إضراب القدس.. بين نداء التضامن وثمن الواقع الاقتصادي

علينا أن نعترف أن التضامن الأكثر نُبلًا هو الذي لا يتحوّل إلى عقابٍ جماعيٍ. القدس والضفة الغربية تدفعان ثمنًا باهظًا منذ أشهر وواجبنا الوطني يقتضي حماية هذا الصمود لا استنزافه.
الخميس 2025/04/10
كيف نوفّق بين واجب التضامن الوطني وضرورات الحياة اليومية

شهدت شوارع القدس الشرقية صباح يوم الاثنين، 7 أبريل 2025، مشهدًا غير مألوف؛ إذ أُغلقت المحلات التجارية أبوابها، وعلّقت المدارس دوامها، وتوقفت المواصلات العامة عن العمل، في إطار إضراب عام أعلنته مؤسسات فلسطينية تنديدًا بحرب الإبادة على قطاع غزة والعدوان المتواصل.

هذا القرار، الذي جاء في ظل ظروف بالغة التعقيد، أثار نقاشًا محتدمًا بين سكان المدينة المقدسة، وكشف عن تناقضات عميقة في المشهد الفلسطيني الراهن. وقف بعض التجار حائرين أمام خيارين مرّين: إما الإبقاء على أبوابهم موصدة تضامنًا مع أشقائهم تحت القصف، أو فتحها لإعالة أسر تئن تحت وطأة الأزمة الاقتصادية.

هذا المشهد المعقّد يختزل إشكالية كبرى تواجه الفلسطينيين اليوم: كيف نوفّق بين واجب التضامن الوطني وضرورات الحياة اليومية في ظل ظروف اقتصادية وأمنية بالغة الصعوبة؟

◄ التحدي الحقيقي هو كيف نترجم التضامن إلى فعلٍ بناء يدعم صمود الغزيّين دون أن يهدم صمود المقدسيّين. هذه المعادلة الصعبة هي اختبار حقيقي للذكاء الجماعي وللقيادة الفلسطينية

وتشير أحدث البيانات الصادرة عن غرفة تجارة القدس إلى أن حجم الخسائر التي تكبدها قطاع التجارة في البلدة القديمة منذ بداية الحرب على غزة تجاوز 60 مليون دولار، بينما تصل تكلفة يوم إضراب واحد على الاقتصاد المقدسي إلى 10 ملايين شيكل. هذه الأرقام تصبح أكثر إيلامًا عندما نعلم أن 43 في المئة من عائلات القدس الشرقية تعيش تحت خط الفقر، وفقًا لبيانات البنك الدولي. السؤال الذي يفرض نفسه: هل من الإنصاف أن يتحمل المقدسيون وحدهم عبء التضامن، بينما تظل أشكال الدعم الأخرى محدودة؟

المشهد في القدس الشرقية ليس منفصلًا عن الواقع الاقتصادي العام في الضفة الغربية. فوفقًا لتقديرات البنك الدولي، شهد الاقتصاد الفلسطيني انكماشًا بنسبة 6 في المئة خلال العام الماضي، مع ارتفاع معدلات البطالة إلى ما يقارب 30 في المئة. هذه الأرقام تضع أيّ دعوة للإضراب العام أمام اختبار صعب، خاصة في ظل غياب شبكات أمان اجتماعي فعّالة.

ولا تقتصر التداعيات على القدس فحسب. ففي رام الله ومدن الضفة الأخرى، يشهد الاقتصاد الفلسطيني انكماشًا بنسبة 8.5 في المئة، وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي. هذا التراجع الذي بدأ مع أحداث “طوفان الأقصى” تفاقم بسبب الإغلاقات المتكررة والقيود الأمنية المشددة.

من قطاع التعليم، فإن إغلاق المدارس المفاجئ ترك عشرات الآلاف من الأطفال بلا رعاية في ظل ظروف أمنية متدهورة. كما أعربت العديد من الأمهات الفلسطينيات في القدس الشرقية عن قلقهن من ترك أطفالهن في المنزل بمفردهم خلال يوم العمل. وقالت إحدى الأمهات “عندما يكون الأطفال في المنزل بمفردهم، يخرجون ويتجولون في الشوارع. ومع ارتفاع مستويات العنف والتواجد الكثيف لقوات الاحتلال، يمكن أن يكون الأمر خطيرًا للغاية.”

أما قطاع السياحة، الذي كان يوظف قرابة 15 في المئة من القوى العاملة في القدس، فقد شهد انهيارًا غير مسبوق. وكشف مرشد سياحي “قبل الحرب، كنا نستقبل 50 مجموعة سياحية أسبوعيًا، أما الآن، بالكاد نرى مجموعة واحدة كل أسبوعين.” هذا الانهيار لا يؤثر فقط على الفنادق والمطاعم، بل يمتد إلى سائقي سيارات الأجرة، وبائعي التحف، وحتى بائعي المياه في المسجد الأقصى.

◄ قرار الإضراب، الذي جاء في ظل ظروف بالغة التعقيد، أثار نقاشًا محتدمًا بين سكان المدينة المقدسة، وكشف عن تناقضات عميقة في المشهد الفلسطيني الراهن

وتجد السلطة الفلسطينية نفسها أمام تحدٍ مضاعف: من ناحية، عليها أن تثبت التزامها بالقضية الوطنية ووحدة الصف الفلسطيني، ومن ناحية أخرى، عليها أن تدرك الحساسية الشديدة للوضع الاقتصادي والمعيشي لمواطنيها. وهناك بعض الخبراء يقترحون تبنّي سياسات أكثر مرونة، مثل تنظيم ساعات إضراب محددة بدلًا من اليوم الكامل، أو تنظيم حملات تبرعات موازية.

التجربة أثبتت أن التضامن الأكثر فاعلية هو الذي يأخذ في الاعتبار واقع الناس وقدراتهم. ربما حان الوقت لإعادة التفكير في أشكال التضامن، بحيث لا تتحوّل إلى عملية “شجب واستنكار” تزيد من معاناة من يُفترض أن نناصرهم.

التحدي الحقيقي هو كيف نترجم التضامن إلى فعلٍ بناء يدعم صمود الغزيّين دون أن يهدم صمود المقدسيّين. هذه المعادلة الصعبة هي اختبار حقيقي للذكاء الجماعي وللقيادة الفلسطينية في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا، فالسلطة الفلسطينية من واجبها أن تظهر التضامن مع سكان غزة، ولكن على الجميع أن يراعي خطورة أوضاع الضفة الأمنية والاقتصادية.

بينما نرفع القبعة للتضامن الشعبي العفوي، علينا أن نعترف بأن التضامن الأكثر نُبلًا هو الذي لا يتحوّل إلى عقابٍ جماعيٍ للمتضامنين. القدس والضفة الغربية تدفعان ثمنًا باهظًا منذ أشهر، وواجبنا الوطني يقتضي حماية هذا الصمود لا استنزافه.

ربما حان الوقت لابتكار أشكال جديدة للتضامن تليق بتضحيات غزة، دون أن تُثقل كاهل من يريدون التضامن معها.

9