إندونيسيا تواجه تحديات اختراق التطرّف لجيشها

اعتناق جنود لأفكار متطرفة ينذر بمخاطر أمنيّة ويهدّد القيم الثابتة للدولة.
الاثنين 2021/08/23
الجماعات المتطرفة تنجح في استمالة جنود من الجيش الإندونيسي

باتت إندونيسيا في مواجهة مباشرة مع مخاطر اختراق مؤسستها العسكرية (الجيش الوطني) من قبل العديد من الجماعات المتطرّفة المنتشرة في البلاد. وكشف رئيس الهيئة الثقافية لأيديولوجيا البانجاسيلا في إندونيسيا عن دفع ما يصل إلى ثلاثة في المئة من جنود الجيش الإندونيسي والشرطة إلى اعتناق الأفكار الأصولية والتنكر لمبادئ الدولة المدنية ونصوص دستورها.

القاهرة - كشفت تصريحات أدلى بها هاريونو رئيس الهيئة الثقافية لأيديولوجيا البانجاسيلا في إندونيسيا أخيرا، عن جملة من المحددات المسكوت عنها بشأن تسرب الأفكار المتطرفة إلى داخل القوات المسلحة وتبني بعض الجنود لأدبيات دولة الخلافة التي تروج لها العديد من الجماعات التكفيرية المنتشرة في البلاد.

عرض هاريونو أمام الإعلام في بيكاسي بمحافظة جاوا الغربية بعض الأسباب التي دفعت ما يصل إلى ثلاثة في المئة من جنود الجيش الإندونيسي والشرطة إلى اعتناق الأفكار الأصولية والتنكر لمبادئ الدولة المدنية ونصوص دستورها، وهي نسبة تثير القلق بما تمنحه لقادة التنظيمات التكفيرية المسلحة من ثغرات يستطيعون من خلالها اختراق مؤسسات الدولة السيادية وتعزيز قدرات خلاياهم المسلحة على الأرض عبر الخبرات التي اكتسبتها عناصرها في أثناء أداء الخدمة العسكرية.

أرجع المسؤول الإندونيسي انجذاب بعض جنود القوات المسلحة للأفكار المتطرفة وأيديولوجيا الخلافة الوهمية، إلى توسّع نشاطات القوى الراديكالية مقابل ضعف أداء العلماء والدعاة الحكوميين الذين لا يعرف الكثيرون منهم جوهر وفلسفة البانجاسيلا وهي “مبادئ المواطنة الإندونيسية الأساسية”، ما انعكس على تصورات بعض الجنود الملتحقين بالجيش كامتداد لما تعرضوا له وتشربوه في المراحل التعليمية المختلفة.

ويُعد التحدي الأكبر الذي تواجهه إندونيسيا من خلال نظامها السياسي ومؤسساتها وهيئاتها الفاعلة هو تكريس قدرة الدولة على نشر فلسفة المواطنة مقابل قدرة قادة الجماعات المتطرفة على دحض مواد البانجاسيلا وشيطنتها في عيون أتباعهم، وهؤلاء لا تملك أجهزة الدولة الأمنية التعامل معهم ومع ما يعتنقونه من أفكار إلا في حالة ترجمتها على الأرض لأعمال عنف وإرهاب.

ولا ينحصر انتشار أيديولوجيا الخلافة الوهمية نتيجة جهود الجماعات الأممية بين قطاع من جنود القوات المسلحة، حيث أشارت إحصائيات رسمية وردت عبر تصريحات لمسؤولين حكوميين إلى اعتناق ما يصل إلى 24 في المئة من طلاب الابتدائية و23 في المئة من طلاب المرحلة الثانوية وما يصل إلى 18 في المئة من موظفي القطاع الخاص و19 في المئة من موظفي الخدمة المدنية و20 في المئة من موظفي الشركات المملوكة للدولة، الأيديولوجيا المتشددة ولا يتفقون مع البانجاسيلا.

رياميزارد رياكودو: جنود إندونيسيون تعرضوا لخطط التجنيد في الجماعات الراديكالية

دفعت هذه المعطيات بعض المسؤولين إلى دق ناقوس الخطر نظرا لما يمثله التوسع في نشر الأفكار المتطرفة من تحديات فائقة الخطورة، تهدد وحدة الدولة ومستقبل شعبها.

