إيفيت أشقر.. رسامة التغير المستمر القائم على النسيان

تأثر الفنانة اللبنانية الراحلة بالفن التجريدي الغربي أكسبها حرية تنسجم مع روحها المتمردة ومزاجها المتقلب دون أن تتخلى عن روحانيتها.
الأحد 2024/05/19
ما من لوحة من لوحاتها تشبه الأخرى

عن 96 عاما رحلت الفنانة اللبنانية إيفيت أشقر عن عالمنا قبل أيام. في سنواتها الأخيرة كانت تردد أنها تنتظر الموت لأنها لم تعد قادرة على الإنتاج. الرسامة التي أضفت على الحداثة الفنية في بلادها طابعا انفتحت من خلاله على العالمية كانت في الوقت معلمة أجيال من الفنانين. وهي آخر الكبار من جيلها. فمَن هي إيفيت أشقر؟

جيل الحداثة الثاني

في مطلع ستينات القرن الماضي ظهر في لبنان جيل فني جديد جلبت رغبته في تجديد الأساليب الفنية حيوية مختلفة إلى الحياة الثقافية الحافلة بالأمل. كان ظهور ذلك الجيل بمثابة نهاية لمرحلة مهمة عمادها التأسيس للحداثة الفنية والبدء بمرحلة جديدة كان البحث المتأني والجريء في تنويعات وتجليات الفن التي لا تحصى هدفها ووسيلتها لخلق فن جديد. وهو ما جعل تجاور الأساليب والمدارس الفنية أمرا ممكنا بل ومطلوبا لذاته.

بوكس

من رموز ذلك الجيل يمكننا أن نذكر: عارف الريس (1928) وحليم جرداق (1927) وشفيق عبود (1926) وإيلي كنعان (1926) وميشال بصبوص (1921) وسلوى روضة شقير (1919) وفريد عواد (1924) وبول غيراغوسيان (1962). جيل من الفنانين الذين قدر لكل واحد منهم أن يكون في ما بعد علامة شاخصة في تاريخ الفن التشكيلي في لبنان.

كان من حسن حظ إيفيت أشقر أن تكون ابنة ذلك الجيل المغير.

الأنوثة بوقعها الشاعري

ابنة ساوباولو (البرازيل) التي ولدت هناك عام 1928 ودرست الفن في الأكاديمية اللبنانية (ألبا) وجدت نفسها منذ البدء في مواجهة اختبار حقيقي. فقد كان ظهورها فنيا في تلك الحقبة المكتظة بالفنانين الحداثويين والساعين وراء التحول قد وضعها في مواجهة تحد، لم يكن من اليسير اختراقه.

 لم يكن السؤال الرئيس يومها “كيف نرسم؟” فقد كان سؤال الحرفة والتمكن والإتقان محسوما. كان السؤال الملح يومها “كيف يتمكن الفنان من أن يكون طليعيا؟” وهو سؤال يمكن تبسيطه “لماذا نرسم؟” لقد اختط كل واحد من أبناء ذلك الجيل الذي كان يهذي بالعالمية الطريق التي يظن أنها ستصل به إلى هدفه، وكان أن اختارت إيفيت أن تتخذ من الأسلوب التجريدي طريقا لها لتصل من خلاله إلى التعرف على العالم الذي تراه والتعريف به من خلال إيقاع شاعري أضفت عليه الأنوثة الكثير من رقتها وصفاء حكمتها.

لقد صنعت أشقر عالما لا شكليا تستحضر مفرداته لغة تكاد أن تكون غائبة لشدة شفافيتها. وكما أرى فإن ظهور إيفيت أشقر وروضة سلوى شقير في تلك الحقبة التاريخية كان قد شكل مؤشرا على تقدم وعي المجتمع اللبناني ورقي هواجسه الحضارية.

يومها بدا واضحا أن المجتمع قد تحرر من قيود كثيرة، بحيث صارت المرأة تلعب دورا طليعيا في صنع ذائقته الجمالية وتحولاته الثقافية.

• فنانة تفوقت على معلميها الأوروبيين
فنانة تفوقت على معلميها الأوروبيين

ولم تخف إيفيت تأثرها بالتجارب التجريدية الرئيسة التي صنعت منعطفات أساسية في تاريخ الفن الغربي، وهو ما لم تجده مناقضا لشغفها بالفن الشرقي، بنزعاته وميوله التجريدية.

من بين التجريديين الكبار كان أثر هارتونغ ونيقولا دو ستايل وسولاج واضحا على أعمالها. فهي مثلهم اختارت أن تهدم الشكل ولا تكترث بالموضوع، ولم يشغلها شيء بقدر ما شغلها الإنصات إلى الموسيقى التي تنبعث من الداخل. كان السطح لديها يمتلئ ويفرغ عبر عمليات الإضافة والحذف تبعا لانفعالها بالوقائع اليومية التي تكتسب حين تمر بيدها الملهمة الكثير من الإبهام الذي يضع المتلقي في مواجهة معان افتراضية متعددة.

