ابن بطوطة معاصرنا

من يلتقي الشاعر محمد أحمد السويدي لا بد أن يتعرف من خلاله على الوجه الآخر لابن بطوطة. الرحالة الإماراتي لا يسير على خطى الرحالة المغربي لكي يسبقه إلى بلدان لم يرها بل ليحل ضيفا على فلسفته التي تقدم الطريق على محطة الوصول.
أحاديث السويدي مشبعة بعطور الشرق، محلقة بأجنحة طيور حكاياته. فحين يحدثك الرجل عن مكان بعيد تشعر أنه كمَن يصف لك واحدة من غرف بيته. غير أن العلاقة بالعالم من وجهة نظره لا تكتمل بالوصف. جزء منها يقع هناك أما الأجزاء الأخرى فإنها تقع في التأثير الذي يتبادله المسافر والعالم. علاقة قائمة على الأخذ والعطاء المعرفيين. فالعالم لن يكون قائما بذاته وهو في حاجة دائمة إلى مَن يكتشفه كما أن المسافر كلما مضى في طريقه شعر بمزيد من الرغبة في فهم ما يحيط به من ظواهر.
علاقة وضعها السويدي قيد التداول حين بدأ مشروعه في “ارتياد الآفاق” منذ ربع قرن. عنوان شعري لم يكن غريبا على الرجل الذي يسيل ترف الشعر العربي من بين أصابعه.
قاس السويدي المسافة بينه وبين ابن بطوطة بزمن الشعر الذي يأخذه غموضه إلى أشد المعاني صفاء ونقاء وأريحية. لذلك فإنه حين يحدثك عن الذكاء الاصطناعي وقد وضعه في خدمة رحلات الطنجي ابن بطوطة فإنما يؤثث المسافة بشغف الشعر الذي حين يُمس تنبعث منه معان، هي ليست صناعة واقعية.
ما قدمه مشروع “ارتياد الآفاق” للمكتبة العربية من كتب يزيد عددها عن 350 كتابا كرست نوعا أدبيا كاد ينقرض في الحياة الأدبية العربية. ولأن السويدي شاعر قبل أن يكون صاحب مشروع فإن رهافة العالم الذي شيده تمر من خلال مدير المشروع، الشاعر هو الآخر نوري الجراح لتنتقل إلى الكُتاب مثل عدوى. ما من كتاب من تلك الـ350 كتابا مؤلفا كان أم مترجما لا يُقرأ. كلها كتب حياة أراد لها السويدي أن تكون رفيقة المسافرين الذين يعيدون اكتشاف العالم، كل واحد منهم بقوة مزاجه.
يعرف السويدي أن العالم قد تغير. تغير كل شيء فيه. زمن ابن بطوطة ليس زمننا. غير أنه يعرف أيضا أن السفر هو السفر. لذلك فإنه على يقين من أن كل مسافر معاصر هو نوع من ابن بطوطة حين يسعى إلى التقاط المعاني التي تستخرجها حكمة أن يكون المرء مسافرا. أكان السويدي حين بدأ مشروعه قد فكر في أن يهبنا مكتبة عن السفر أم أن شغفه الشعري بالسفر دفعه إلى تحريضنا على خوض مغامرة السفر ليكون كل واحد منا ابن بطوطة معاصرا؟ لا أعتقد أن مشروعا ثقافيا فرديا نجح مثلما حدث لمشروع محمد أحمد السويدي الذي ينتقل بنا من أفق إلى آخر.