إيفلين عشم الله تتبع الخيط الذي يصل إلى طفولتها

ابنة الحياة المصرية في نبوغها.
الأحد 2022/09/25
الفنانة عالمها طفولي مفعم بالبراءة والنقاء

ليس من اليسير تعريف عبارة مثل "الحياة الشعبية في مصر". لا جدوى من التساؤل "ما الذي تعنيه تلك العبارة؟" تلك حياة لا تشمل الحاضر بل تزيح طبقات من التاريخ الذي كتب المصريون من خلاله سيرتهم الذهنية والبصرية ودائما من خلال الحكاية.

ما من شعب يجيد تحويل الأشياء إلى حكايات مثل المصريين، تسأل المصري عن شيء ما فيقول لك "دي حكاية". حكاية تُروى بمتعة وبقدر هائل من التشويق لما يتخللها من إعجاز خيالي حتى توهّم البعض أن بعضا من حكايات الليالي العربية يعود إلى أصول مصرية.

الرسامة المصرية إيفلين عشم الله عنونت آخر معارضها عام 2021 بـ"الكلام الذي لا يُقال"، تقصد الصورة التي هي ليست توضيحا ولا شرحا ولا استكمالا للكلام بل هي الكلام الذي تعجز اللغة المتاحة عن نقله فتقوم لغة الصورة بنقله. إنها حكاية لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال الصورة.

تزيح الصورة الكلام لتحل محله. تضع العين اللسان في خدمتها وتجعله يعيد النظر في الحكاية كما لو أنها لم تقع في الواقع. للصورة واقعها المستلهم من خيالها.

في الكلام الذي لا يُقال

 ◙ الفنانة تتيح لصورتها حرية أن تتسع بخيالها وترمم المواقع التي انهدمت منها
 ◙ الفنانة تتيح لصورتها حرية أن تتسع بخيالها وترمم المواقع التي انهدمت منها 

تكمل الفنانة المحاولة التي بدأتها جاذبية سري وتحية حليم لكن عن طريق التخلي عن الوصف المقتضب، فهي تتيح لصورتها حرية أن تتسع بخيالها وترمم المواقع التي انهدمت منها وتملأ الثغرات التي تُركت مهملة وهي تفعل ذلك من أجل أن تكتمل الحكاية التي عجز الكلام عن نقلها كاملة. وهو ما يستجيب لغموض تعبير "الحياة الشعبية في مصر" الذي يظل متعاليا على الفهم بقوة إبهامه التي يعبر عنها تعدد معانيه.

عشم الله رغبت في الخروج على التقليد المصري الذي كان صارما وهو يصور الحياة المصرية

يمكن القول إن ما من رسم حديث في العالم العربي نجح في أن يفرض هويته مثلما فعل الرسم الحديث في مصر. هل فعل المصريون ذلك عن وعي مقصود؟ نعم منذ البدايات التي سبقت محمود مختار، ولكن طبيعة الحياة في مصر كان لها تأثير ضاغط أيضا.

فلأن المصريين حكائيون ولأن الحكايات تقبل دائما من الريف فقد استغرق الرسم الحديث في مصر في الحياة الريفية فكان الرسامون قريبين من الأرض. غلبت على باليتة الرسم المصري الأصباغ الأرضية. إيفلين لم تكن بعيدة عن ذلك بالرغم من أنها حاولت أن تعبر عن سعادتها بالرسم من خلال إضافة أصباغ زاهية كما لو أن أطفالها يحتفلون بالعيد.

لقد رسمت عشم الله كالأطفال لأنها رغبت في الخروج على التقليد المصري الذي كان صارما وهو يصور الحياة المصرية. شيء من العبث يمكنه أن يقلب الحكاية ليتحرر الرسم من صرامته. وهو ما فعلته إيفلين عشم الله.

ولدت إيفلين عبدالله إسكندر حنا في مدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ. عام 1973 تخرجت في كلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية. عملت صحافية في مجلة "روز اليوسف"، ثم عُينت عام 2000 مديرة لمتحف الفن المصري الحديث، وقبله عملت مديرة لمتحف محمد ناجي بالهرم.

هوية فنية بأصباغ الطين

◙ عشم الله لا تزال ترسم الناس الذين رأتهم في مختلف مراحل حياتها مستعينة بذاكرة تجمع بين الإنسان والكائنات الأخرى
◙ عشم الله لا تزال ترسم الناس الذين رأتهم بمختلف مراحل حياتها مستعينة بذاكرة تجمع بين الإنسان والكائنات الأخرى

أقامت عام 1976 أول معرض شخصي لها وذلك في أتيليه القاهرة. بعده أقامت أكثر من عشرين معرضا شخصيا إضافة إلى مشاركتها في عشرات المعارض الجماعية المصرية والعالمية.

