إنريكي دوسيل يؤسس حداثة تحررية تنقذ الشعوب المهمشة

الهيمنة الغربية أمر واقع لا يمكن إنكاره اليوم، حتى أن الغرب ومجتمعاته أصبحا معيارا عالميا للحداثة، وهو ما يفرض رؤى أحادية مزيفة، تغفل أن هذا الغرب في حد ذاته ليس واحدا، كما تغفل أن الحداثة ليست غربية أو لا تكون. أصوات كثيرة ظهرت هنا وهناك مقدمة خطابا آخر مختلفا حول الحداثة والمجتمعات الإنسانية، وهي آخذة في التوسع كرؤى مقابلة بديلة عن تصورات الهيمنة التي يتبناها الغرب.
ما هي الحداثة؟ وما أصلها؟ كيف ترتبط بما بعد الحداثة والعولمة؟ وهل توجد حداثة واحدة أم عدة حداثات؟ ربما لا تكمن المشكلة الحقيقية في تحديد الأصل التاريخي للحداثة في القرن السادس عشر، قبله أو بعده، إذ يمكن قبول أي اقتراح زمني مرفق بحجج تدعمه، فهذا لا يطرح مشكلة، ولكن المشكلة الحقيقية تتجاوز حدود القضية الكرونولوجية إلى قضية تفسير التاريخ، والذي حدده الفيلسوف الأرجنتيني إنريكي دوسيل في باراديغمين (نموذجين).
النموذج الأول هو نموذج المركزية الأوروبية (eurocéntrico) الذي ينص على أن أوروبا استطاعت أن تتوسع في العصور الحديثة بفضل قوتها التكنولوجية والعسكرية والسياسية والدينية، وبذريعة أن أوروبا تتميز بتفوق ثقافي متأصل في كيانها، وظاهر من هذا أن أوروبا هي التي تتسيد سلم التقدم البشري.
أما النموذج الثاني فهو نموذج اللامركزية الأوروبية (no eurocéntrico) الذي يفترض بأن الحداثة هي ثقافة مرتبطة بنظام العالم (عالمية وكونية) وليست مجرد نتيجة لإدارة وإرادة المركزية الأوروبية، وحتى هذه المركزية لا يمكن أن نعتبرها نتاجا للتفوق المتجذر في الكيان الأوروبي، لأن أوروبا نفسها لم تكن مستقلة عن نظام العالم، بل هي مجرد جزء منه، ويتحدد تاريخ هيمنتها في عام 1492 حينما شرعت إسبانيا في تكثيف عملية الاستعمار، الأمر الذي تزامن مع احتلال أوروبا للنظام العالمي على حساب الأطراف.
أسطورة التفوق الغربي
بينما توافق النموذج الأول مع المنهجية التقليدية في فهم تاريخ العالم كما لو أنه تاريخ أوروبا، فإن النموذج الثاني يتيح لنا النظر من منظور المهزومين، فضلا عن أنه يتناول مشكلة الحداثة بطريقة مقنعة ويعفينا من المقاربات التي تقبل بإمكانية تغيير المجتمعات غير الأوروبية، شريطة أن تتبنى النموذج الأوروبي، ولا تخلو مثل هذه المقاربات من نفحة أيديولوجية قائمة على تسويغ التفوق الغربي، لذلك يمكننا أن ننأى عن مثل هذه المقاربات ونتعاطى معها بالنقد والتفنيد باعتبارها أوروبية المركز، وهذا ما فعله دوسيل والفيلسوف الألماني هابرماس وتيار ما بعد الحداثة.
