إيران تحاول تعويض خسائرها السياسية من خلال الأدب العربي والفعاليات الثقافية

جاء إعلان إيران عن نيتها تأسيس مهرجانين شعريين يعنيان بالشعر العربي والشعر البلوشي ليثير العديد من التساؤلات لدى الإيرانيين العرب، ولدى شعراء ونقاد عرب، يرى البعض منهم أن هذه الدولة الناطقة بالفارسية والتي اضطهدت عشرات الشعراء العرب في السنوات الماضية تسعى من خلال الأدب العربي إلى تعويض خسائرها السياسية في المنطقة.
طهران - تتجه إيران إلى التركيز أكثر على تعزيز نفوذها على المنطقة العربية عبر القوة الناعمة، وهذه المرة عبر بوابة الشعر العربي الذي وإن تراجعت شعبيته قليلا في المنطقة إلا أنه لا يزال شديد التأثير في الشعوب وبإمكانه أن "يزين" صورتها بينها. وأعلنت طهران على لسان وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي محمد مهدي إسماعيلي أواخر يناير الماضي تحضيراتها لتنظيم مهرجانين الأول للشعر العربي والآخر للشعر البلوشي.
وأكدت تصريحات الوزير اهتمام وزارة الثقافة بالشعر والأدب، انطلاقا من أن الشعر يلعب دورا رائدا في المجتمع الإيراني وأن هوية الشعب الإيراني مرتبطة بالشعر والأدب. وتابع إسماعيلي "على الرغم من أن اللغة الفارسية هي رمز لهوية إيران، فإننا نستخدم لهجات ولغات مختلفة".
وجاء إعلان إيران بالتزامن مع إدراك النظام تراجع شعبيته في المنطقة، خاصة بالتزامن مع الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة وتعالي الأصوات العربية المستنكرة لمواقف إيران وحلفائها في المنطقة العربية تجاه حركة حماس، التي تصنف ضمن حلفائها أيضا. وفي حين اُنتظر من إيران الدخول في حرب ومواجهات حادة مع إسرائيل، اختارت الأخيرة النأي بنفسها عن الحرب.
الشعر ليس أولى البوابات التي تفتحها إيران على العالم العربي، وإنما جعلت من منطقة الشرق الأوسط مجالا لممارسة نفوذها من الخليج العربي إلى أفغانستان المجاورة مرورا ببلاد الشام، وقد ركزت مجهوداتها دائما على أنشطة القوة الناعمة الهادفة إلى توسيع نطاق هذا النفوذ، وأيضا إلى وضع حدّ للتطلعات الأميركية والعربية المعادية لها على حد سواء، مستندة أساسا إلى الانقسام السني - الشيعي المتواصل في الشرق الأوسط، بدعم إنتاج أعمال درامية من أفلام ومسلسلات. مثلما كانت المسلسلات التركية التي انتشرت في الشرق الأوسط وفي منطقة البلقان، في السنوات الماضية جزءا من القوة الناعمة التي تستعملها تركيا لتحسين صورتها بين شعوب المنطقة.
ويبدو أن إيران تتجه إلى الاستثمار في المهرجانات الناطقة باللغة العربية والتي تدور في فلك الفنون العربية لتحسين صورتها بين شعوب الدول العربية، مستثمرة في حالة الفرقة والغضب الشعبي التي تروج لها بعض الجهات ضد الأنظمة السياسية العربية “العاجزة” عن إيقاف معاناة قطاع غزة المحاصر منذ عقود من قبل إسرائيل، في حين تظهر إيران مساعدة واضحة لحركة حماس.
استثمار في المهرجانات
ويستغرب أن مثل هذه المهرجانات ستقام في بلد لغته الفارسية هي اللغة الأولى ويرفض نظامه السماح بانتشار اللغة العربية في مجتمعه رغم أنها لغة الإسلام، ورغم أنه يعلم أبناءه اللغة لكنه يعلمها لهم بضوابط لا تتعدى حدود فهم النص القرآني.
