إعلام حر يخضع لقوانين عادلة أقوى من مقيد وإن أعجب الحكومة

القاهرة - زادت الأحاديث الجانبية وسط الجماعة الصحافية في مصر بعد إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل أيام عن فتح الباب لإجراء حوار وطني شامل بين القوى المختلفة وتمهيد الطريق لإجراء إصلاحات سياسية حقيقية.
وردد الكثير من الصحافيين في حواراتهم داخل مقر نقابتهم وفي مؤسساتهم وعلى مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت فضاء منتعشا لممارسة الحرية، عبارات محددة حول: أيُّ حوار أو إصلاح ما لم يتضمن إعادة النظر في حال الصحافة والإعلام عموما وتوسيع هامش الحريات لن تكون له مردودات في الشارع، ولن تستفيد منه الجمهورية الجديدة التي كانت دافعا لإطلاق دعوة الحوار والبحث عن الإصلاحات.
كما أن القوى السياسية المرشحة للانخراط في الحوار والمتوقع انطلاقه بعد إجازة عيد الفطر لن تكون للمواقف التي ستتبناها جدوى ما لم تقم الحكومة بإصلاح هيكلي في الإعلام الذي عاني من تضييق كبير خلال السنوات الماضية، وفقد دوره السياسي في دعم الدولة المصرية بعد أن بدت غالبية الوسائل تعزف نغما واحدا لا مجال فيه لانتقادات أو تحفظات أو أصوات تتبنى آراء مختلفة.
وأكدت مناقشات الجماعة الصحافية أن الحوار السياسي الذي أطلقه الرئيس المصري ستكون قيمته محدودة للغاية ومصداقيته مفتقدة إذا لم يتم فتح المجال العام أمام الإعلام وممارسة دوره بحرية، والتخلص من الرقابة التي تجلت أبشع صورها في اتساع نطاق الرقابة الذاتية، والتي وصلت إلى حد تفتيش بعض المسؤولين بالصحف في نوايا الكتاب بعد أن زاد اللجوء إلى الإسقاطات السياسية لتمرير مقالات بعينها.
وانقسم الصحافيون حيال الطريقة التي أدير بها الإعلام خلال الفترة الماضية، فالبعض منهم أبدى تفهما لدواعي التضييق وتجاوب مع الإجراءات التي اتخذتها أجهزة حكومية، حيث تولدت قناعة لدى الكثير من القيادات الكبيرة في النظام المصري أن الإعلام وما تمتع به من حرية بلا ضوابط كان سببا رئيسيا في سقوط نظامي حسني مبارك والإخواني محمد مرسي عندما اشتدت ضرباته السياسية والاجتماعية.
ويرى فريق آخر أن هذا الاعتقاد خاطئ ويتخذ فقط كذريعة لتبرير التضييق على الإعلام وتمرير أجندة الحكومة، لأن المطلوب وضع ضوابط وقوانين عادلة وتطبيقها على الجميع وليس قصف الأقلام أو كبت الأصوات، فنتيجة هذه السياسة تسببت في إزعاج من وسائل خارجية أصعب مما كانت سوف تسببه حرية الإعلام
في الداخل.
ويستند هذا الفريق إلى مجموعة محددات لتأكيد عمق الأضرار التي لحقت بالدولة المصرية وليس فقط إعلامها، وأبرزها منح الفرصة للإعلام الأجنبي وإعلام جماعة الإخوان الذي يبث من تركيا وقطر وغيرهما فرصة للانتشار في مصر والتأثير على متابعيه، حيث كان يقدم رؤية مغايرة لما يتردد في الداخل واكتسب جاذبية كبيرة جعلت أصحابه أكثر حضورا من مناوئيهم في القاهرة.
وأضر التضييق بسمعة الإعلام المصري الذي كان مؤثرا في مراحل سابقة، وفقدت الحكومة جوانب مهمة في إيصال صوتها وما يقوم به النظام برمته من إنجازات على الأرض، حيث أدرج التركيز على مشروعاته التنموية ضمن الأطر الدعائية بعد أن تلاشت الانتقادات لأيّ من الخطوات التي يقوم بها على مستويات متباينة.
والأكثر خطورة أن التضييق على وسائل الإعلام التقليدية دفع إلى صعود مواقع التواصل الاجتماعي وارتفاع مستوى تأثيرها، ووجد الكثيرون فيها أداة لا تخضع لرقابة من الحكومة، وأصبحت وسيلة إزعاج قوية لها لأنها لا تملك السيطرة عليها.
