إيمانويل ماكرون يدخل مرحلة جديدة من التنازلات

طوت فرنسا الأحد انتخابات طويلة أظهرت مشهدا سياسيا جديدا تراجعت فيه شعبية الأحزاب التقليدية وعرف انخراطا أكبر للأحزاب الشعبوية واليسار الراديكالي. ويواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بذلك عدة تحديات سياسية ستقيد فترة حكمه الثانية.
باريس – يرجح محللون أن أيا كانت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية التي عقدت الأحد، يدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرحلة جديدة يقدم فيها المزيد من التنازلات، بعد خمس سنوات من السيطرة بلا منازع منذ أول فوز له في الانتخابات عام 2017.
وحتى لو حصل معسكر ماكرون على 289 مقعدا أو أكثر مما يحتاج لتجنب تقاسم السلطة، فذلك بفضل رئيس وزرائه السابق إدوار فيليب، الذي سيطالب بأن يكون له رأي أكبر في ما يتعلق بقرارات الحكومة.
ويقول مراقبون إن ماكرون وحلفاءه إذا لم يحققوا أغلبية مطلقة بفارق قليل من المقاعد، فقد يميلون إلى استمالة نواب من يمين الوسط أو من المحافظين.
وإذا كان الفارق كبيرا، فسيكون بإمكانهم إما السعي إلى تحالف مع المحافظين وإما إدارة حكومة أقلية سيتعين عليها التفاوض على القوانين على أساس كل حالة على حدة مع الأحزاب الأخرى.
اليسار الموحد بات يشكل للمرة الأولى أكبر تكتل معارض في البرلمان، علما بأن هذا الدور كان يضطلع به اليمين
صوّت الفرنسيون الأحد في الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية بإقبال أكبر مقارنة بالدورة الأولى، في استحقاق تحدد نتائجه هامش المناورة المتاح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في السنوات الخمس المقبلة، في مواجهة يسار موحد الصفوف ومستعد للمواجهة.
ويرى محللون أن عدم فوز الائتلاف الوسطي “معا!” بقيادة الرئيس الفرنسي بأغلبية مطلقة في الجمعية الوطنية (البرلمان)، سيناريو سيدخل البلاد في مرحلة فوضى سياسية لم تشهدها منذ عقود.
ويشير هؤلاء إلى أن الرئيس سيجد نفسه مضطرا إلى البحث عن دعم ضمن كتل سياسية أخرى لتمرير مشاريع القوانين التي يقترحها، وهو ما يزيد حالة الاحتقان السياسي، في وقت يعارض فيه اليسار أجندات ماكرون الإصلاحية ويسعى لإجهاضها، خاصة في ما يتعلق بإصلاح نظام التقاعد وملف الضرائب.
وفي الدورة الأولى حلت الغالبية الحالية “ائتلاف الرئيس” في المرتبة الأولى مع حصولها على 26 في المئة من الأصوات، مسجلة نتيجة متقاربة جدا مع تحالف اليسار “نوبس” بقيادة جان لوك ميلانشون.
ونجح هذا الأخير في رهانه على جمع شمل الاشتراكيين والمدافعين عن البيئة والشيوعيين وحركته “فرنسا الأبية” التي تنتمي إلى اليسار الراديكالي.
ويسعى اليسار الموحد للمرة الأولى منذ عقود إلى فرض “مساكنة” على رئيس الدولة، إذ إنه بات يشكل أكبر تكتل معارض في الجمعية الوطنية، علما بأن هذا الدور كان إلى الآن يضطلع به اليمين.
ومن القضايا المهمة التي تركز عليها الانتخابات تحسين قطاعي التعليم والرعاية الصحية، في حين يأمل الكثيرون في أن تساعد الحكومة في مسألة ارتفاع الأسعار وتتخذ إجراء أكثر صرامة تجاه التغير المناخي. كما يريد ماكرون تمرير إصلاح مثير للجدل خاص بالمعاشات من شأنه رفع سن التقاعد.
وفي المرحلة الأخيرة قبل الاقتراع، سعى ماكرون الذي زار كييف للمرة الأولى الخميس إلى التشديد على أهمية الرهان، بقوله إن النزاع في أوكرانيا يؤثر على حياة الفرنسيين اليومية، مؤكدا “الحاجة إلى فرنسا أوروبية فعلا يمكنها الحديث بصوت واضح”.
وتحدث عن التهديد الذي يشكله “المتطرفون”، الذين إن فازوا في الانتخابات سيزرعون “الفوضى” في فرنسا، متهما إياهم أيضا بالعزم على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
ويضع هذا الاقتراع حدا لسلسلة انتخابات طويلة شهدتها فرنسا، أظهرت مشهدا سياسيا جديدا في البلاد حول ثلاث كتل رئيسية على حساب الأحزاب التقليدية، كان بدأ يرتسم مع انتخاب ماكرون رئيسا في 2017.
وتوجه الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع ما لا يقل عن أربع مرات في غضون سنتين، في أجواء توتر بسبب أزمات متتالية، لاسيما جائحة كوفيد – 19 والحرب في أوكرانيا والتضخم والتهديدات التي تحدق بالاقتصاد.
وأما الرهان الثاني في انتخابات الأحد فهو صعود اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان التي بلغت الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في العامين 2017 و2022. ويأمل حزبها “التجمع الوطني” في الحصول على 15 نائبا لتشكيل كتلة في الجمعية الوطنية.
ماكرون وحلفاءه إذا لم يحققوا أغلبية مطلقة بفارق قليل من المقاعد، فقد يميلون إلى استمالة نواب من يمين الوسط أو من المحافظين
وأظهرت أولى النتائج الواردة من مقاطعات ما وراء البحار خسارة سكرتيرة الدولة لشؤون البحار جوستين بينان في غوادلوب، أمام مرشح اليسار كريستيان باتيست.
وتطبيقا لقاعدة غير مكتوبة بدأ ماكرون تطبيقها في العام 2017، سيتعين على بينان التي عيّنت مؤخرا التخلي عن منصبها الحكومي.
ويمكن أن ينطبق هذا الأمر على وزراء آخرين، بينهم كليمان بون (أوروبا) وأميلي مونشالان (التحول البيئي) والأمين العام للحزب الرئاسي ستانيسلاس غيريني (الخدمات العامة)، الذين خاضوا منافسات محتدمة في مواجهة اليسار في منطقة باريس.
وفاز ماكرون بولاية ثانية في أبريل، ويريد رفع سن التقاعد ومواصلة أجندته المؤيدة للأعمال التجارية وتعزيز الاندماج في الاتحاد الأوروبي.
وجرت العادة أنه بعد انتخاب الرئيس، يستغل الناخبون الفرنسيون الانتخابات التشريعية التي تلي ذلك بأسابيع قليلة، لمنح الرئيس أغلبية برلمانية مريحة، وكان الرئيس الراحل فرانسوا ميتران هو الاستثناء النادر لهذا الأمر في عام 1988. ويرسم التضخم المتفشي الذي يرفع تكلفة المعيشة موجات صادمة عبر المشهد السياسي الفرنسي.