قال عنها الفنان الرائد حسين بيكار "إن عالم الفنانة إيفلين عشم الله طفولي مفعم بالبراءة والنقاء، غير أن طفولتها ليست ساذجة، حيث تتسم لغة التعبير والتناول بأستاذية ووعي كاملين لكل ما يسقطه خيالها فوق السطح. فاجتمعت البراءة والحكمة على سطح واحد". ذلك ما يعيدنا إلى ما تردده الفنانة دائما.

تقول عشم الله "عشت جزءا كبيرا من طفولتي مع الفلاحين ووسط الحقول والمزارع في قرى دسوق بدلتا مصر. عشت بصحبة الكثير من الكائنات من حيوانات وحشرات وطبيعة بكر ساحرة. إن تلك الفترة ما زالت حاضرة في وجداني وأستوحي منها الكثير في أعمالي فأرسم الطبيعة والحقول وأعشاش الطيور فوق المنازل الريفية".

لا تزال يد تلك الطفلة تستحضر وجوه أفراد عائلتها الريفية بكل ما تحمله من تعبير عن زمن سعيد عاشته بخفة

تلك الطفلة لا تزال ترسم الناس الذين رأتهم في مختلف مراحل حياتها مستعينة بذاكرة تجمع بين الإنسان والكائنات الأخرى التي وهبتها القدرة على منح الحكايات التي سمعتها طابعا مرحا يجمع بين الواقع والخيال.

لا تزال يد تلك الطفلة تستحضر وجوه أفراد عائلتها الريفية بكل ما تحمله من تعبير عن زمن سعيد عاشته بخفة. رسومها هي نتاج ذاكرة تجمع بين الوجوه التي عرفتها والوقائع التي عاشتها والطقوس الاحتفالية الجماعية التي شاركت فيها والحكايات التي وهبتها أبطالا خارقين ووقائع سحرية هي أشبه بالمعجزات.

لا ترسم كالأطفال الذين في رسومها، ترسم الأطفال باعتبارهم شهودا على ما رأته. غير أنها لا تستثني ما ستراه من ذلك. غالبا ما لا تخلو لوحاتها من طفل ما. أحيانا تحاكي الأطفال غير أنها  ترسم مثلهم. ليس هناك ما يقلقها في ذلك المجال.

أسلوبها في الرسم يسمح لها بالقيام بذلك. إنها رسامة تشخيصية حرة غير ملتزمة بالتقاليد الأكاديمية. لكنها تتبع رؤيتها التي تسمح للطفل الذي يعينها في التذكر أن يمد يده ليرسم معها.

بالتأكيد لا تلجأ عشم الله إلى رسوم الأطفال لتتعلم منها. عالمها مختلف تماما. فهي جزء من مدرسة مصرية يمكن التعرف عليها في رسوم العديد من الرسامات والرسامين المصريين الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة.

يتشابهون في المفردات وأسلوب المعالجة وأيضا وهو الأهم في طريقة التفكير في الفن. إنه جيل مستغرق في محليته وهو ما لم تنكره الفنانة في أكثر مراحلها اكتمالا، فهل سيُقال في وصفها إنها "رسامة ريفية أم رسامة مصرية؟".

مصر الحاضرة

◙ ليس صحيحا ولا مقبولا أن نقول إنها رسامة ريفية من مصر
◙ ليس صحيحا ولا مقبولا أن نقول إنها رسامة ريفية من مصر

ليس صحيحا ولا مقبولا أن نقول إنها رسامة ريفية من مصر. فالتعبير بقدر ما يُساء فهمه بقدر ما هو مخالف لحقيقة تاريخية كان الرسامون المصريون قد عملوا على تأكيدها، جيلا بعد جيل.

الرسم المصري الحديث في كل  مراحله وبمختلف أنواعه كان قريبا من الشعب بطين مزارعه وخرافات حكاياته وتنقله ما بين الخيال والواقع. وهو ما لم يفعله الرسم الحديث في أيّ مكان آخر من العالم العربي.

إيفلين عشم الله هي ابنة تلك الظاهرة. لا يمكنك أن ترسم مصريين من غير أن تفهم أغانيهم وتنصت بشكل عميق إلى حكاياتهم وترود عالم أسرارهم. كل ذلك لا تحتاج الفنانة إلى أن تتذكره. ذلك لأن كل شيء في عالمها الفني هو صنيع التراث الشعبي المصري.

هل المشكلة تكمن في أن يكون المرء مصريا؟ تجيب عشم الله على ذلك السؤال برسوم سيجد فيها المصريون الشيء الكثير الذي يذكّرهم بحياتهم بل ويضع تلك الحياة طازجة بين أيديهم. ذلك ما يجب أن يخلص إليه الرسم. مصر حاضرة بقوة تراثها الشعبي في رسوم إيفلين عشم الله.

 

9