إنقاذ جامعة الدول العربية من التلاشي

قد يكون الجدل الذي أثارته التكهنات حول سعي مصر إلى ترشيح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لخلافة أحمد أبوالغيط في منصب الأمانة العامة لجامعة الدول العربية فرصة خفية. تكتسي الحاجة إلى حوار حول مستقبل الجامعة أهمية حاسمة، حتى وإن كان من المرجح أن تثبت صعوبة مسألة تداول منصب الأمين العام أن العقليات لم تتطور إلى ما هو أبعد من اعتبار هذا المنصب مجرد تصويت بالثقة على وضع مصر القيادي. كانت القاهرة ولا تزال في طليعة القضايا العربية، وهي لذلك لا تحتاج إلى إقرار رمزي لإثبات مكانتها.
وينبغي، في الحقيقة، أن يُفضي انتخاب الأمين العام القادم للجامعة العربية، المقرر إجراؤه السنة القادمة، إلى اختيار الشخص الأكثر كفاءة، كما هو الحال في معظم المنظمات الإقليمية. وينطبق هذا بغض النظر عن جنسية المرشح، مع أن مصر لن تواجه، على الأرجح، أي مشكلة في تقديم مرشح مؤهل لتحمل هذه المهمة. وبغض النظر عن هذه المسألة الخلافية، ينبغي أن ينصبّ الاهتمام على أداء المنظمة العربية والحاجة الملحة لإنقاذها من التهميش.
لا بد من الاعتراف بأن هذه الفترة ليست سهلة على الجامعة العربية في ظل الاضطرابات الإستراتيجية الكبرى والتحولات الجارية التي تزعزع استقرار المنطقة. لقد واجهت معظم دول المنطقة، بغض النظر عن الاضطرابات الحالية الناجمة عن حرب إسرائيل الوحشية على غزة، تحديات أمنية خطيرة، ما دفع الكثيرين إلى البحث عن تحالفات خارج المجال العربي. ويُقرّ منتقدو هذه التحركات أنفسهم بأن المظلة الأمنية العربية الشاملة لم توجد قط، وأن ظهورها في المستقبل القريب يبدو غير مرجح.
◄ الجامعة تعاني اليوم، إلى جانب انفصالها عن الشباب، من فجوة كبيرة في مصداقيتها لدى الجمهور العربي الأوسع
لقد جعل التنافس الشرس بين القوى العالمية على النفوذ في المنطقة، إضافة إلى التدخل العدواني لأطراف إقليمية غير عربية، التدخل الأجنبي أمرًا حتميًا. ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه إلى حين توصل الدول العربية إلى تسوية مؤقتة لحماية مصالحها الأمنية المشتركة. كثيرًا ما تُنتقد جامعة الدول العربية لفشلها في معالجة الأزمات الأمنية التي تعاني منها الدول الأعضاء. صحيح أن المنظمة لم تبذل أيّ جهود جادة لوضع حد للحروب الأهلية التي دمرت ليبيا واليمن وسوريا، ولم تحاول الجامعة، على عكس الأطراف الدولية أو الإقليمية الأخرى، التوسط في الصراع السوداني الكارثي. وأبدت الجامعة، على مدى أكثر من أربعين عامًا، اهتمامًا ضئيلًا بحل النزاع بين الجزائر والمغرب حول الصحراء الغربية، وظلت النزاعات الأقل أهمية تُهمّش منهجيًا.
ومع ذلك، لا يمكن إلقاء اللوم على مسؤولي الجامعة الحاليين أو السابقين بالتسبب في الوضع الراهن، ففي الكثير من النواحي، تعكس أوجه قصور جامعة الدول العربية عدم تجانس الأنظمة السياسية في المنطقة، وتفكك إستراتيجياتها وتحالفاتها. وبمرور الزمن، عُرفت الجامعة ببيروقراطيتها المتضخمة، حيث تُخصص ميزانيتها بشكل رئيسي لرواتب الموظفين. وفي الحقيقة، ليس من المفترض أن تكون هذه المنظمة مؤسسة تُركز على النتائج، لأنها افتقرت من البداية إلى الأدوات الضرورية لوضع قراراتها الحاسمة موضع تنفيذ.