إذا أمعنا النظر في التصورات النقدية للحداثة، سواء إذا انتقينا منها التصور اللطيف لهابرماس الذي اعتبرها مشروعا لم يكتمل بعد، أو اخترنا منها التصور العنيف لتيارات ما بعد الحداثة، فسنجد أنها تصورات لا تتخطى تخوم المركزية الأوروبية، والحقيقة التي يجب أن نعترف بها هي أن أزمة الحداثة هي أزمة داخلية خاصة بالغرب، فهو الذي احتفى بالحداثة وافتخر بها، وهو نفسه الذي اختفى عن الأنظار بمجرد تناقض الحداثة مع ذاتها وتنكرها لمبادئها بعد أن طالها النقد ومسها التشنيع والتبشيع، ولا يسع دول المحيط إلا أن تقف موقف المشاهد المتفرج السلبي لهذه التحولات الفكرية الغربية التي لم تؤثر عليه، لأن هذه الدول هي دول “بربرية” لم تلج باب الحداثة بعد، ويتحتم عليها أن تلجه.
تتجلى إحدى المساهمات الأولى للفيلسوف الأرجنتيني إنريكي دوسيل -التي باتت تقتضي نقاشا فلسفيا رصينا- في هذه الدعوة الهامة عنده: “نحن بحاجة إلى تفسير آخر لا يتماهى مع المركزية الأوروبية الغربية التي تحتكر التاريخ، وهذا التفسير الجديد المقترح هو الذي يضعنا أمام واقعنا المهزوم والمنكسر، فكيف سيكون التاريخ إذا نظرنا إليه من هذه الواجهة؟”.
يوضح دوسيل أن أوروبا لم تكن تستحوذ على المركز في النظام العالمي قبل عصر النهضة، بل كانت مجموعة من التفاعلات الحضارية والثقافية تتداخل في هذا النظام وتتلاقح مع الثقافة الغربية، إذ لم تكن الهيمنة لعالم واحد، وإنما كانت توجد عدة عوالم، ونذكر على سبيل المثال العالم الأفريقي والعالم الميسوبوتامي والعالم الفارسي والعالم الهلنستي والعالم الإسلامي، وعندما نتقصى أثر تشكل دول أوروبا الوسطى فسنجد الحضور القوي للثقافة اليهودية، ما يدفعنا إلى القول بأن الثقافة الغربية لم تنشأ أبدا مستقلة بل كانت دائما تستفيد من الموروث الشرقي في بناء ذاتها، فلا حاجة لأوروبا إلى التصلف والتجبر طالما أنها لم تعتمد على نفسها في إغناء ثقافتها، وبالمثل فإن اليونان ليست ظاهرة عجيبة ومذهلة، بل هي في الأساس مجرد امتداد للشرق القديم، وهذا يدعم حجة دوسيل في أن أوروبا ليست سوى نتيجة لتفاعل مجموعة من الحضارات، ما يجعلها حجة قوية ومتينة.
تتحدد الفترة الوسطى في أوروبا بين انهيار الإمبراطورية الرومانية وبداية عصر الحداثة، وإذا ربطنا هذه الفترة بالنظام الأقاليمي الآسيوي الأفرو – متوسطي يمكننا ملاحظة ما يلي: أولا كانت أوروبا القارية الجرمانية متصلة بالبحر الأبيض المتوسط، وكانت جزءا من الإمبراطورية الرومانية. ثانيا: فقدت أوروبا القارية الجرمانية الجنوبية إطلالتها على البحر الأبيض المتوسط نتيجة التوسع العربي في القرن السابع، وبالتالي فقدت الاتصال بالنظام الأقاليمي. ثالثا: محاولة إعادة الاتصال بالنظام الأقاليمي، وهذا ما يفسر الحروب الصليبية (1095 – 1291) التي أدت إلى إعادة إدماج أوروبا القارية في البحر الأبيض المتوسط (هذا الحدث شكل نهاية العصور الوسطى، ولا يعني ذلك أن الحداثة قد انطلقت).
