لحسابه، بينما يتحدثون علنا عن قيادة العامري الشخصية لعمليات خطف وتعذيب وقتل زملائهم.
ومنذ أسابيع يتراشق المتظاهرون كلاميا مع الصدر والعامري اللذين قررا، على ما يبدو، تحريك نفوذهما في الدولة لسحق احتجاجات الناصرية.
وقال صالح العراقي، وهو حساب في فيسبوك مقرب من الصدر “اليوم اعتقل أحد ممن ينتمون للتشرينيين (نسبة إلى انتفاضة تشرين، أكتوبر) أو الغوغائيين منهم.. في الناصرية الحبيبة فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها إلاّ بالشغب والعنف”.
وأضاف “المصيبة الأكبر هي قتل وطعن وضرب القوات الأمنية التي تريد حمايتهم وحماية الوطن”. وتابع “من هنا أنصح أن يأخذ القضاء مجراه وإذا شئتم أن نفوض محاميا للدفاع عن المعتقل لتظهر براءته أو إدانته وعدم اللجوء إلى الغوغاء والضوضاء، فالعراق أمانة في أعناقنا”.
ومن جهته، قال هادي العامري إن “أحداث ما تسمى ثورة تشرين والهتافات ضد جهة معينة كان يراد منها دفع العراق نحو الفوضى”، مؤكدا “نحن على أهبة الاستعداد لإنهاء هذه التحركات المشبوهة حفاظا على مصالحنا العليا والإستراتيجية مع الجارة إيران”.
وقالت مصادر صحافية محلية إنّ الصدر والعامري مارسا ضغوطا شديدة لاعتقال الضباط والجنود الذين تدخلوا لصالح المتظاهرين في الناصرية، موضحة أن الشرطة المحلية استدعت أفراد هذه القوة بشكل غير رسمي للتحقيق.
وتساهم سياسة القبضة الحديدية التي تحاول جهات عراقية فرضها في تأجيج الاحتجاجات بدل إنهائها. وهدد متظاهرون في محافظة ذي قار بـ”تصعيد غير مسبوق” لاحتجاجاتهم، إذا لم يتم الإفراج عن زملائهم الذين اعتقلوا خلال الأيام الماضية. وقال المتظاهرون في بيان “الحكومة لم تف بتعهداتها الخاصة بإرساء الاستقرار في الناصرية بل زادت النار حطبا فكانت ضد شعبها وعونا للفاسدين”.
واشترط البيان، لوقف الاحتجاجات، إطلاق السلطات سراح جميع المتظاهرين وإسقاط التهم الكيدية عنهم ووقف حملات ملاحقة الناشطين في الحراك الشعبي الاحتجاجي. وأضاف البيان “إذا حصل عكس ذلك، فإننا على أتم الجهوزية والاستعداد للتصعيد بقوة أكبر لم تشهدها الحكومة من قبل”.

وأما العجز عن إنهاء الاحتجاجات، فتحاول أطراف سياسية إضفاء بعد طائفي عليه. وعمدت جهات مجهولة إلى تسريب إشاعة مفادها أن أحد ضباط قوة الجيش التي تدخلت لصالح المتظاهرين في الناصرية يدعى “عمر”، للدلالة على أنه سنّي وتدخل بدافع طائفي ضد قوات تابعة لسلطة شيعية. وفشلت هذه المحاولة عندما تبين أن آمر القوة الذي أصدر أمرا مباشرا بالتدخل لحماية المتظاهرين هو شيعي واسمه “علي”.
وقالت المصادر إن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أمر بإطلاق سراح أفراد قوة الجيش في الناصرية فورا، وفَتْح تحقيق موسع لمعرفة أسباب تدخلهم وأسباب التحقيق معهم خارج الضوابط. وأذكى تدخل الجيش حماسة واسعة بين العراقيين في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ كتب نشطاء بأن هذه الحادثة دليل على أن المتظاهرين ليسوا لوحدهم.
وتعيش الناصرية منذ أيام على وقع معلومات بتحرك ميليشيات موالية لإيران لتصفية حركة الاحتجاج قبل البدء في التحضير للانتخابات المبكرة التي يفترض أن تُجرى في يونيو المقبل، لكن المؤشرات توحي بإمكانية تأجيلها بضعة شهور.
وتميزت احتجاجات الناصرية بطابع مناهض لجميع مظاهر العمل السياسي والميليشياوي الموالي لإيران، إذ أحرق وهدم متظاهروها مقرات جميع الأحزاب ومنعوا أنشطتها.
ويقول مراقبون إن الصدر والأطراف التابعة لإيران يتحركون للسيطرة على الناصرية قبل انطلاق عمليات التحشيد للانتخابات، حيث تلعب هذه المدينة دورا مؤثرا في توجيه البوصلة الانتخابية.
وليس واضحا ما إذا كان موقف الكاظمي سينتهي عند حماية الجنود الذين تدخلوا لصالح المتظاهرين، أم أنه سيمتد لمساندة متظاهري الناصرية أمام هجمات الصدر والميليشيات التابعة لإيران، وفي مقدمتها منظمة بدر.
وأعلن تحالف النصر بزعامة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي “رفضه واستنكاره لاستمرار إراقة الدم في ذي قار، باعتباره انتهاكا لكرامة الشعب وآماله، ولقيم الدولة وأمن المجتمع”، ودعا إلى “وقفة جادة لإعادة تقييم الأوضاع وضبطها، وتصحيح المسار بما يحقق طموحات الشباب وأهداف الدولة”، مؤكدا أن “شرعية النظام على المحك”.
وطالب تحالف العبادي “الحكومة والقوى السياسية بتحمل مسؤلياتها لتخطي المرحلة الانتقالية بأقل الأضرار ووفق التزامات واضحة وجادة للانتقال إلى مرحلة دائمة تحقق طموحات الشعب”.