إصلاح الإعلام العمومي جدل لا يغادر المؤتمرات إلى أرض الواقع في تونس

يتجدد الحديث عن أزمة الإعلام التونسي، وفيما تحضر الاتهامات والتجاذبات السياسية بشأن المسؤولين عن هذه الأزمة، تغيب خطط الإصلاح.
تونس - عاد الجدل حول أزمة الإعلام العمومي في تونس، مع حديث نقيب الصحافيين محمد ياسين الجلاصي عن الإعلام العمومي بأنه يعيش حاليا حالة احتضار، خصوصا في ظل عدم قيامه بدوره الأساسي من تثقيف وإخبار للمواطنين.
وقال الجلاصي خلال لقاء فكري نظمه المركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب عن كتاب الصحافي والكاتب ماهر عبدالرحمن "أزمة السمعي البصري العمومي في تونس"، "إن برامج التلفزة بقناتيها الأولى والثانية أغلبها إعادات إضافة إلى نشرة أخبار وبرامج حوارية تعد على الأصابع".
والواقع أن مشاكل الإعلام العمومي متوارثة عبر الحكومات المتلاحقة، وفي ظل أزمة سياسية لم تخرج منها تونس منذ سنوات، كان من الصعب وضع إسترتيجية مفيدة تسير بهذا الإعلام نحو الإصلاح، وبقي النقاش حوله متصدرا المؤتمرات واللقاءات دون أن يجد طريقا إلى أرض الواقع.
ويرى متابعون أن من أبرز المشاكل التي يعاني منها الإعلام العمومي هو تأرجحه بين دوره الدعائي الترويجي وحرية التعبير، ودوره الذي ينتظره التونسيون للإسهام في إنجاح الانتقال الديمقراطي البطيء والهشّ الذي تعيشه تونس.
وعاشت مؤسسات الإعلام العمومي تخبطا تسييريا بعدم الاستقرار الإداري أو عشوائية في برامج الإصلاح وتضافر العائق السياسي مع العائقين المهني والإداري وعدم وضوح الرؤية النقابية والتعديلية، وخلطها أحيانا بين النقابي والمهني في خلخلة الأوضاع المتأزمة أصلا، لتنتج كل هذه العوامل حالة “ضياع إصلاحي” نتجت عنها حالة اللا استقرار منذ عام 2011.
ويقول عبدالرحمن في مقدمة كتابه وأسباب تأليفه إن "الإعلام السمعي والبصري العمومي في تونس دخل مرحلة خطرة من العجز لم يقدر معها على مسايرة المرحلة التاريخية للبلاد في عهدها الديمقراطي، وفشل في أن يكون القاطرة المكرّسة لحرية التعبير والنبراس الذي يضيء الطريق لتوعية الجمهور بحقوقه وواجباته وتوحيده حول قيم وأهداف مشتركة، وأن يوفر لهذا الجمهور إعلاما نزيها ومحايدا مبنيّا على المهنية وأخلاقيات المهنة، وأن يقوم بدور المُسائل للسُّلَط باسم هذا الجمهور، صاحب السيادة على أرضه وأملاكه العمومية".
وتعددت الآراء حول واقع الإعلام في تونس وارتباطه الشديد بالمتغيرات السياسية، خاصة في ما يتعلق بحرية التعبير والديمقراطية الناشئة وترسيخ إعلام حر يهتم بالقضايا الأساسية للشعب التونسي، باعتماده وظيفته الأساسية المتمثلة في نقل الخبر بأكبر قدر ممكن من الحياد، فأكبر خطأ ترتكبه وسائل الإعلام العمومية هو مجاراة الإعلام الخاص ومنافسته على كسب الجمهور من خلال برامج ترفيهية ومحتوى لا قيمة إعلامية حقيقية له، في حين أن مهمتها تشكيل الوعي للمواطن التونسي عن طريق تكريس التعددية وثقافة المواطنة وإتاحة الثقافة والعلوم والرياضة، فهذا ما ترتكز عليه مؤسسات الإعلام العمومي الغربي.
وفي تقدير الأكاديمي الجامعي المتخصص في علوم الاتصال والإعلام صلاح الدين الدريدي، فإن تعثر "الانتقال الإعلامي" بدوره هو علامة على فشل الانتقال الديمقراطي. وقال الدريدي إن "الخطأ الجوهري خلف أزمة قطاع الإعلام الحالية يعود إلى البدايات بعد الثورة، عندما اختارت الطبقة السياسية الجديدة هدم جميع المؤسسات المرتبطة بإدارة الشأن الإعلامي التي كانت سائدة في فترة حكم الحزب الواحد قبل 2011، الأمر الذي أدى إلى تغييب معياري الحوكمة والتعديل".