اعتماد الجامعة المستمر على اتخاذ القرارات بالتوافق وغياب آليات التنفيذ أدى إلى تجريدها من أيّ نفوذ حقيقي. ولم يتمكن أيّ أمين عام، بغض النظر عن كاريزميته أو رؤيته، من التغلب على هذا الضعف الجوهري. وعلى سبيل المثال، لا تمتلك الجامعة أيّ أدوات تخول لها معالجة الكوارث الطبيعية أو الأزمات الصحية الكبرى. فخلال جائحة كوفيد – 19، كان من المحبط رؤية جامعة الدول العربية متأخرة عن المنظمات الإقليمية الأخرى، بما في ذلك الاتحاد الأفريقي، الذي طالب بوصول عالمي أكثر عدالة إلى اللقاحات.
◄ ينبغي أن يُفضي انتخاب الأمين العام القادم للجامعة العربية، المقرر إجراؤه السنة القادمة، إلى اختيار الشخص الأكثر كفاءة، كما هو الحال في معظم المنظمات الإقليمية
من الأخطاء الأساسية التي ارتكبتها الجامعة فشلها في منح الأولوية للتكامل الاقتصادي بعد إنشائها سنة 1945. وكان من الممكن أن يضع الدافع الاقتصادي المنظمة على أرضية أكثر صلابة. ورغم المعاهدات والاتفاقيات، لم يتجاوز التكامل التجاري بين الدول العربية 12 في المئة مقارنة بنسبة تتراوح بين 60 في المئة و70 في المئة داخل الاتحاد الأوروبي. ولا يزال التقدم في الوحدة الجمركية والنقدية بعيد المنال، كما أن الترابط بين البنى التحتية لا يزال ضئيلًا.
جامعة الدول العربية لا تزال في حاجة ماسة إلى إعادة التواصل مع شعوب العالم العربي، التي خاب أملها في هذه المنظمة لعجزها عن إحداث تغيير حقيقي. وتُنتقد القمم والاجتماعات الوزارية باعتبارها مناسبات احتفالية تُصدر فيها إدانات غير فعالة لإسرائيل، إلى جانب تأكيدات عامة على التضامن العربي. لكن نهج الجامعة لا يتوافق مع عقليات شباب اليوم المتغيرة بسرعة ومع توقعاتهم العالية.
وكما هو متوقع، جعل إحجام الجامعة عن تناول المواضيع الخلافية أو الاستقطابية مناقشاتها راكدة، في حين ينتظر الجمهور (لا سيما في عصر وسائل التواصل الاجتماعي) خطابًا مفتوحًا وصريحًا. كما لا تزال الجامعة العربية عاجزة عن منح الأجيال الشابة أملًا في المستقبل، في حين يفر الكثيرون من أوطانهم بأعداد كبيرة. ولم تقدّم المنظمة سوى القليل لدعم الشباب العربي في سعيهم لتحسين فرص العمل والتعليم أو التقدم في العلوم والتكنولوجيا.
وتعاني الجامعة اليوم، إلى جانب انفصالها عن الشباب، من فجوة كبيرة في مصداقيتها لدى الجمهور العربي الأوسع، الذي لا يزال مدفوعًا بالروابط العاطفية المتينة بين منطقتي الخليج والمغرب العربي، المتمثلة في اللغة والدين والثقافة.
وتضع تطلعات هذا الجمهور معيارًا قد يكون تحقيقه بعيدًا عن منال الجامعة في شكلها الحالي. وتواجه المنظمة، رغم مرور ثمانين عامًا على تأسيسها، تحديات كبيرة، ولكن هذا لا يعني أنها ستفقد أهميتها حتمًا. لكن تجنب هذا المصير القاتم يتطلب مراجعة نظامها الأساسي وهيكلها الداخلي وإجراءاتها التشغيلية، ولا يمكن مواصلة تأجيل هذه المهمة إلى الأبد.