إهدار فرص الإصلاح السياسي في الكويت

تدخل القضاء في إبطال مجالس برلمانية منتخبة بسبب أخطاء إجرائية أمر تجب إعادة النظر فيه فالأخطاء تتحملها الدولة ولا يتحملها الشعب ولا تجب معاقبة الشعب كاملا على أخطاء لا دخل له فيها.
السبت 2023/05/13
لا بد من تحديد الأولويات

لم تضيّع فرصة للإصلاح السياسي والوطني أكبر من الفرصة التي ضاعت من النظام الحاكم في الكويت عام 2022، عندما تفاعل الشارع الكويتي بشكل غير مسبوق مع خطاب ولي العهد الشيخ مشعل الأحمد الصباح، والذي بشر فيه بدولة جديدة تقوم على طي مرحلة العبث وتجيير مقدرات البلد لصالح قوى الفساد.

شدد الخطاب على ترسيخ دولة القانون وعلى التزامها بمقتضيات الدستور، حتى قيل إن كويت ما بعد الخطاب الأميري مختلفة تماما عما سبقه، واستبشر الجميع بتولي الشيخ أحمد النواف مقاليد رئاسة الوزراء خلفا للشيخ صباح الخالد، حيث اعتبرت الأوساط السياسية رئاسة أحمد النواف انطلاقة جادة نحو إجراء تصحيح تاريخي غير مسبوق للمسار السياسي، وخروجا محسوما من التعثر التنموي الذي قبعت فيه البلاد لسنوات طويلة.

تفاعلا مع هذا المسار بادرت عدة شخصيات سياسية مقاطعة للانتخابات إلى العودة والمشاركة تفاؤلا بالعهد الجديد وشعارات المرحلة، وكان في مقدمة هؤلاء السياسي المخضرم أحمد السعدون الذي شارك بقوة في الانتخابات وترأس تاليا مجلس الأمة 2022 قبل أن تبطله المحكمة الدستورية، ويعود مجلس 2020 إلى الواجهة من جديد، قبل أن يتم حله هو الآخر في مشهد ثقيل على الحياة السياسية التي لم تشهد استقرارا على مدى سنوات مديدة.

ثمة آراء مختلفة في تقييم ما جرى، لكن من المؤكد أن تدخل القضاء في إبطال مجالس برلمانية منتخبة بسبب أخطاء إجرائية، أمر تجب إعادة النظر فيه، فالأخطاء تتحملها الدولة ولا يتحملها الشعب ولا تجب معاقبة الشعب كاملا على أخطاء لا دخل له فيها إطلاقا، وفكرة الإبطال إن كانت مقبولة فهي تكون كذلك فقط في حال ثبت بالأدلة المادية الملموسة أن الانتخابات جرى تزويرها بطريقة أو أخرى، أما الحل بسبب أخطاء في المراسيم  والإجراءات فمن شأنه أن يعرقل المسار السياسي وتطوراته، ويفقد الناس ثقتهم بالدولة ومؤسساتها.

الخطوة السياسية الأهم تكمن في اختيار رئيس حكومة مقتدر، رئيس وزراء يعني شخصية مؤهلة سياسيا قادرة على توليد أفكار سياسية جديدة وتقديم حلول وطنية مبتكرة تخرج الدولة من مأزق التخلف الذي وقعت فيه

لو عدنا إلى رصد تفاعل الشارع الكويتي حتى الآن مع الانتخابات فسوف نلاحظ بشكل واضح جدا انخفاض درجة التفاعل مع انتخابات 2023 مقارنة مع الحماس والتفاعل واسعي النطاق اللذين أبداهما الشعب في انتخابات 2022، حينها كانت ارتدادات استقبال الخطاب الأميري والتفاؤل برئيس الوزراء الجديد وابتعاد بعض الوجوه السياسية المرفوضة شعبيا عن الساحة لها أثر مباشر في اندفاع الناس نحو الصناديق.

يقدم التفاعل الجماهيري لأي نظام سياسي قوة لحسم الملفات العالقة بأقل قدر من التكلفة السياسية، فكل الإجراءات التي سيبادر بها النظام مهما كانت موجعة سيتم التفاعل معها من قبل الناس أملا بالإصلاح القريب.

لقد أمل الشعب الكويتي أن يكون العهد الجديد جديدا فعلا في القضاء على الفساد المستشري في مفاصل الدولة والمؤسسات والأجهزة العمومية، وأن تبادر الحكومة بالخروج من الشعار الاستهلاكي “الكويت مركز مالي وتجاري” إلى تحقيقه فعلا، وأن تضع رؤية وطنية متطلعة إلى الأمام تنهض بواقع الدولة، وتنظم العلاقة مع الطبقة التجارية وتوظيفها في مشروع التنمية.

لكن ذلك لم يحدث، ولم يستغل النظام هذا الزخم الشعبي في إجراء إصلاحات كبيرة ونوعية، بل ظل الحال على ما هو عليه، بل ثمة من يعتقد أن المشكلات تضاعفت وتعقدت.

الفساد (كمنظومة تخريب) لم تنكسر شوكته، إن لم يكن قد تزايد وتضخم بشكل خطير وغير مسبوق، وأصبحت له مسوغاته وتخريجاته وتبريراته، ولا تزال الواسطة تلعب دورها في تحطيم الإرادات الوطنية، وأصبحت جزءا من ماكينة الفساد العملاقة.