ويتضح إدراك إيران لقدرة القوة الناعمة على خدمة سياستها الخارجية في تصريحات كثيرة لكبيري المسؤوليين فيها، حيث قال علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري السياسة الخارجية للمرشد الأعلى علي خامنئي، صراحة، في تصريحات قديمة له إن “تأثير إيران في القوة الناعمة يساعد على نشر الإسلام (الشيعي) في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الصين والهند والعالم العربي".
وتتعدد مصادر القوة الناعمة لإيران في المنطقة، لكنّ أبرزها هو المصدر الثقافي. وخلال السنوات الماضية انتشرت مسلسلات دينية إيرانية أشهرها ربما هو مسلسل النبي يوسف، حيث انتشرت تلك المسلسلات في الوطن العربي بفعل قبول اللهجة السورية، ونجاح عملية الدبلجة التي اتجهت إلى دبلجة أعمال تركية أيضا تصنف هي الأخرى في خانة توظيف تركيا لقوتها الناعمة.
وتعالت آنذاك بعض الأصوات المنادية بوقف إنتاج مثل هذه المسلسلات لما تشكله من تأثير سلبي على الدراما العربية إلى جانب عدم احترامها لقيم العالم الإسلامي السني، مثل إبدائها انفتاحا سلوكيا كبيرا وتعمدها تجسيد الأنبياء وهو أمر يحرمه أهل السنة. ويرى المراقبون للشأن الإيراني أن الاهتمام بالقوى الناعمة وتوظيفها لخدمة السياسات الخارجية للدول هو نوع من "دس السم في العسل"، ويصنف ضمن ما يطلق عليه "الحرب الناعمة" التي تهدف من ورائها الأنظمة إلى توسيع نفوذها وشعبيتها في مناطق بعينها.
ومصطلح “الحرب الناعمة” أطلقه أول مرة جوزيف ناي مساعد وزير الحرب الأميركي في عهد بيل كلنتون في كتابه الشهير "القوة الناعمة"، و"هي أحد أشكال الحروب اللاعسكرية، التي تهدف إلى تغيير الهوية الثقافية ‘للعدو’ بالإقناع بدل الإرغام واستعمال القوة". ويقول الباحث بالشأن الإيراني حسن راضي، في تصريحات لـ"العرب" إن "طهران تعي جيدا أهمية القوة الناعمة خاصة الشعر والشعراء الذين لهم مكانة كبيرة في المجتمعات وتحديدا المجتمعات العربية لذلك تحاول كسب و’شراء’ مواقفهم لما لهم من دور وتأثير في المجتمعات والعقول وثقافاتهم بشكل عام".
ويشرح راضي "إذا نأخذ الساحة العربية أولا، أعتقد أن هذه التحركات من طهران تأتي بعد أن ضربت سمعة إيران ومكانتها وتراجعت كثيرا في الوطن العربي وخاصة بعد اندلاع الحرب على قطاع غزة منذ أكتوبر الماضي، والتي كشفت وجه إيران الحقيقي. والمراقب للشأن الإيراني ولمواقف طهران يرى أنها تسقط في كل امتحان حقيقي لشعاراتها أو بالأحرى تسقط شعاراتها في كل امتحان حقيقي تواجهه، وخاصة الشعارات التي تتبناها وتروج بها لدفاعها عن فلسطين وما تدعيه عن محاولات تحرير فلسطين والدفاع عن الفلسطينيين. خلال هذه الحرب، تبرأت إيران من حركة حماس وأعلنت عدم استعدادها للمشاركة في الحرب والنأي بنفسها عن تداعيات الصراع. لذا فإن انكشاف حقيقة إيران لدى شرائح واسعة من المجتمعات العربية، دفعها إلى التفكير في محاولة تعويض تلك الخسارة السياسية بالتوجه نحو الأنشطة الثقافية والإعلان عن هذين المهرجانين، واعتماد الشعر بوابة للتأثير في الساحات العربية".