وتحولت بعض الصفحات الشخصية لكتاب وصحافيين وإعلاميين إلى أشبه بصحف خاصة، زادت نسب الإقبال عليها، وداوم أصحابها على استخدامها كـ”هايد بارك” يقولون من خلالها ما عجزوا عن إيصاله بالإعلام التقليدي، وتسببت منصات كثيرة في صداع مزمن للحكومة، لأن خيارات النشر واسعة بينما التضييق بات محدودا.
ولم تعد معظم وسائل الإعلام ذات جدوى، وتحولت إلى عبء، فلا الحكومة قادرة على استثمارها ولا الاستفادة منها لتمكينها من التأثير على الرأي العام، وأصبحت، كما يقول صحافيون أشبه بخيل الحكومة، في إشارة إلى انتظارها حكم الإعدام، فعندما تبلغ خيول الشرطة مرحلة متقدمة من العمر يتم إطلاق الرصاص عليها لإنهاء حياتها، فلم تعد صالحة لأداء مهامها الموكلة إليها.
بعض الصفحات الشخصية لكتاب وصحافيين وإعلاميين على مواقع التواصل تحولت إلى أشبه بصحف خاصة
وجربت الحكومة المصرية الكثير من وسائل الاحتواء والتطويق والتوجيه لوسائل الإعلام وحسبت أنها أمّنت مكر العديد من الصحافيين، لكن المسؤولين استيقظوا على كابوس أن كل الخطوات التي قاموا بها قد تكون حققت أغراضها، لكنها أفقدت المهنة بريقها مع تواطؤ الكثير من القيادات مع هذا السيناريو وتفريغ المؤسسات الإعلامية من الكفاءات التي يمكنها أن تنهض على أكتافها، ما سيجعلها مضطرة إلى ضرورة ربط الحوار الوطني
بالحريات.
ومع ارتفاع مستوى الإحباط داخل الجماعة الصحافية التي تتولى تاريخيا مهمة مواجهة الأمراض التي تصيب المهنة انعدمت الرغبة في مقاومة السياسات التي تبنتها الحكومة وغاب الاستعداد للرفض بعد أن أحكمت الأجهزة الرسمية هيمنتها على جميع المنابر التقليدية، وظهر ما يوصف بالميليشيات الإلكترونية التي تنال ممن ينتقدون الحالة المتردية التي وصل إليها الإعلام المصري.
وانتعشت الآمال قبل أيام مع إطلاق الرئيس السيسي دعوته للحوار الوطني الذي قيل إن الجمهورية الجديدة التي يتم التبشير بها منذ أشهر فرضت هذا التوجه، وبالتالي من الطبيعي أن تكون الدولة في حاجة إلى إعلام حرّ وعلى مستوى المسؤولية يعكس رؤاها ويوصل صوتها بطريقة تتسم بقدر عال من الشفافية والمصداقية، الأمر الذي يتطلب إجراء تغييرات في القيادات الصحافية التي تتولى الدفة حاليا.
ويقول صحافيون إن من كانوا سببا في التضييق ومارسوا أبشع أنواعه من الصعوبة التعويل عليهم إذا قُدّر للحوار الوطني أن يصطحب معه أجندة خاصة بالحريات الإعلامية، ومن الطبيعي أن يكون التغيير المنتظر في القيادات منسجما مع الأهداف السياسية التي تبتغي الحكومة المصرية تحقيقها في المرحلة المقبلة.
وتمثل هذه المعادلة اختبارا قويا لجدية الوصول إلى مستوى مرتفع من الإصلاحات في الفضاء العام، لأن النظام المصري يمكنه الحصول على خدمات من صحافيين باحترافية عالية بدلا من تلك الجوقة التي أساءت إليه وتفرغت للدفاع عن مصالحها الشخصية ولم تشغلها المهنة من قريب أو بعيد، وربما لم تكن معنية بصورة الدولة.
وتبدو المسألة الإعلامية في مصر معقدة ومركبة، غير أنها ليست عصيّة على الحل إذا اقتنعت الحكومة أن الإعلام الحر أكثر فائدة من المقيد، والمقارنة بينهما لا تصلح بعد أن أكدت حصيلة السنوات الماضية أن إعلاما حرّا بضوابط عادلة يمكنه أن يصبح واجهة يستفيد منها النظام المصري في مواجهة خصومه الذين استثمروا التضييق للتشكيك في توجهاته السياسية ومشروعاته التنموية.