إعلاميون سودانيون في الخارج حائرون بين البرهان وحميدتي

فضائيات ومواقع عربية تبحث عن محللين محايدين للحفاظ على المصداقية.
الخميس 2023/07/20
حروب على كل الجبهات

فرضت الحرب الدائرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع نفسها على الكثير من وسائل الإعلام العربية عقب اندلاعها واحتلت أولوية في المعالجة خلال أيامها الأولى، وتسابقت بعض القنوات الفضائية في الاستعانة بمحللين وإعلاميين سودانيين وغيرهم من دول عدة لتقديم تغطية مناسبة وفقا لتوجهات كل منها.

القاهرة - كشفت التغطية الإعلامية للحرب الدائرة في السودان بين قوات الجيش والدعم السريع عن انقسام واضح في آراء المحللين، وظهرت الانحيازات السياسية جلية في تقديرات الكثير من السودانيين، وجاءت موزعة بين قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وغريمه قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وبدا كل فريق مدافعا عن وجهة نظره، بما جعل بعض القنوات تتحرى الموضوعية للمواءمة بينهما خوفا من شعور المشاهد بغلبة عناصر فريق على آخر ما يحمّل المحطة الإخبارية مسؤولية أخلاقية وربما سياسية.

وجرت هذه المسألة بذكاء في الأيام الأولى للحرب، وكانت فيها الكثير من الأمور العسكرية لا تزال مبهمة، لأن كل طرف صور انتصاراته عبر أدواته الإعلامية الخاصة بما أحدث خللا في فهم حقيقة التطورات على الأرض، وكان المشاهدون يحاولون استشفاف المواقف السياسية للدول التي تتبعها المحطات الفضائية من خلال مراقبة أداء الضيوف عليها ونوعية التقارير المقدمة على الشاشات.

وجاءت مرحلة تالية في المعالجة الإعلامية بدأت فيها بعض المحطات تسأل الضيف – المحلل عن موقفه من الحرب وتوجهاته السياسية مع أم ضد البرهان أو حميدتي، كي تفسح لنفسها المجال لاختيار من يتناسب مع موقفها وما يخدم أهدافها، ولا غضاضة في ذلك فلا توجد وسيلة إعلامية محايدة بالمفهوم التقليدي، ولكل منها أجندة معلنة أو خفية تحاول تمريرها بالوسائل التي تراها مناسبة لخدمة أغراضها السياسية.

الفضائيات العربية نادرا ما تجد ضيوفا محايدين لأن التكوين السياسي فرض عليهم تاريخيا اتخاذ مواقف حدية

ولم تعد هذه المسألة خفية على العاملين في المجال الإعلامي والمتابعين له أيضا، لكن الفرز السياسي للمحللين بدأ يتزايد حيال السودانيين بما أحدث خللا ماديا لدى الكثير من الإعلاميين الذين تحولت الفضائيات إلى مصدر دخل بالنسبة إليهم في ظل المعاناة التي يعيشها بلدهم وبسببها انقطعت الموارد المالية لعدد كبير منهم، فمظاهر الحياد بدأت تتلاشى في الكثير من الفضائيات التي أصبحت تختار من يتناسب مع أجندتها.

ووجدت بعض المحطات العربية معاناة في اختيار ضيوف محايدين حفاظا على الصورة التي تريد ترسيخها في أذهان متابعيها، فغالبية السودانيين، إعلاميين وسياسيين ومواطنين عاديين، مواقفهم إما مع أو ضد، ونادرا ما تجد ما يعرف في الأدبيات العامة بالحياد، لأن التكوين السياسي فرض عليهم تاريخيا اتخاذ مواقف حدية، ربما يتنقل البعض بين القوى والأحزاب ويغيرون آراءهم، لكن يظل هؤلاء قابضين على جمر الموقف الواضح الذي يميل إلى تيار دون آخر.

وبقدر ما تمثل هذه الميزة مكسبا للتيار السياسي بقدر ما تمثل خسارة للإعلامي والمحلل المطلوب منه التعامل برؤية موضوعية مع أي حدث أو تطور يتطلب التعليق عليه ولا يأتي ذلك من قبيل التعبير عن التوجه الذي يتبناه، فالوسيلة الإعلامية التي تستعين به تريد التظاهر بعدم الانحياز نحو فريق محدد وتأكيد حيادها في المواقف الملتبسة التي تفرض حذرا كبيرا عند التعامل معها.