أما في الساحة البلوشية، فيؤكد راضي، وهو مدير المركز الأحوازي للإعلام والدراسات الإستراتيجية، أن "طهران خسرت أيضا في الآونة الأخيرة الكثير من شعبيتها هناك لسببين: الأول هو كثرة الإعدامات والقمع والاضطهاد والاعتقالات خلال السنتين الماضيتين في بلوشستان وتزايد المعارضة البلوشية لإيران خاصة من رجال الدين والسياسيين وأيضا المجموعات العسكرية. والثاني هو القصف المتبادل في المدة الأخيرة بين باكستان وإيران والذي راح ضحيته عدد من البلوش الأبرياء".
ويضيف "من أجل تعويض تلك الخسارة السياسية تدخل إيران من جديد من باب الأدب والشعر وتحاول إظهار أن اللغة البلوشية والمجتمع البلوشي وثقافته مهمة لطهران، وبالتالي كسب الرأي العام من جديد".
يرى حسن راضي أن "إيران منذ العشرات من السنين، اهتم مشروعها التوسعي في المنطقة بالقوة الناعمة أو ما يمكن تسميته 'القوة المخادعة'، فهي لديها الآن طلاب عرب يدرسون في جامعاتها وحوزاتها الدينية من أجل بناء عقيدتها التي تؤمن بها وتتبناها وتروج لها وهي بالخصوص تتمثل في العقائد الدينية والسياسية وكل ما يدعم نفوذها على المنطقة. وهي تعزز ذلك بدعوة الوفود العربية وزيارة مراقدها الدينية، وهي تحرك وكلاءها في العراق وسوريا ولبنان للتأثير على مجتمعات تلك البلدان وتعزيز إستراتيجياتها الخارجية".
ويشدد محدثنا على أن "إيران تختلف في الكثير من القضايا مع المجتمعات العربية من حيث اللغة والثقافة والمذهب الديني، لذلك هي تبحث عن حاضنة تميزها في المجتمعات العربية وتزين صورتها عبر عناصر متضامنة معها وأحزاب وميليشيات. هذه الأدوات الناعمة/ المخادعة هي أيضا قاعدة تخدع الشعوب وتروج لإيران".
مواقف متناقضة
بالعودة إلى الحديث عن مهرجاني الشعر العربي والبلوشي، فهو يرى أن “هذا الإعلان يناقض حقيقة طهران التي لا تهتم بالشعر العربي والدليل على ذلك أنها اضطهدت واعتقلت بل وأعدمت العشرات من الشعراء في الأحواز العربية المحتلة منها، منذ بدء نظام الجمهورية الإسلامية، أبرزهم هاشم الشعباني وحسن الحيدري وسرور ستار صياحي وعبدالنبي نيسي وآخرون منهم من سجن ومنهم من تعرض للتعذيب النفسي والجسدي، وهذا دليل صارخ على معاداتها لأي شاعر أو إنسان لا يخدم أهدافها وسياساتها وكل من يعارضها ويطالب بحقوقه، ومعارضتها حتى للشعراء العرب في الأحواز ولكل من يبرز الثقافة العربية في الأحواز".
ويتساءل راضي “إيران لا تهتم بالعربية بل تحرم الأحوازيين من التعلم والدراسة باللغة العربية بل حتى حين يدرسون القرآن واللغة العربية تعتقلهم طهران وتتهمهم بأنهم انفصاليون، فهي تمارس سياسة التفريز بل هي تحارب اللغة العربية فكيف تريد إحياء مهرجان للشعر العربي؟".
من جانبه، يرى الصحافي والباحث المصري في الشأن الإيراني علي رجب أن تحركات إيران في هذا الوقت بالذات جاءت كنتيجة لتحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية، لكنها تحديدا كرد على زيارة السفير السعودي لدى طهران عبدالله العنزي للأحواز مؤخرا وهو حدث نادر الحدوث. ويعرف إقليم الأحواز أو الأهواز بأن أغلبية سكانه عرب، ويتبعون المذهب السني على عكس إيران التي مذهبها شيعي، ويقع في الجنوب الشرقي من العراق والجنوب الغربي من إيران.