وخلال ندوة عُقدت بمقر الجيش في منتصف عام 2018 في سيلانغكاب شرق العاصمة جاكرتا أبدى رياميزارد رياكودو وزير الدفاع آنذاك ورئيس الأركان الأسبق، قلقه البالغ حيال تعرض جنود الجيش الإندونيسي لخطط التجنيد بالجماعات الراديكالية عبر إقناعهم بأفكار دولة الخلافة الإسلامية المزعومة.

وصف الجنرال المتقاعد رياكودو البانجاسيلا في الندوة التي حضرها جنود وضباط متقاعدون من القوات المسلحة بـ”الغِرَاء الذي يربط ويمسك بنسيج الدولة الموحدة”، معتبرا تدميرها على يد مناهضيها من قادة ودعاة التنظيمات المتطرفة تدميرا لوحدة إندونيسيا وفقدانها بمثابة خسارة هذا البلد، مشددا على أن الانتماء الفكري والأيديولوجي إلى غير البانجاسيلا مخالف للقسم العسكري الوطني “سافتا مارغا”.

وتعتبر البانجاسيلا التي تم الاتفاق عليها في 18 أغسطس سنة 1945 بعد يوم من إعلان استقلال إندونيسيا، الدين أساس الدولة، لكنّ لكل من الدين والدولة أدوارا مختلفة ما يعني أن الدين يختص بالشؤون الفردية والدولة لا تتدخل فيه بل تحميه وتصونه.

وتحترم البانجاسيلا الدين الإسلامي بوصفه معتقد الأغلبية وتحرص على نشر تعاليمه والحفاظ عليها، لكنها تضمن حيادية الدولة بأن تبقى بعيدة عن تأثير أي دين وأن تكون الدولة حارسة للتنوع الديني والثقافي وراعية للتعايش السلمي بين الطوائف المختلفة تحت المظلة الوطنية من أجل الحفاظ على قيم الحرية والديمقراطية.

وتقوم فلسفة الدستور على اعتبار الدولة هي جانب الحياة الدنيوية ذات الأبعاد العقلانية والجماعية وما يتطلبه ذلك من شورى وتخصص وخبرات اقتصادية وسياسية ومراقبة ومساءلة نيابية، بينما الدين عبارة عن جانب الحياة الإيمانية ذات الأبعاد الروحانية الفردية وتجد هذا الفصل ضروريا لحماية الدين ونهضة الدولة.

حريق في غابة

كين سيتياوان: لدينا حريق بعد كسب المتطرفين كتلة داخل دواليب الدولة

تمكن قادة وعناصر الجماعات المتطرّفة النشطة من اجتذاب أعداد كبيرة من الشباب تجاه أيديولوجيا الخلافة الوهمية طوال السنوات الماضية عبر استغلال الأوضاع السياسية، التي منحت تلك الجماعات فرصة للحضور والانتشار على خلفية ما توفره من انتصارات حزبية وانتخابية مريحة لبعض التيارات التي دأبت على اللعب بالعاطفة الدينية لنيل أكبر المكاسب في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.

أزالت هذه الممارسات النفعية على مدار عقود الكثير من عناصر قوة وتماسك حائط الصدّ والحماية ضد انتشار المفاهيم المتطرفة خارج سياق الدولة الوطنية، عبر اختراق سياج الهيئات والمؤسسات التربوية والتعليمية والعسكرية والسيادية الحساسة، وتشكيل كيانات موازية داخلها لا تعترف بدستور الدولة ولا تعتنق مبادئه وتعتبر أن الدولة القائمة لا تحترم الدين لكونها لا تطبق فكرة الحكومة الدينية ولا تنصر الخلافة الأممية.

وأرجع كين سيتياوان مؤسس مركز الأزمات قضية التطرف في إندونيسيا إلى حرص قطاع من النخبة السياسية على توظيف الطيف الإسلاموي والتكفيري في سبيل تحقيق طموحاتهم للحصول على المناصب السياسية والصراع على السلطة.

