إنعام كجه جي والمريض العراقي

ليست إنعام كجه جي كاتبة عادية. غالبا ما تحظى كتاباتها الصحفية اليومية باهتمام القراء، وهي تعرف أنها تُقرأ، لأنها تقول ما يفكر فيه الآخرون من غير أن يجرؤوا على قوله. بأدوات لا يجهل الآخرون استعمالها تكشف عن وقائع يخشون الوقوف أمام مراياها. لم تتمرد على قواعد المهنة بقدر ما انحازت إلى نزاهتها وهي ترى وتسمع وتكتب وتسجل.
مَن يقرأ رواياتها “الحفيدة الأميركية” و”طشاري” و”سواقي القلب” و”النبيذة” لا بد أن يدرك أن الروائية التي لا تزال مجتهدة ومثابرة بعد أكثر من أربعين سنة في عملها الصحفي قد تعلمت من الصحافة ما لم يتعلمه آخرون أفنوا أعمارهم في الصحافة.
لم تصبح روائية لأنها أرادت ذلك، بل لأنها عثرت على النافذة التي قفزت من خلالها من الصحافة إلى الرواية. وهذا بالضبط ما فعله قبلها الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز.
كل رواياتها تستند أساسا على بحث صحفي غير أنها تتحول في ما بعد إلى اختراع أحداث يمتزج فيها المتخيل بالواقع. سحر إنعام كجه جي يكمن في أنها لم تكذب لكي يكون الواقع جميلا بقدر ما حاولت أن تخفف من صدمة الواقع من أجل أن يكون هناك شيء من الجمال.
ليس من المستبعد أن يُقال إن كجه جي كاتبة حريرية الملمس. ذلك صحيح وخطأ في الوقت نفسه. فهي لا تكتب إلا عن عراق تعرفه. العراق الذي غادرته قبل أكثر من أربعين سنة وهي تحبه بل وتعشقه وإن كان مريضا، غير أنها لا تكتب لترضيه وتتوسل محبته حين تصدمه بواقعه. فهي تدرك أن العراق خذلها وتركها من غير وطن.
لقد عاشت حياتها وهي تكدح من خلال الصحافة، غير أنها انتصرت لعراق أحبته من خلال ما كتبته من روايات. ما لا تعرفه الأجيال العراقية الجديدة كتبته إنعام في رواياتها. هناك خرائط ستمشي عليها تلك الأجيال وهي تستهدي برواياتها.
إنعام أشبه بالممرضة التي عرفت أسرار ذلك المريض. حين تكتب إنعام عن الآخرين فإنها تفعل ذلك بحب وابتهاج رغبة منها في إسعادهم. ذلك مؤشر على اكتفائها الذاتي. المرأة العراقية التي عاشت في باريس وهي تقاوم إغراءات النظام العراقي السابق، بالقوة نفسها قاومت الاحتلال وما نتج عنه من مؤسسات. ظلت إنعام وفية للعراق الذي تعرفه.
كان مريضا يوم تركته ولا يزال مريضا غير أنها لا تكف عن الأمل في شفائه. تكتب إنعام كجه جي بقوة الحنين إلى بلد تعرف أنها لن تعيش فيه ثانية.
ما يفيض من حنانها هو ما يجعلها تشعر بالواجب. واجب أن تكون مواطنة في كتاب تعرف أنه سيقيم بها في ذلك البلد إلى الأبد. لذلك فإن كل كتابة عنها إنما تقع على هامش ما كتبته عن ذلك المريض الذي تسعى بكل جهدها لكي تبقيه حيا، فمن خلاله تشعر أن هناك سببا مقنعا للحياة.