واستدل الدريدي في ذلك بما هو متوفر في النموذج الفرنسي حيث تختص وزارة الثقافة بصلاحيات مرتبطة في مجال اختصاصها بالإعلام، فيما تعهد في نفس الوقت صلاحيات التعديل إلى هيئة متخصصة. لكن الباحث ماهر عبدالرحمن أرجع الأزمة في كتابه إلى افتقار الإعلام إلى كل المقومات القانونية والتنظيمية والوظيفية للخروج من طبيعة عمله السابق، ويرى أن الدولة عجزت عن إصلاح تلك الهياكل التابعة لها ووضع أهداف لها تتماشى مع "العهد الجديد للبلاد"، مما دفع بالإعلام العمومي اليوم إلى أن يكون في موضع "الموت السريري".
واعتبر نقيب الصحافيين أن "التلفزة العمومية أصبحت تلفزة الرأي الواحد"، واصفا اياها بـ"التلفزة الرئاسية" مرجعا وصولها إلى هذه الحالة إلى التراكمات الموجودة حتى من قبل الثورة وغياب الإصلاح، مما أوصلها إلى وضعية هشة من السهل السيطرة عليها. وأكد الجلاصي ضرورة التفكير في إعادة بناء جديد للإعلام العمومي حتى يكون في خدمة المواطن والوطن.
◙ أبرز المشاكل التي يعاني منها الإعلام العمومي هو تأرجحه بين دوره الدعائي الترويجي وحرية التعبير ودوره الذي ينتظره التونسيون
ويؤاخذ البعض على نقابة الصحافيين استمرارها في كيل الاتهامات للدولة والسلطة في مسألة إصلاح الإعلام، دون أن تقدم خططا أو مقترحات عملية يمكن تنفيذها على أرض الواقع وتلائم التجرية التونسية، فالمقارنات التي يجري الحديث عنها مرارا مع الإعلام العمومي الغربي لا تتوافق مع الواقع الإعلامي التونسي سواء من ناحية المؤسسات أو الجمهور نفسه.
كما اعتبر البعض أن مسألة أزمة الإعلام تخضع للتجاذبات السياسية وباتت وسيلة لتراشق الاتهامات سواء بين الصحافيين أنفسهم أو بين نقابة الصحافيين والسياسيين.
ووصل الأمر بتوجيه رئيسة الحزب الدستوري الحر المعارض عبير موسي اتهامات لنقابة الصحافيين وبعض الإعلاميين بربط علاقات مع الأذرع الإعلامية لجماعة الإخوان المسلمين، فيما ردت النقابة بقرار رفع قضية ضد موسي، في حين يرى مراقبون أن هذه التجاذبات لا تصب في مصلحة الإعلام وتساهم بزيادة انعدام الثقة بين الصحافيين والجمهور وبالتالي انعدام الثقة بالإعلام.
وشهدت مؤسستا التلفزيون والإذاعة عددا من الخلافات الداخلية وتحويرات كبيرة وكثيرة دون وضع إستراتيجية إصلاح واضحة أو مشروع إصلاحي مؤسس للقطيعة مع العمل القديم وفق أهداف معلومة، والجدير بالذكر أن محاولات ظهرت بعد الثورة من أجل انتخاب طواقم التحرير إلا أن التجربة لم تصمد في الواقع، إذ تحولت هيئات التحرير المنتخبة إلى مصدر انقسامات وتوتر بين زملاء المهنة. إلى جانب سوء إدارة مالية تتسبب بضحالة الإنتاج الإعلامي وتواضع جودته.
وتشكل مؤسسة التلفزيون بقناتيها العبء الأثقل على كاهل الدولة، إذ تشغل أكثر من 1300 موظف بين منتجين ومحررين وفنيين وإداريين (بينهم 112 فقط يعملون في قسم الأخبار)، بينما لا يتطلب سير المرفق كل هذا العدد.
وكان الرئيس الأسبق لمؤسسة التلفزيون مختار الرصاع صرّح في ورشة دراسية بأن "ثلثي المنتسبين للقناتين لا يعملون ويتقاضون رواتب". ويُعزى هذا الوضع إلى سيطرة المحسوبية والمحاباة في التوظيف والترقيات. وتصل الموازنة السنوية لمؤسسة التلفزيون العمومي إلى 56 مليون دينار تتكفل الدولة بتأمينها. وهي تجمع قسما منه بواسطة الرسوم التي توظفها على فواتير استهلاك الكهرباء.