أما الإدارات الحكومية فهي تعاني من ترهل وظيفي غير مسبوق، فلا يزال ثلثا الموظفين في القطاع العام يكتفون بتقييد بصمة الحضور ثم الانصراف إلى منازلهم على علم ورعاية من كبار المسؤولين في الدولة واستلام الراتب نهاية الشهر، بل أصبح الموظف يختار في بداية حياته الوظيفية الوزارة والقطاع الأكثر إهمالا الذي يوفر كوادر مالية أعلى مع ضمان عدم إلزامية الانضباط في العمل أو التسيب التام.

أما التعليم فيمر بأسوأ مراحله وأدنى مستوياته المعرفية، وعلى الرغم من القفزات العلمية الهائلة في العالم، ومتطلبات التنمية التي تلزم الدولة بتقديم عناية غير مسبوقة لقطاع التعليم، إلا أن وزارة التربية لا تزال محصنة من التطور، والإدارة السياسية في البلاد لا تزال تعطي رسائل سلبية بإهمال هذا القطاع وتهميشه، آخرها تغيير مواعيد الاختبارات في المدارس لتعارضها مع وقت الانتخابات البرلمانية.

أما التجار فهم لا يزالون يوظفون الدولة ومؤسساتها لصالح تضخيم رؤوس أموالهم ولا يساهمون في أي عمل وطني إلى جانب الدولة، بل لا يزالون يتعاملون مع الدولة على أنها ماكنة لتفريخ النقود وتعزيز النفوذ المالي.

معالم الدولة التاريخية يتم البطش بها إهمالا وتخريبا وتدميرا، فجزيرة فيلكا التي قام فيها مركز حضري قبل حوالي 3 آلاف سنة والتي تعد مركزا دينيا قديما، سحقت جميع معالمها القديمة وتم إهمالها وتحويلها إلى جزيرة مهجورة، والمعالم التراثية والتاريخية في نواحي الدولة وبقية الجزر إما تمت إزالتها أو تركها عرضة للتآكل.

وفي ذات الوقت لا تزال المؤسسة البرلمانية معطلة ورهينة رضا السلطة التنفيذية وقبولها، والحكومة مؤقتة ومكلفة بتصريف العاجل من الأمور في أغلب أيام السنة، والخطأ الإجرائي تحول إلى خطيئة بحق الوطن وإساءة بحق المواطن وحقه الديمقراطي.

مشكلة هذا التعثر تكمن في نظرة الحكومة إلى الديمقراطية وممارستها، فهي لا تؤمن بها وربما تراها تركة ثقيلة أنتجها الجيل الراحل وأصبحت عبئا على الحكومات الحالية

يبدو واضحا أن مشكلة هذا التعثر تكمن في نظرة الحكومة إلى الديمقراطية وممارستها، فهي لا تؤمن بها وربما تراها تركة ثقيلة أنتجها الجيل الراحل وأصبحت عبئا على الحكومات الحالية، ويتبين ذلك في المحاولات الحثيثة لتنفير الناس من العمل البرلماني برمته.

وربما ما يتم تداوله من محاولة إفساد ذمم البرلمانيين في عطاءات مشبوهة، وليس آخرها التسريبات التي شغلت الشارع الكويتي والتي عرفت بالرواتب الاستثنائية ومنحت إلى عدد كبير من الوزراء والنواب دون مبرر يذكر، هو جزء من برنامج تفريغ المؤسسة البرلمانية من قوتها.

لقد أصبح ملحا اختيار حكومة تؤمن بالديمقراطية وتدعم العملية السياسية وتحرص على عدم تلويث ذمم النواب والقياديين بالعطاءات والمنح المجانية، حتى قال بعضهم إن الدخول إلى البرلمان يعتبر دخول أعضاء جدد إلى نادي كبار الأثرياء.

وعلى نفس السياق أصبح من الملح تحديد اختصاصات المحكمة الدستورية، وسن القوانين التي تحافظ على سير العملية الانتخابية بشكل سليم، وربما هذا ما أشار إليه الخطاب الأميري الذي ألقاه ولي العهد في أواخر شهر رمضان والذي حل بموجبه مجلس 2020 وأعلن أنه سيواكب ذلك إصدار جملة من الإصلاحات السياسية والقانونية المستحقة لنقل الدولة إلى مرحلة جديدة من الانضباط والمرجعية القانونية.

ويبدو لي أن الخطوة السياسية الأهم تكمن في اختيار رئيس حكومة مقتدر، رئيس وزراء يعني شخصية مؤهلة سياسيا قادرة على توليد أفكار سياسية جديدة وتقديم حلول وطنية مبتكرة تخرج الدولة من مأزق التخلف الذي وقعت فيه، فرئيس الوزراء يفترض أن يكون الأعلم سياسيا والأقدر إداريا لقيادة هذا المنصب وتحمل استحقاقاته.

هذه الأولويات أصبحت أمرا مستحقا وغير قابلة للتأجيل والتمديد، ففرص الإصلاح السياسي تبدو اليوم أضيق من السابق، ومن المؤكد أنها سوف تزداد صعوبة وكل تأخير في البدء بالإصلاح السياسي يحمّل النظام السياسي تكلفة باهظة الثمن، نحن جميعا في غنى عنها.

9