تأسيسا على ما سبق لا ينبغي أبدا حصر تاريخ البشرية في التاريخ الغربي فقط، كما لا يصح أن نحصر تفكيرنا في دائرة الاعتقاد بوجود أوروبا واحدة، أو غرب واحد، فالاطلاع على الاختلاف الثقافي والديني الغربي كفيل بأن يسوقنا إلى القول بوجود أوروبات عديدة، فمثلا لا تتشابه أوروبا الجرمانية مع أوروبا المتوسطية، فالأولى ممثلة في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وهولندا وبلجيكا، قد اعتنقت البروتستانتية بشكل كبير، بينما الثانية ممثلة في إيطاليا واليونان وإسبانيا، والتي تسمى كذلك أوروبا الجنوبية، قد حظيت بخصائص ثقافية تنبع من منبع شرقي، فضلا عن أنها اعتنقت الكاثوليكية، وهذا ما يفسر لماذا ظل الأتراك في فينيسيا الإيطالية لقرون، كما يفسر التواجد العربي المستمر في إسبانيا (الأندلس)، فكان الأتراك والعرب مشكلين لما نسميه أوروبا اليوم بعد فتحهم للجزء الغربي منها، وهذا يقودنا إلى القول مرة أخرى إن أوروبا ما هي سوى ثمرة تهجين مع الشعوب الأصلية كالجرمان والآريين والرومان.
اقتراح حداثة بديلة
إن المركزية الأوروبية ليست نتيجة لتفوق متأصل وفطري تقوى عبر الزمن على حساب الثقافات الأخرى، بل هي نتاج لحقيقة بسيطة تتجلى -حسب دوسيل- في عملية الاستكشاف والغزو والاستعمار والاندماج، فلم تكن أوروبا لتتميز عن العالم العثماني الإسلامي والهند والصين لولا الاستكشافات الجغرافية للأميركتين، الشيء الذي نحا بأوروبا نحو وضع اللبنة الأولى والأساسية للحداثة التي ستتجه إلى تأكيد جوهري لموقف يتصور نفسه ظاهرة أوروبية فريدة، ولكن في الحقيقة لن تستمر هذه الحداثة التي أينعت في المركز، وسرعان ما ستذبل بعد نمو حداثة ثانية حسب دوسيل، وهي حداثة تنفي وتقوض الحداثة الأولى، تستنكر الهيمنة وتشجب الإقصاء وتستفظع التهميش، لأنها حداثة محيطية لا مركزية، وهي التي سماها دوسيل الحداثة التحررية أو فلسفة التحرر (filosofía de la liberación).
إن فلسفة التحرر هي خطاب مضاد وفلسفة نقدية تنبثق من الأطراف والهوامش لتغيث الضحايا والمستضعفين والمستعبدين، ولها تطلعات عالمية، إنها فلسفة واعية تماما بوضعها المكروب والمستذل في الأطراف، لكنها في نفس الوقت طموحة، تتصدى بحزم وقوة للفلسفات الأوروبية والأميركية (الشمالية)، سواء تلحفت هذه الفلسفات بلحاف الحداثة أو تلبست بلبوس ما بعد الحداثة أو ادعت أنها إجرائية عملية، ما دامت متمسكة بنصرتها للمركزية الأوروبية، وهذا ما جرى به العمل على مدى خمسة قرون.
ويتعارض اقتراح حداثة بديلة متأسسة على إيتيقا التحرر -وفقا لدوسيل- مع التقليد الكانطي والهابرماسي والأبيلي (نسبة إلى الفيلسوف الأميركي آرثر أبيل) لأن هذا التقليد يفترض أخلاقية عملية صرفة، تتجاهل الجوانب المادية للحياة البشرية، كما ينتقد دوسيل التقليد الجماعي مع ألاسدير ماكنتاير وتشارلز تايلور وجون رولز وميشيل والزر، لأنه يركز على الجانب الخاص للأخلاق، ويتغاضى عن المنظور الأخلاقي العالمي أو الكوني.
◄ حصر تاريخ البشرية في التاريخ الغربي أمر مغلوط تماما، كما لا يصح الاعتقاد الدارج بوجود أوروبا واحدة أو غرب واحد
تنطلق إيتيقا التحرر بالنسبة إلى دوسيل من أساس مغاير تماما للتوجهات العملية والجماعية، لأن هذه التوجهات قد أبانت عن عيب لا يمكن تغطيته أو حجبه، ويكمن هذا العيب في اختزال الحقيقة في الصحة المعرفية أو الإدراكية البحتة، إذ يصبح من المستحيل وفق هذا التوجه الاختزالي أن نؤسس لمفهوم الخير، حتى ولو تضافرت جهود التوجهات النفعية أو الجماعية أو إيتيقا المناقشة أو الميتا أخلاقيات في سبيل إحقاق ذلك.
