إعادة اكتشاف غرامشي.. اليسار الذي يتحسر عليه صادق جلال العظم

القطيعة مع الفلسفة والعقلانية التي تكرست في العقود الماضية شكلت بيئة للانتقال من مرحلة التفكير إلى مرحلة فوضى.
الأحد 2024/02/18
أطروحات غرامشي تفسر الحالة العربية

أطروحات أنطونيو غرامشي كانت الأقرب إلى الحالة العربية، فقد انتقل في حياته الفكرية، من المحسوس إلى الملموس، من «المثالية» إلى «الفعل»، من «الفكرة» إلى «المبادرة»، قام بهدم الهالة التي كانت تلف الفلسفة ووضعها في خدمة الجماهير، جعل منها أداة من أدوات اليومي، «خبزا» لحياتهم المتعثرة، خلصها من «النخبوية» الصلبة التي كانت تجعل منها علما يخص أقلية من المجتمع ويلغي الأغلبية، لقد ذهب غرامشي نحو إشاعة أن الفلسفة ملك للجميع، وأن لكل مواطن حق في «التفلسف»، هذا ما لعب دورا في تقريبها من الناس في المجتمعات الرأسمالية، على عكس ما يحصل في الحالة العربية، حيث ينظر إلى الفلسفة بنظرة ريبة وشك وعداء أحيانا، وهذا ما أحزن صادق جلال العظم (1934-2016) في حواره الأخير، مع «الجديد» حيث يقول «منذ محنة ابن رشد والفلسفة العربية محاربة ومقصية من التداول والممارسة».

محنة الفلسفة ليست فقط في الدول العربية، التي تحكمها عائلات دينية، أو تقودها أحزاب متأسلمة، بل أيضا في دول ترفع شعار العلمانية و«تتاجر» بوسطيتها، لنأخذ الجزائر نموذجا، حيث يتحسر الدكتور فارح مسرحي، أستاذ جامعي في قسم الفلسفة، بالقول «منزلة الفلسفة في المجتمع في آخر الاهتمامات، ولعل العوائق الأكثر أهمية هي تلك المتعلقة بالدولة، بسياساتها ومؤسساتها لاسيما في المجال التربوي والثقافي، يكفي أن نشير إلى أن الفلسفة هي آخر المواد التي يتعرف عليها التلميذ في مساره الدراسي، ولا يكون ذلك قبل السنة الثانية ثانويا للأدبيين والثالثة ثانويا للعلميين، وهذا وضع يعبّر عن إرادة واضحة لتهميش الفلسفة».

ويمكن أن نقول – مع بعض التحفظ – إن الجزائر بلد دون فلاسفة، وأما العالم العربي اليوم، فهو بلد لبعض المشتغلين في الفلسفة لا أكثر، يعيدون – في الغالب – تدوير قضايا وإشكاليات تخص مجتمعات غير مجتمعاتهم، يستوردون نقاشات غربية ويعيدون مضغها، مما يضعهم في قطيعة مع مواطنيهم.

◙ اليسار، الذي يتحسر عليه صادق جلال العظم، لم يخرج من قوقعة الصدمات، ربما الصدمة الأولى والكبرى كانت ما يسمى «نكسة 67»، التي تلت مباشرة جولة التحرر وطموح تأسيس الدولة الوطنية الحديثة

هذا الأمر كان قد نبه إليه غرامشي، قبل حوالي القرن من الآن، فقد كان «يتشاءم» من ذكاء الفلاسفة و«يتفاءل» إزاء قدرة الواحد منهم على «توظيف» معارفه ميدانيا، وكان يصر على أهمية الانتقال من التفكير إلى تطبيق الأفكار، لكننا لم ننتبه إلى هذه التفصيلات سوى متأخرين، فصلنا الفلسفة عن أخواتها، عن التاريخ وعن الثقافة، أي عن الحياة العادية، حتى باتت تخصصا مجردا يعلو عن يوميات الناس، ولا ينظرون إليه سوى من الأسفل برفض ممزوج باحتقار أحيانا.

هذه القطيعة مع الفلسفة ومع العقلانية التي تكرست في العقود الماضية، شكلت بيئة للانتقال من مرحلة التفكير إلى مرحلة فوضى، وفي الانتقال بين مرحلتين ستظهر «وحوش» – كما كان يقول غرامشي – وصارت البيئة العربية مناسبة لنمو وحش «التدين»، هكذا راحت تتشكل جماعات إسلامية ضاغطة، في مصر والجزائر والمغرب والعراق، وغيرها، ووصلنا إلى «توجه ديني عنيف وأصولي وتحول إلى جهادية إرهابية. هذا لم أكن أتوقعه يوما» كما ذكر صاحب «نقد الفكر الديني».