وتمارس إيران منذ عقود انتهاكات بحق مثقفي الأحواز والقوميات غير الفارسية، ويقول رجب إنها بإعلان تأسيس مهرجان للشعر العربي "تهدف إلى توجيه رسائل للعالم الخارجي بأن هذه الشعوب غير مضطهدة، رغم أنها لا تزال تعتقل العديد من نشطاء القوميات 'الثقافية' خاصة في كردستان إيران والأحواز العربية".
ويرى الباحث المصري وهو أيضا واحد من الشعراء العرب الشباب أن "النظام الإيراني يدرك اللحظة الخطيرة التي تعيشها المنطقة وانعكاسها على إيران، خاصة وأن هناك العديد من نشطاء القوميات غير الفارسية التي قد تسعى إلى الحكم الذاتي أو الانفصال عن طهران. هذا الأمر يشكل خطرا قائما ومتجددا على الدولة الإيرانية".
ويستدرك “مع التصعيد العسكري في المنطقة وتصاعد المخاوف من توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران وتنامي عمليات الجماعات المسلحة في بلوشستان (شرق إيران) وكردستان (غرب ايران) والأحواز على الخليج العربي، توضع الدولة الإيرانية في مواجهة تحديات البقاء والتماسك، خطر وإن كان يراه البعض غير ممكن ولكن تصاعد عمليات الاعتقال للناشطين من القوميات غير الفارسية والذين يدعمون الثقافات المحلية والهويات العرقية (كرد، عرب، بلوش، أذر) يجعل القائم على صناعة القرار في طهران مدركا لأهمية وجود رعاية رسمية لهذه الثقافات والمكونات بما يشكل امتصاصا للغضب العرقي لهذه القوميات وتقديم ‘مسكنات’ ومهدئات لهم وأيضا القضاء على مشاعر العداء للفارسية والقومية الفارسية وإحداث نوع من الارتباط بين هذه القوميات والدولة الإيرانية".
كل هذا، يؤكد الباحث أنه "يمكن أن يشكل قدرة على تحييد إيران للعامل العرقي في صراعاتها الخارجية وتمددها في المنطقة العربية، وهي سياسة تجيد طهران صناعتها حيث تروج دائما لوجود الأقليات الدينية والمذهبية في البرلمان، لكن على الجانب الآخر تلعب السلطة الأمنية دورا كبيرا في إسكات أي أصوات عرقية تنادي بالهوية الذاتية".
ويتابع الباحث والشاعر المصري “إيران الآن تحاول من خلال مهرجانات الشعر ومن ثمة الأدب والثقافة المخصصة للقوميات غير الفارسية أن تحيد ‘حرب الهويات الثقافية’ وتوظف هذه الهويات في تأمين جبهتها الداخلية واستخدامها كجزء من التمدد والنفوذ خارجيا باستقطاب أدباء ومفكرين من القوميات المرتبطة بالهويات داخل إيران والتغلغل ثقافيا في هذه الدول بأدبيات وخطوط ‘محور إيران’، فأغلب المدعوين من قبل طهران في هذه المهرجانات سيكونون نواة لدعم المشروع الإيراني في هذه الدول وأصواتا للدفاع عن إيران، في حالة توجيه انتقادات لقمعها للقوميات والعرقيات غير الفارسية".
ويؤكد رجب أن "صراع الهويات داخل إيران قد ينفجر في أي لحظة ويتحول إلى صراع عسكري وسياسي، عبر وجود جماعات مسلحة من المكونات غير الفارسية: كرد، بلوش، أذر، عرب. ويمكن في لحظة ما أن يحصلوا على دعم من البيئة الداخلية لهذه القوميات أو على دعم خارجي يشكل تهديدا للدولة الإيرانية من داخلها".