وانطلاقا من ذلك، يرى دوسيل أن جميع الأخلاقيات التي ذكرناها سابقا تعاني من نقص فظيع لأنها مستمدة من المنظور المركزي الرأسمالي، وصحيح أنها آيلة إلى النجاح والتطبيق داخل أوروبا والولايات المتحدة لا محالة (حيث ظهرت الفلسفة البراغماتية وشكلت التجسيد الكامل للغرب) لكن من الخطأ أن نتفاءل بنجاحها في دول الأطراف أو المحيط بسبب الوضع النيوكولونيالي.
أشار دوسيل إلى أنه في أعماله السابقة لم يكن لديه وضوح بشأن هذه الفكرة الأساسية لتطبيق المبادئ الثلاثة (المادية، الشكلية، العملية)، لأنه في التسعينات فقط تمكن من تأسيس بديل للحداثة في أميركا اللاتينية استنادا إلى إيتيقا نقدية ونهج تحرري، فاستطاع دوسيل أن يجمع بين نهله من فلسفات مضادة للهيمنة كفلسفة ماركس وفرويد والجيل الأول لمدرسة فرانكفورت وميشيل فوكو وإيمانويل ليفيناس، واطلاعه الواسع على تجارب الإقصاء والاضطهاد والقمع العنيف الذي مارسته الدكتاتوريات العسكرية في بلدان أميركا اللاتينية، ودعا إلى الاعتراف بالمستعبدين كمواضيع أخلاقية وككائنات إنسانية لا تستطيع التكاثر ولا تجويد حياتها، والتي تم استبعادها من المشاركة في النقاش، لتلامس الموت وتحتضر في كل مرة.
ويذهب دوسيل إلى أن ضرورة إنتاج حداثة بديلة تحررية أملتها الوضعية التاريخية المأزومة، حيث المعاناة والشر والألم والحرمان، وبذلك فإنه في هذه الوضعية فقط تتجلى خصوصية إيتيقا التحرر، أما قبلها فقد كان من الصعب التفكير فيها، ويقول دوسيل في هذا السياق “آمل أنك فهمت حقيقة أنك ضحية مستعبدة يحكم عليها من الناحية الأخلاقية، فالفقر الذي أنتجته الرأسمالية المتوحشة مثلا لم يكن ظاهرة عبثية أو حدثا فوريا، بل جاء نتيجة قبولنا أولا بمنظومة أخلاقية مبتدعة تساهم في تعميق الفقر، كأخلاق الواجب”.
ويضيف “يمكن اكتشاف حقيقة هائلة ومرة ومهولة في نهاية القرن العشرين وهي أن معظم البشرية ضحية لهيمنة واستعباد عميق، تئن تحت وطأة الألم والفقر، تتمايل من شدة الجوع والبؤس، تتخبط في دياجير الجهل والأمية، غارقة في الديون، مقيدة بالتبعية، مفتقدة للتنمية”.
لا ريب أن طرح دوسيل قوي جدا، ولا ننكر البتة أنه يمكن العثور على بعض الثغرات والفجوات في حججه الداعمة لطرحه، ويحق لنا أن ننتقده، بيد أنه لا يحق لنا أبدا أن ندحض أطروحته بروح أيديولوجية محضة، بالتخندق داخل الانحياز العاطفي للقوة الغربية أو التقوقع في دائرة نهضتها وفكرها وفلسفتها والتحصن بأمر الواقع، ويجب أن نعترف بفلسفته الجديدة الذي أيقظتنا من سباتنا، وفتحت أمامنا الأبواب نحن شعوب الأطراف لتأسيس حداثة مضادة تضاهي وتجابه الحداثة الغربية وقوامها التحرر.