اجتماعات لإعادة تقاسم النفوذ والمصالح في ليبيا

المقربون من عبدالحميد الدبيبة يقولون إنه لم يعد يرى مانعا من تقاسم نفوذ المستقبل مع خليفة حفتر وأن همه الوحيد هو إفشال مخططات صالح والمشري واستبعاد سيف الإسلام القذافي من المشهد.
الخميس 2023/01/12
الحل السياسي لا يزال بعيدا

توالت اللقاءات المعلنة والسرية بين صانعي القرار في ليبيا في سياق العمل على إعادة تقاسم النفوذ في البلاد بالتزامن مع محاولات بعض القوى الخارجية فرض الحل السياسي الذي تراه للأزمة المتفاقمة منذ 12 عاما، ففي القاهرة كان اللقاء برعاية مصرية بين رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي والقائد العام للجيش الوطني الجنرال خليفة حفتر لدراسة عدد من الملفات المهمة وفي صدارتها ملف توحيد المؤسسة العسكرية قبيل عودة اللجنة العسكرية المشتركة للاجتماع بمدينة سرت بداية من يوم السادس عشر من يناير الجاري بحضور المبعوث الأممي عبدالله باتيلي.

سبق للرجلين أن التقيا في مناسبة واحدة يوم الحادي عشر من فبراير 2021، وكان ذلك عندما وصلها المنفي بعد ستة أيام من انتخابه رئيسا للمجلس الرئاسي من قبل ملتقى الحوار السياسي المجتمع بجنيف، قادما من أثينا حيث كان يعمل سفيرا لليبيا يمثّل حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج الذي اختاره للمنصب في أواخر العام 2018.

ورغم أن المنفي يتحدر من إقليم برقة، ويمثلها في المجلس الرئاسي وفق التقسيم المعتمد في توزيع المناصب القيادية والسيادية بين الأقاليم الثلاثة، إلا أنه حاول منذ توليه منصبه الحالي تجاهل قيادة الجيش لتأمين نفسه في طرابلس الخاضعة لنفوذ الميليشيات، وكانت النتيجة أن رفضت القيادة العامة في ضاحية الرجمة ببنغازي الاعتراف بصفته كقائد أعلى للقوات المسلحة، واكتفت بأن توفر له الحماية الأمنية لدى زياراته المتتالية إلى مسقط رأسه مدينة طبرق أو إلى بقية مدن المنطقة الشرقية.

◙ كل التحركات التي تستهدف ظاهريا حلحلة الأزمة، تبقى مرتبطة بمواقف شخصية لا تخرج عن دائرة مصالح أصحابها المتحولة، ووفق التوازنات التي تشهد بدورها تغيّرا بين الحين والآخر

من الواضح أن المنفي ليس لديه ما يقدمه لحفتر، وهو أبعد ما يكون عن القدرة العملية على التأثير في مسار توحيد الجيش، كما أن المجلس الرئاسي مخترق من قبل تيار الدبيبة بشكل بيّن، وهو أمر منطقي، إذ أن وصول هذا المجلس للحكم كان إفرازا لحكم التبعية بالقائمة التي تم ترشيحها لملتقى الحوار، والتي ما كان لها أن تتصدر النتائج لولا دور الدبيبة في إقناع أعضاء الملتقى بإمكانياته الخاصة، وهو ما أثار جدلا واسعا بالحديث عن شراء الأصوات بمبالغ طائلة.

بالمقابل، يمكن أن يصبح للمنفي دور مهم وحضور أكثر أهمية بمجرد أن تعترف قيادة الجيش بموقعه كقائد أعلى، إلا أن ذلك سيبقى أمرا مستبعدا في الوقت الحالي لأسباب عدة، من أبرزها أن حفتر لا يثق في المجلس الرئاسي ولا يعبأ به، كما أنه يعتبر أن زعامته تتفوق على السلطات القائمة في طرابلس والتي يرى أنها تستمد شرعيتها من الاعتراف الدولي ومن التحصن بسلاح الميليشيات والقوات الأجنبية وجحافل المرتزقة. 

 لقاء المنفي وحفتر جاء بعد ثلاثة أيام فقط من اجتماع آخر احتضنته القاهرة بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس مجلس الدولة خالد المشري، ونتج عنه اتفاق حول خارطة طريق للمرحلة القادمة، كثر حولها الجدل واحتد السجال، لاسيما أن الرجلين لا يحظيان بمصداقية كبيرة بين الليبيين في الداخل وبين الفاعلين الإقليميين والدوليين المؤثرين في الملف الليبي، ويبدوان في أغلب الأوقات مجرد باحثين عن مصالحهما الشخصية وعن مصالح التيارين اللذين يمثلانهما سواء في غرب البلاد أو في شرقها.

لم يعد خافيا أن هدف المشري هو إعادة تدوير مجلس الدولة وخدمة طموحاته السياسية عبر دور رئيسي في تشكيل حكومة جديدة تم مبدئيا اختيار رئيس لها من مدينة مصراتة، فيما يسعى صالح إلى ما هو أهم، حيث يتطلع إلى رئاسة المجلس الرئاسي القادم وإلى تولي القيادة العليا للقوات المسلحة انطلاقا من أن تشكيل حكومة جديدة لا بد أن يرافقه تشكيل مجلس رئاسي جديد، وإلى تعويض جملة من الانكسارات التي لاحقته مؤخرا بقرارات كان واضحا أن قيادة الجيش هي التي تقف وراءها.