وأوضح كين في تصريح لـ”العرب” أن الجماعات المتطرفة بفضل تلك الألعاب غير المسؤولة صارت لها كتلة كبيرة داخل دواليب الدولة وتسللت كوادرها في جميع النواحي الحكومية، علاوة على الموجودين بالفعل بصفتهم موظفين وضباط شرطة وجيش، واصفا الوضع بقوله “الآن يبدو أن لدينا حريقا ورجال الإطفاء يواجهون صعوبة في إخماده لأنه في غابة من الخث ومن الطبيعي أنه لا يمكن السيطرة عليه”.

العمليات الإرهابية تؤرق القوات الإندونيسية
العمليات الإرهابية تؤرق القوات الإندونيسية

وعلى الرغم من أن عدد الجماعات المتطرفة ليس كبيرا لكنها ذات نشاط دؤوب لا يكل على مدار اليوم داخل الهيئات والمنتديات الشبابية وعلى الإنترنت، لذلك تبدو جهود الوزارات والمؤسسات لمنع التطرف والإرهاب بما في ذلك جهود الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب أمام الجموح والحماس الإسلاموي متواضعة وغير فاعلة ويتردد صداها بلا تأثير على الأرض، إلى الدرجة التي شبهها أحد المراقبين بحاملي الشموع في مواجهة حملة المشاعل من قادة جماعات التكفير والتطرف.

يلعب ضعف القانون الممنوح للأجهزة الأمنية دورا في تغلغل دعايات التطرف داخل الهيئات والمؤسسات الحساسة، حيث لا يسمح باتخاذ أي إجراءات ضد من يروّجون للأفكار التكفيرية المناهضة لدستور الدولة ولا يعطي المسوغ القانوني للتعامل مع الفهم الراديكالي بحيث لا تقدر الأجهزة على التحرك واتخاذ إجراءات إلا عندما تُرتكب أعمال إرهابية، عندئذ فقط يمكن مقاضاة مرتكبي الفعل الإرهابي دون التمكن من تنفيذ ضربات وقائية واستباقية.

وذهب خبراء إلى أن ضعف القانون رقم 5 المتعلق بالأعمال الإرهابية يعطي الجماعات والأشخاص الذين يعتنقون الفكر التكفيري الأممي فرص النضال من أجل نشر فكرتهم الخاصة بإقامة الخلافة والدولة الإسلامية، ما دام لا يجرم سوى الأعمال الإرهابية فحسب وما يتعلق بها من الانضمام لتنظيم وإجراء تدريبات استعدادا لارتكاب فعل إرهابي.

ويحدّ ضعف القانون الممنوح للقوات الأمنية من قدرة الفرق الخاصة بمكافحة الإرهاب رغم احترافيتها وجهوزيتها من القدرة على التعامل مع نشاطات الجماعات التكفيرية التي تنشر دعايات مضادة ومناهضة للثقافة وللقيم الإندونيسية داخل مؤسسات الدولة نفسها، ما يؤشر إلى ضرورة سن تشريعات جديدة تتيح التعامل مع من ينشر خطاب الكراهية وأيديولوجيا الخلافة داخل الهيئات أو على مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

هاجس عشماوي

Thumbnail

مجرد وجود أثر ولو كان قليلا من تطرف إسلاموي داخل الجيش الإندونيسي يعيد الجدل حول تجارب بعض النماذج في الشرق الأوسط، خاصة في مصر، حيث شهدت إندونيسيا استنساخا لنموذج ضابط القوات الخاصة المفصول هشام عشماوي الذي انشق عن القوات المسلحة المصرية وكوّن تنظيما مواليا للقاعدة، وهو ما جرى بنفس التسلسل في إندونيسيا وتحديدا في كوباسوس، وهي فرقة القوات الخاصة بالجيش حيث تحول عدد قليل من أعضائها إلى إرهابيين ارتكبوا لاحقا سلسلة من الأعمال الإجرامية الوحشية تحت مزاعم نصرة مشروع دولة الخلافة.

يوازي اسم صبار سوباغيو وكنيته الحركية داينج كورو وأوتاد راوا في إندونيسيا هشام عشماوي في مصر الذي تم اعتقاله في ليبيا وجرى إعدامه في القاهرة، فهو من أعضاء النخبة السابقين قبل أن يتحوّل إلى إرهابي عتيد لديه سجل حافل في تدريب الجماعات المتطرفة على تنفيذ عمليات تفجير ومواجهات قتالية مع أجهزة الأمن في عدد من المناطق في سولاويزي ومن ضمنها جماعة مجاهدي شرق إندونيسيا.