لكن، الأمر يبدو إلى حد ما منطقيا، فقد أعاد الإسلاميون تطبيق فكر غرامشي من دون أن يقرؤوا له، وظل اليساريون يفسرون آراءه في الزوايا المعتمة من المجتمع، حشد الإسلاميون الجماهير وصعدوا بها إلى السلطة، وفاوضوها على نصيبهم في الحكم، وظل اليساريون يلوكون هزائمهم، غير مستوعبين قوة تأثير الدين في المجتمع.

نقد غرامشي للكنيسة ينطبق – تقريبا – على الجماعات الإسلامية، التي تستمد قوتها من فكرة «اللحمة الدينية» أو القرابة الدينية، وفي «خبثها» في تفكيك كل الحركات الأيديولوجية المنافسة لها، حتى صار كل بلد عربي يشتهر بجماعة دينية له وليس بجماعة ثقافية أو فلسفية، وصار رجل الدين هو الواسطة بين السلطة من جهة، وما يطلق عليه مجتمعا مدنيا من جهة أخرى، صار الداعية أو الإمام، خصوصا مع تطور وسائل التواصل، حلقة الوصل بين الأعلى والأسفل، بين الحاكم والطبقات الكادحة.

ما فعلته الجماعات الدينية، في دول الربيع العربي (مثلا، في مصر مع صعود الإخوان المسلمين ثم سقوطهم)، هو الطموح الذي عجزت عنه القوى اليسارية، ونقصد هنا تحقيق فكرة اللحمة، أي إيجاد المكون الأيديولوجي الذي يجمع بين الناس، باختلاف هوياتهم وانتماءاتهم في البلد الواحد، لكن بمجرد وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم لاحظنا أنهم قاموا بما يشبه «الثورة السلبية»، أي بترتيب السياسة بحسب أولوياتهم، وليس بحسب احتياجات الجماهير التي رافقتهم، قلبوا بوصلتهم إلى اتجاه معاكس، وغيروا شعار الشعب «عيش، كرامة وحرية» إلى شعار فضفاض هو «الإسلام هو الحل».

◙ التواصل مع الجماهير ليس ممكنا سوى من خلال فهم واضح لعلاقاتها بالمسجد وبالإمام وبطقوس الدين عموما، مع احترامها أولا

هذا الواقع، يحيلنا إلى سؤال آخر، طرحه غرامشي على المثقفين في الغرب، ويمكن أن نعيد طرحه على المثقفين في العالم العربي، قديما وحديثا، حول عجزنا عن خلق تصور بديل للدين في المدرسة وفي الشارع، وقد يبدو الأمر مربكا في البداية، لكن الغرب تجاوزنا في تحييد الدين عن الحياة العامة، ودفع ثمنا، والعملية مرت بقرون ومخاضات، على العكس مما يحدث عربيا، رغم الثمن الباهظ الذي دفعناه ومازلنا إلى اليوم، فقد ظل الدين حاضرا، بل صار أكثر قوة مما مضى، صار لغة اليومي وطوق نجاة وهمي، لكن الجموع تؤمن به، وهذا ما يفسر جزئيا انتقال الحركية الدينية من الدعوية وردة الفعل، إلى «المبادرة بالفعل»، إلى الجهاد وإلى تنويع طموحاتها في نقل معاركها خارج أرضها.

 هذا ما قامت به أولا الجماعة الإسلامية المسلحة (الجيا) في الجزائر، التي دشنت «عهد الجهاد في الخارج» بعملياتها في قطارات باريس 1995، راح ضحيتها ثمانية أشخاص، مع أكثر من 100 جريح، ثم عمليات «القاعدة» في تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام (1998)، لتبلغ «الجهادية الإرهابية» ذروتها مع تفجيرات 11 سبتمبر 2001، وتتواصل مع اعتداءات تنظيم الدولة الإسلامية في فرنسا وبلجيكا. فتعلق اليسار ببعض المثاليات يحجب عنه رؤية الشعب، ويقطع عنه الطريق للتواصل والتحاور مع الطبقات السفلى من المجتمع.

