إيفان نافارو فنان النيون والمرايا الخادعة للبصر

من برامج “فضاء مئة وأربعة” بباريس معرض يتواصل حتى نهاية مارس القادم يقيمه على شرف الفنان الشيلي إيفان نافارو، الذي يستخدم الفيديو وعناصر ضوئية وصوتية لخلق لوحات ومنحوتات وكواكب تلتحم فيها الأجسام الأرضية والسماوية.
تمت برمجة معرض الفنان الشيلي إيفان نافرو “بلانيتاريوم” انطلاقا من شهر فبراير الجاري وحتى موفّى شهر مارس القادم، ولكن المشرفين على “فضاء مئة وأربعة” بباريس استعاضوا عنه بعرض افتراضي بسبب الحجر الصحي وحظر الجولان، حتى لا يقطعوا صلتهم بجمهورهم، ولا يحرموهم من مشاهدة آخر أعمال هذا الفنان العالمي.
وولد إيفان نافارو عام 1972 في شيلي، ونشأ في ظل دكتاتورية أوغستو بينوشي، وكان لذلك أثر عميق في مسيرته واختياره وسائل تعبير محدّدة، سواء في منحوتاته باستخدام أنابيب النيون أو الأثاث الواهم.
ويأتي اهتمامه بالكهرباء ممّا عاناه في حياته بمدينته، حيث اعتاد على تعمّد حكومة بلاده قطع الكهرباء لإرغام الناس على ملازمة بيوتهم، لعزلهم عن كل تحرك نقابي أو سياسي، فكانت السيطرة على الكهرباء بمثابة سيطرة على الناس ووسيلة لشلّ معارضتهم.
وكان نافارو ينوي في البداية دراسة السينوغرافيا المسرحية، ولكن طلبه لم يلق القبول، فاضطر إلى دراسة الفنون الجميلة، مع مواصلة ممارسة هوايته في تصور السينوغرافيا والإضاءة للمسرح.
وفي العام 1997 هاجر إلى الولايات المتحدة بعد أن حاز شهادة باشلور من كلية الفنون الجميلة التابعة للجامعة البابوية الكاثوليكية بسانتياغو، واستقر منذ ذلك التاريخ بنيويورك، حيث يعيش ويعمل.
ينتمي نافارو إلى جيل من الفنانين اشتغل منذ التسعينات على إعادة العلاقة بين الحداثة والمعاصرة عن طريق الاستئناس بتجارب أكثرِ طلائعيّي الفنِّ الحديث مغامرةً كالتجريدية الهندسية والبنائية والفن الملموس والتقليلية والفن البصري والديزاين الأميركي، إضافة إلى التفرّعات اللاحقة لكل تلك التجارب. ثم انتهى إلى تفضيل المرجعية الفورية على الشكلانية الحديثة بتحويل مواد بسيطة إلى أشكال مشعّة، بعد إخراجها من طورها العادي.
وبذلك بدأ يقدّم ما أسماه النقاد “باروديا” الرسم الفني، فابتكر منحوتات مضيئة ومعقّدة، وطوّر مفهوم تحويل الطاقة، وصنَع أشياء وأنصابا مخصوصة باستعمال مواد المعيش اليومي، وخلقَ وضعيات تكشف عن مسارات تحويل حقيقية، وكانت الكهرباء في كل أشكالها وسيلته المثلى. ولئن كان استعماله للإمكانات الطاقية الضرورية لتشغيل آلات صناعية ومنزلية، فإنه يذكر بالحالات اللاإنسانية التي تستخدم فيها في وطنه الأصلي، وفي البلد المضيف، أي الولايات المتحدة.
ويتجلى ذلك مثلا في عمله “برج الماء” حيث استخدم النيون والمرايا ليحدث مشهدا يمتد إلى ما لا نهاية، وفي ذلك تعبير عن خوفه صغيرا من المتاهات والدهاليز المعتمة. مثلما يتجلى في ما أسماه “اجلِسْ تمُتْ” وهو عبارة عن كرسي طويل صنعه بأنابيب نيون بيضاء أراده استعارة للكرسي الكهربائيّ الذي يُعدم فيه المحكوم عليهم عن حق أو باطل، ولاسيما أن النظام الشيلي في ذلك الوقت كان يستخدم الكهرباء كوسيلة مثلى لتعذيب المساجين.
ولكنه لجأ إليه مرة ثانية في الولايات المتحدة حين كتب على كرسي مماثل قائمة تضمّ أسماء من أعدِموا بتلك الطريقة في ولاية فلوريدا. كذلك “السلّم الإجرامي” الذي يعلو مقدار ثلاثين قدما، وكان صاغه باستخدام أنابيب مشعّة كتب عليها أسماء كل من انتهكوا حقوق الإنسان في عهد الدكتاتور بينوشي.
اشتهر نافارو إذن بمنحوتاته التي يصنعها من أنابيب النيون، وتحويله الموجودات بشكل يخدع البصر. وفي هذا المعرض الذي استوحاه من شريط وثائقي لباتريسيو غوزمان عنوانه “الحنين إلى القمر”، ركّز تأمله على آليات السلطة في علاقتها بالألغاز الميتافيزيقية والفيزيقية، وبالتاريخ والهوية والذاكرة الجمعية.
وإذ يضع الطبقات الزمنية والمادية فوق بعضها بعضا، يحاول أن يجد صلة بين الأجسام السماوية والأجسام الأرضية لفضح ما أسماه “الإرهاب السياسي” المتواصل في كل آن.
وكان مسكونا بتجربته التي عاشها تحت الدكتاتورية، ومن ثمّ كان عمله يجمع بين المرجعية الفنية والالتزام السياسي، فالإضاءة لديه وكذلك الخدع البصرية والاشتقاقات اللغوية التي يلمّح بها إلى أسماء وأدوات كلها وسائل لتحويل الفضاء، وتغيير النظرة، وإثارة مسائل السلطة والتحكم والمراقبة. ولئن بدت أعماله لغير العارف جميلة مسلّية تسرّ الناظرين، فإنها في الواقع تتوسّل بأكثر ثيمات تلك الفترة ظلامية كالتعذيب والسجن والهيمنة والدعاية، إضافة إلى التفاوت بين الشمال والجنوب، الذي وقف على حقيقته حين انتقل إلى الولايات المتحدة.
في هذا المعرض يأخذ نافارو المتفرج إلى فسحة شاعرية عبر مناظر كونية، حيث الكواكب والسُّدُم والخسوف، وألواح عريضة من الزجاج المضاء تنفتح كالنوافذ نحو الفضاء السرمديّ. تلك الخرائط المتخيلة، المذهلة والمحيّرة في الوقت ذاته، تدفع المشاهد إلى التساؤل عن حدود الفلك وتمثلاتنا الذهنية عنه، وتصوّرنا لبقاء العالم أو زواله، ولاسيما أن بعض الأعمال مثل “شظية” توحي بانفجار القنابل الانشطارية، علاوة على السراب الذي يخفي في طياته ما لا يسر.
وعن احتفائه بالنجوم يقول نافارو “النجوم نور يهدي السراة في عمق الصحراء، أو رموز ترصّع الأعلام الوطنية بفخر واعتزاز، رافقت البشر في حلهم وترحالهم وفي أسئلتهم الوجودية منذ غابر الأزمنة”.