رئيس أركان الجيش الجديد الفريق أول أنديكا فيركاسا طالب بالتنسيق بين كل المؤسسات للحفاظ على هوية إندونيسيا وطابعها الثقافي والحضاري الخاص بها، مشددا على أن التغلب على التطرف وظيفة جميع مكونات المجتمع

ونفذ كورو العديد من العمليات النوعية والهجمات الكبرى ضد قوات الشرطة وضد المدنيين العاديين في العديد من المناطق، قبل أن يلقى حتفه في تبادل لإطلاق النار مع أفراد الكتيبة 88 الخاصة بمكافحة الإرهاب.

قاد فيركاسا فريقا من القوات الخاصة بين عامي 2001 و2003 للقبض على مجموعة من أخطر عناصر تنظيم القاعدة بمن فيهم محمد إقبال مدني وسيام رضا رئيس فريق الدعاية والإعلام بالتنظيم بجنوب شرق آسيا، وعمر فاروق الذي كان مسؤولا عن فرع القاعدة في إندونيسيا وترأس عمليات القاعدة العسكرية في جنوب شرق آسيا في نطاق يشمل ماليزيا والفلبين وإندونيسيا.دفعت هذه المخاطر المحدقة بمؤسسة الجيش الإندونيسي وبغيرها من المؤسسات الحيوية في البلاد القيادة الإندونيسية من خلال الدعم المباشر للرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو وبموافقة أعضاء مجلس الشعب لاختيار قائد جديد للجيش لديه خبرة سابقة في مكافحة الإرهاب والتنظيمات التكفيرية المسلحة، وهو رئيس الأركان الفريق أول أنديكا فيركاسا الذي يمتلك تاريخا عسكريا حافلا في مجال مكافحة الإرهاب.

إلى جانب تاريخه العسكري المشرق طرح فيركاسا تصورا متماسكا لكيفية التصدي لخطط نشر المفاهيم المتطرفة التي لا تتفق مع أيديولوجية الدولة داخل مؤسسة الجيش وغيرها من مؤسسات وهيئات الدولة.

إسلام إندونيسي

الجماعات المتطرفة ترهق إندونيسيا وجيشها النظامي
الجماعات المتطرفة ترهق إندونيسيا وجيشها النظامي

طالب رئيس أركان الجيش الجديد الفريق أول أنديكا فيركاسا بتكثيف الجهود من أجل استيعاب قيم البانجاسيلا في صفوف جنود القوات المسلحة وإضفاء الطابع الاجتماعي عليها، من خلال التنسيق مع كل مؤسسات الدولة وكل الهيئات المعنية بالحفاظ على هوية إندونيسيا وطابعها الثقافي والحضاري الخاص بها، مشددا على أن التغلب على مشكلة التطرف ليس وظيفة ومسؤولية الجيش الوطني فحسب بل جميع مكونات المجتمع وجميع الوزارات والمؤسسات والزعماء الدينيين وزعماء المجتمع التقليديين.

يراهن المسؤولون على حرمان جماعات التطرف من توسيع مجالات استقطابها لعناصر داخل المؤسسات والهيئات وتصحيح أفكار البعض ممن تعرض لخطط التجنيد، من منطلق أن الدولة ليست ضد الإسلام إنما لديها رؤية تطبيقية أكثر واقعية وشمولا ورحابة من رؤى المتطرفين الضيقة.

ذلك لأن الدستور راعى أمور الشريعة في المسائل المتعلقة بالزكاة والحج والطعام الحلال للمسلمين وغيرها من القضايا التي لا يوجد معالجات لها بالقانون الوضعي، وتُسند للمنظمات الإسلامية مهام تنظيم هذه المعاملات، ويُفترض أن تقوم الجمعيات والمعاهد التربوية بنشر هذه المفاهيم وتحويلها إلى أعراف اجتماعية.

رغم ما أحرزته الجماعات المتطرفة من نجاحات وأحدثته من اختراقات طوال السنوات الماضية لا تزال المبادرة في يد الدولة عبر طرح نموذجها الخاص، ما ينقذ أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان ليتحول إلى مطمع لجماعات تكفيرية تهدف لجعل إندونيسيا مركز نفوذ لها في آسيا.

13