 راح هذا اليسار يطور من نظرته الخاصة إلى العالم، متغافلا عن النظر لما يدور حوله، ترك فارغا شاسعا كان سهلا على الإسلاميين ملؤه، ليؤكد بذلك على قراءاته السطحية لغرامشي، ففي كل عملية انتقال سياسي أو اجتماعي، كان اليسار عربيا متأخرا، منزويا في طرف القاطرة.

ليس من المستغرب العودة إلى كتابات غرامشي لمحاولة فهم بعض خلفيات ومآلات الربيع العربي، والتي يذكرنا بها صادق جلال العظم بشكل غير مباشر، ومحاولة إسقاط مفاهيمه على الحالة العربية وهي «المجتمع المدني»، «الهيمنة الثقافية»، «البراكسيس»، لكنها تبدو لنا عودة متأخرة، متأخرة بعقود وليس فقط بسنوات، جاءت عقب انتهاء المجتمع من قلب مثلث الهيمنة من الأعلى إلى الأسفل، وعقب انتهاء الإسلاميين من تنظيم أنفسهم وتثبيت علاقاتهم «السلطوية» على الطبقات المسحوقة من المجتمع، مما سهل لهم احتلال مواقع قيادية بعيد الربيع العربي، والمساهمة بالتالي في تأخير المجتمع عن تحقيق حلم الدولة المدنية.

◙ محنة الفلسفة ليست فقط في الدول العربية، التي تحكمها عائلات دينية، أو تقودها أحزاب متأسلمة، بل أيضا في دول ترفع شعار العلمانية و«تتاجر» بوسطيتها

«حسب رأيي هناك نضج ووعي داخل الفرد العربي من أن التدين والإيمان الفردي ليسا هما اللذان سيؤسسان لدولة حديثة بالمؤسسات الديمقراطية. وهو نوع من الرفض» يقول العظم. هذا الكلام كان صالحا للحظة البدايات الحالمة، لكن الطعم كان يختفي وسط الجموع، ونسينا أن التدين (مع المبالغة في ممارسة الدين) صار مأدبة يومية في مجتمع عربي أرخته الخيبات، وخطأ النخبة اليسارية أنها لم تول الأمر أهمية، أو أنها استهزأت بواقعها، بل نجد نخبا تتجه نحو السخرية من معتقدات الغالبية الدينية، مما حرك سخطا من جموع القاعدة نحو النخبة العقلانية، فالتواصل مع الجماهير ليس ممكنا سوى من خلال فهم واضح لعلاقاتها بالمسجد وبالإمام وبطقوس الدين عموما، مع احترامها أولا، ثم إعادة توجيهها نحو استيعاب حقوقها المدنية، قبل التفكير في هدم علاقاتها باللاهوت وبالغيبيات.

إذن، هذا اليسار العربي، أو «الرجل الجماعي» المتعب كما يعبر عنه السوسيولوجي علي الكنز (1946 – 2020)، ركز خطابه نحو السلطة ومعاركتها والاصطدام بها في جولات غير متساوية القوى، ولم ينتبه، طيلة عقود أن هناك جماعات دينية تشتغل في الأسفل، مركزة على الأفراد لا على السلطة، متيقنة بإمكانية وصولها إليها لاحقا، وهو ما حصل فعلا.

هذا اليسار، الذي يتحسر عليه صادق جلال العظم، لم يخرج من قوقعة الصدمات، ربما الصدمة الأولى والكبرى كانت ما يسمى «نكسة 67»، التي تلت مباشرة جولة التحرر وطموح تأسيس الدولة الوطنية الحديثة، والتي يسميها العظم باسمها الحقيقي «الهزيمة» (أو صفعة 67)، وعدم تسمية الأشياء بمسمياتها يزيد العالم كآبة كما كان يقول ألبير كامو. الإسلاميون أيضا خسروا بعضا من معاركهم، عرفوا السجن، أعلنوا الجهاد في البوسنة والهرسك في تسعينات القرن العشرين وخرجوا منها مهزومين، لم تتحقق كامل أحلامهم في أفغانستان، وهاهم يعيدون الكرة ثانية في العراق وسوريا وليبيا، استوعبوا، في البدء، «حدودهم» ثم وسعوها.

صار اليسار ملزما بالتفاوض مع خصومه التاريخيين إن أراد أن يضمد جناحه المكسور، بات عليه أن يجلس جنبا إلى جنب مع الإسلاميين، أن يتحاور معهم، وهي «الضرورة» التي لم يقلها صادق جلال العظم في حواره مع «الجديد»، هي حقيقة لا يريد أن يقر بها من تبقى من يساريين في العالم العربي.

8