عن طريق الموسيقى ذهبت إيفيت إلى احتمالات الشكل التي لا تحصى. وهو ما أضفى على رسومها قدرا هائلا من الحساسية التي تستجيب لأمزجة مختلفة. كان لدى الرسامة ما يجعلها قادرة على استشعار ولادة الشكل قبل أن تقدم على هدمه. لذلك تتحرك رسومها بخفة بين الهدم والبناء في جدل غير سكوني، يمتحن المتلقي من خلاله قدرته على الإبقاء على لذة المشاهدة، كما لو أنها تتجدد كل لحظة.

رسوم إيفيت أشقر تتجدد كل لحظة نظر.

أكسبها تأثرها بالفن التجريدي الغربي حرية تنسجم مع روحها المتمردة ومزاجها المتقلب، غير أنه لم يقطع الدرب عليها في اتجاه ما كانت تعتبره قاعدة روحية لها. تراث الشرق الذي يمكنها الالتفات إليه واستيعاب جمالياته من مواجهة الفكر المادي الذي صار يهيمن على وصف الأشياء وتركيب المفاهيم بطريقة عقلانية جافة.

كان هناك الكثير من العاطفة في دفاعها عن عالم، تكون فيه الروح حاضرة ميزانا، يمكن من خلالها المضي بالأشكال إلى مستقرها اللاشكلي. في كل ما فعلته هناك دهشة كلاسيكية تسيج المرئيات برفعتها. يشعر المرء وهو ينظر إلى لوحاتها بأنها بعد أن هضمت كل دروس الطبيعة صارت تستعمل ما ألهمتها تلك الدروس من حالات متضادة في صناعة عالمها الذي يهمها أن يقف باعتداد إلى جوار عالمنا.

نجاتها من تقليد الطبيعة صوريا لم يكن القصد منها الهروب من قوانين الطبيعة. في رسوم إيفيت أشقر تعيد الطبيعة تأثيث ذاتها.

ترسم لتتذكر

• كل لوحة لها عالم خاص
كل لوحة لها عالم خاص

لا تكرر إيفيت أشقر نفسها. ما من لوحة من لوحاتها تشبه الأخرى. أعتقد أنها في ذلك تفوقت على معلميها الأوروبيين. هل تستخرج الفنانة رؤاها البصرية من عدم لا يكرر صوره؟ تستلهم الفنانة الواقع وهي في الوقت نفسه تتجرد منه. معجزة فنها تكمن في أنها نجحت في تحويل انفعالاتها بما يجري من حولها إلى مواجهات تقود إلى عالم، لا يمكن المرور إليه إلا من خلال تنظيف التأثير من أسبابه.

قوة ذلك العالم تقع في قدرته على فرض احتمالاته الجمالية. لم تمارس إيفيت أشقر التجريد باعتباره تقنية لتخفيف العبء عن العالم، بل مارسته باعتباره خلاصة روحية، يمكننا من خلالها فهم الطبيعة الداخلية لذلك العالم. ولأنها اعتبرت العالم من حولها مجالا حيويا فقد ارتأت أن لا تفارقه إلا مظهريا.

بوكس

جوهر عملها يقع في اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان العالم. لقد لعب الزمن دورا أساسيا في تكوين مفاهيم أشقر بما يتعلق بصلة الإنسان بالعالم الذي لم يعد مكانا مطلقا. كانت ترسم لتتذكر ولكن بأسلوب تجريدي.

التجريد وحياتها

مريح فن إيفيت أشقر. هناك زهد واضح في الألوان والأشكال والمساحات. كل ما يمكن أن يقع يحظى بالرضا والقبول، ذلك لأن توتر السطح قد لا يسمح لأي شيء بالظهور. عالم هذه الرسامة مكتظ بكائناته التي لا تسمح لها مشاعرها المتدفقة بالظهور. شيء يمكننا أن نفهمه حين نقيم مقاربة يعجز المرء عن التعبير بالكلمات عنها بسبب ذهول يصيبه فجأة.

بالرغم من أن إيفيت لا ترسم مرتجلة فإنها سعت إلى أن تبقي تلك الـ”فجأة” قوية وصلبة كما لو أنها وقعت لتوها. رسوم أشقر تفاجئ بعفوية جمالها كما لو أنها رسمت للتو. عام 2004 نجحت نادين بكداش في أن تقيم معرضا استعاديا لإيفيت أشقر في قاعتها “جنين اربيز” ببيروت. المفاجئ في ذلك المعرض أنه لم يبد استعاديا. بدت اللوحات كما لو أنها رسمت من أجل إقامة معرض شخصي جديد.

جديدة إيفيت أشقر دائما. لا لأنها لم تتكرر فحسب، بل أيضا لأنها لا تفرض على متلقي أعمالها طريقة أحادية في النظر. إنها تحترم حرية المشاهد الذي سينظر باحترام إلى حريتها. بالنسبة إلى إيفيت أشقر فإن الحرية رسالة. لذلك فإنها تسعى من خلال كل ما تفعله إلى تحرير مشاهدها من التعلق بالصورة. “عليك أن تنساها لتكون لديك صورتك الخاصة عن العالم” تلك هي وصيتها. وهي الوصية التي يتعلم المشاهد من خلالها شيئا من أسرار الفن التجريدي. ذلك الفن الذي أخلصت إليه إيفيت أشقر ووهبته حياتها.

 

8