في الأثناء، تدفع بعض المؤشرات إلى ترجيح عقد لقاء بين حفتر ورئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة، خصوصا وأن جسور التواصل كانت ممتدة في إسطنبول وعمان ودبي بين صدام حفتر ممثلا لوالده رجل الشرق القوي، وبين إبراهيم الدبيبة أبرز الفاعلين في مركز القرار بطرابلس والوصي الفعلي على مسارات الحكم بطريق السكّة. وخلال الأيام الماضية شهدت العاصمة الأردنية اجتماعا “وديا” بين ابن حفتر وعدد من أمراء الحرب وقادة الميليشيات الموالية للدبيبة وهم عبدالغني الككلي ومحمد بحرون وعبدالسلام زوبي ومحمود بن رجب وعبدالله الطرابلسي، الذين انتقلوا إلى عمان في طائرة خاصة وكانوا على تواصل مستمر مع الدبيبة ومساعديه ومستشاريه لتلقي التعليمات، بما يضمن التوصل إلى توافقات تخدم مصلحة حفتر والدبيبة في الإبقاء على نفوذ كل منهما وتنسيق المواقف حول عدد من الملفات المهمة وفي مقدمتها الوقوف في وجه أي محاولة يعتمدها صالح والمشري للسيطرة على موازين اللعبة السياسية في البلاد وتجييرها لمصالحهما دون غيرهما.

لم ينقطع حبل التواصل بين محيطي حفتر والدبيبة، ولعل أبرز اتفاق حصل بينهما هو ذلك الذي أدى في يونيو الماضي إلى الإطاحة برئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله بشكل دراماتيكي، رغم ما كان يمثله من قوة أمر واقع تستند إلى دعم غربي منقطع النظير، وتعيين فرحات بن قدارة بدلا عنه، وساهم ذلك في عودة الحياة إلى مواقع إنتاج وتصدير النفط، وفي تمكين الجيش من رواتب عناصره المتأخرة. وقبل أسبوعين، أعلن عن إطلاق سراح الطيار بالجيش الوطني عامر القجم الذي كان أسيرا لدى ميليشيات الزاوية، ضمن صفقة لتبادل الأسرى، تمت بتدخل مباشر من الدبيبة بعد وساطة قامت بها دولة الإمارات التي قال حفتر إنه لولا دورها ما كان للصفقة أن تتم ولا للقجم أن يعود إلى بنغازي.

◙ من الواضح أن المنفي ليس لديه ما يقدمه لحفتر، وهو أبعد ما يكون عن القدرة العملية على التأثير في مسار توحيد الجيش

المقربون من الدبيبة يقولون إنه لم يعد يرى مانعا من تقاسم نفوذ المستقبل مع الجنرال حفتر، وأن همه الوحيد حاليا هو إفشال مخططات صالح والمشري واستبعاد سيف الإسلام القذافي من المشهد وضمان بقائه في الحكم. فيما أفرزت زيارات متتالية لعدد من المسؤولين الأتراك إلى بنغازي وجهة نظر تتجه أنقرة لتبنيها وتتمثل في عدم الممانعة في إيجاد توافقات بين الدبيبة والتيار الذي يمثله في المنطقة الغربية وحفتر والقوى الموالية له شرق وجنوب البلاد، لاسيما أن مثل هذه الخطوة قد تساهم في حلحلة بعض الملفات الإقليمية وفي طي صفحات الخلافات حول الأزمة الليبية مع عدد من دول المنطقة في مقدمتها مصر.

وفق مقاييس القوة والنفوذ في المنطقتين، فإن حفتر يبقى رجل برقة القوي وهو ما يدركه الجميع في الداخل والخارج، والدبيبة استطاع أن يضع يده على طرابلس بسيطرته على مؤسسات الدولة وخاصة مصرف ليبيا المركزي وبعقده صفقات مجزية مع الميليشيات المسلحة، وعندما يتفق الرجلان فإن كل مشاريع وخطط رئيسي مجلسي النواب والدولة ستذهب أدراج الرياح، لكن أي موقف من حفتر لمساندة صالح والمشري يمكن أن يساعدهما على تغيير الوضع الحالي، ولذلك فإن أطرافا إقليمية تدخلت لتقريب المسافات بين قائد الجيش ورئيس الحكومة المنتهية ولايتها، وسعت إلى كسر الحاجز النفسي بما يهيئ المجال لأي لقاء بينهما مستقبلا، بالدفع نحو لقاء القاهرة بين حفتر والمنفي الذي انعقد الاثنين الماضي.

يبقى أن كل التحركات التي تستهدف ظاهريا حلحلة الأزمة، تبقى مرتبطة بمواقف شخصية لا تخرج عن دائرة مصالح أصحابها المتحولة، ووفق التوازنات التي تشهد بدورها تغيّرا بين الحين والآخر، سواء نتيجة الواقع الميداني أو بسبب التدخلات الخارجية، لذلك فإن الحل السياسي لا يزال بعيدا طالما لم يتم حسم الموقف بخصوص العلاقة بين النفط والمال والسلطة والسلاح، فالنفط تحت سيطرة الجيش، وإيراداته المالية خاضعة لقرار الدبيبة في تحالفه القائم مع محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، والسلطة الأصلية لمن يمتلك قوة السلاح التي يتقاسمها الجيش بقيادة حفتر في شرق وجنوب ووسط البلاد والميليشيات الموالية للدبيبة في غربها.

9