وطلب أحد المواقع العربية مؤخرا الاستعانة بكتاب عرب يتناولون الشأن السوداني شريطة ألا يكون هؤلاء منحازين صراحة للبرهان أو حميدتي أو تظهر مواقفهم السياسية في كتاباتهم المنشورة على الموقع، والذي له امتداد خارجي ويريد الحفاظ على مصداقيته الدولية ولا يبدو منفصلا عن الموقع الأم الأجنبي، وألمح إلى عدم تفضيل الكتاب السودانيين لما هو متداول عن غالبيتهم من انحياز سياسي فطري.

وتذكّر هذه الواقعة بموقف حدث مع صحيفة خليجية لها توجهات قومية استعانت بكاتب مصري منذ أكثر من عشر سنوات لتناول الشأن السوداني في سلسلة دورية من المقالات والتحليلات، مع أن هناك كتابا كبارا من السودان يستطيعون تناول الأوضاع في بلدهم بطريقة عميقة، لكنها لم تفضلهم كثيرا في ذلك الوقت.

واختارت كاتبا مصريا لتأكيد عدم انحيازها لأي من الأطراف السودانية وتجنب اتهامها بدعم أحدها، وكان وقتها مشروع انفصال جنوب السودان دخل طور التنفيذ، ومشاكل الخرطوم الإقليمية تعددت بسبب التوجهات الإسلامية للنظام الحاكم فيها وكانت على أشدها، ونجح تقدير الصحيفة في اختيار كاتب غير سوداني.

وقال الكاتب المصري في أحد مقالاته إنه كلما التقى مسؤولا سودانيا صنفه على التيار المناهض لفريقه، فعندما التقى الراحل أحمد عبدالحليم سفير السودان في القاهرة حينذاك في إحدى الندوات وتعرف عليه مباشرة، كان رد عبدالحليم أنه يعرفه جيدا من كتاباته في الصحيفة الخليجية وأنه معروف بتأييده للمعارضة.

احرص على نقل المعلومة الصحيحة
احرص على نقل المعلومة الصحيحة

وعندما التقى المحامي الراحل فاروق أبوعيسى رئيس التجمع الوطني الديمقراطي المعارض وتعرف عليه في مناسبة أخرى، كان رد الأخير “أه أنت.. بتاع البشير”، في إشارة توحي بتأييده لنظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير وعدم وقوفه في صف المعارضة.

وتكشف هذه الواقعة، وتحتفظ “العرب” باسمي الصحيفة والكاتب منعا لسوء فهم قد يحدث من هنا أو هناك، إلى أي مدى يجيد السودانيون تصنيف أنفسهم وعدم قبول فكرة عدم الانحياز، وهو ما وضع بعض القنوات الفضائية في حرج بالغ، خاصة تلك التي تريد الحفاظ على درجة من موضوعيتها.

واستجابت بعض المحطات لغضب إعلاميين سودانيين من استضافاتها لمحللين غير سودانيين، خاصة الذين ينحدرون من دول عربية، باعتبار أن أهل السودان أدرى بشعابه، ما يعني أن وسائل الإعلام التي تعالج أزمات بلدهم تظل مصنفة مع أو ضد.

وتحتاج كل وسيلة إلى رؤية واسعة من الخارج، فليس ضروريا أن يكون الضيف - المحلل من بلد الأزمة كي يفهم تفاصيلها ودروبها وشعابها وتقدير الرؤية الصحيحة المتوافقة مع التطورات، فمن يتحدثون جيدا عن مصر يعيشون خارجها وينتمون إلى جنسيات أخرى، ومن يكتبون باقتدار عن إيران يمكن أن يكونوا من دول غربية.

وإذا أرادت وسائل الإعلام العربية الجادة الحفاظ على بريقها من المهم أن توسع مروحتها في تعاملها مع تطورات السودان ولا تقتصر على إعلامييها، ومنهم الكثير من الكتاب والصحافيين والمحللين المرموقين، غير أن “شوفينيتهم” الزائدة أحيانا توقعهم في أخطاء وتظهر مداخلات بعضهم كأنها تصفية حسابات سياسية مع خصومهم وليست تقديرات أو اجتهادات موضوعية.

وأوقع التأييد الدائم والمعارضة المستمرة الكثير من الإعلاميين السودانيين في مأزق مهني كبير، فمن هم مع فريق البرهان لا يعلمون مصيرهم إذا خسر الحرب، ومن تولوا الدفاع عن حميدتي يضعون أيديهم على قلوبهم بعدها، فقد انقسموا إلى فسطاطين، وسوف تظهر نتائج ذلك إعلاميا عندما تضع الحرب أوزارها، حيث سيظهر الطرف المنتصر أكثر تفوقا، والعكس صحيح.

5