إصابة كبار السن بالأمراض النفسية تصعب على أسرهم مهمة الاعتناء بهم

تبذل الأسر التونسية قصارى جهدها لرعاية مرضاها النفسانيين خصوصا إذا كانوا من كبار السن. وتصعّب الأمراض النفسية على الأسرة مهمة العناية بكبار السن، ما يحتم التكاتف بين أفرادها، حيث تنتاب المرضى النفسيين نوبات غضب من حين إلى آخر يصعب السيطرة عليها. وسجلت تونس في السنوات الأخيرة ازديادا في عدد المرضى النفسيين، نتيجة للضغوط المعيشية وتردي الأوضاع الاجتماعية.
تونس - تحتل تونس المرتبة الأولى أفريقيا والخامسة عالميا في الإصابة بالأمراض النفسية. ويعاني 518 ألف تونسي من الاكتئاب بدرجات حدّته المختلفة، وذلك من بين 322 ملیون حالة في جمیع أنحاء العالم.
وتبذل الأسر قصارى جهدها لرعاية مرضاها النفسانيين خصوصا إذا كانوا من كبار السن.
وتصعّب إصابة كبار السن بالأمراض النفسية على أفراد الأسرة مهمة الاعتناء بهم، ما يستوجب التكاتف وتبادل الأدوار بين أفرادها لتسهيل المهمة.
وقالت رانية الدريدي (أربعينية) إن والدها الثمانيني أصيب بأزمة نفسية حادة استوجبت نقله إلى العاصمة لتتم معاينته من طرف طبيب مختص في الأمراض العصبية وصف له دواء لعلاج النوبات الحادة التي تنتابه من حين إلى آخر، والتي تحتد مع ارتفاع درجات الحرارة، ما يجعل الدواء في بعض الأحيان غير ذي جدوى.
وأضافت لـ”العرب” أن العائلة لم تعد تشهد استقرارا منذ مرض والدها المسن الذي يعاني أيضا من ارتفاع ضغط الدم وهشاشة العظام وهو ما يستوجب عناية مضاعفة.
ووصفت الدريدي المهمة بالصعبة جدا، مشيرة إلى ارتفاع تكاليف العلاج من ناحية وصعوبة تجند كل أفراد الأسرة مجتمعين من ناحية أخرى حيث يعمل إخوتها وأخواتها في مناطق متفرقة من البلاد.
وأوردت أن بحثهم عن ممرضة تعينهم على الاعتناء به والإقامة معه في المنزل، كلل بالفشل نظرا لخصوصية وضعيته، فاضطروا إلى تقاسم الأدوار بينهم لتخفيف العبء على والدتهم التي أصبح والدهم يرفض أن تقدم له أي خدمة بعد إصابته بالمرض، مشيرة إلى أن فترات الحجر التي قضاها في غرفته أثناء الجائحة كان لها أثر سلبي على نفسيته.
518
ألف تونسي يعانون من الاكتئاب بدرجات حدته المختلفة، وذلك من بين 322 ملیون حالة عالميا
وتابعت “كان والدي تاجرا معروفا وكان محبا كثيرا للعمل والمال، لكن مع تدهور صحته اضطر إلى ترك تجارته لأبنائه ولم يتقبل في قرارة نفسه أن يصبح غير ذي نفع أو عالة عليهم ما زاد في تأزيم نفسيته”.
وأشارت إلى أن نفسيته كلما تزداد تأزما تزداد معاناتهم وتكثر مشاكلهم، وقد أدت محاولاته إلى الاعتماد على نفسه للوقوف إلى سقوطه وإصابته بكسور شديدة، استلزمت، وفق قولها، بقاءه في الفراش لمدة طويلة حتى يتعافى كليا، وقد تطلب منهم ذلك جهودا مضاعفة في رعايته.
وتسجل الاضطرابات النفسية ارتفاعا في السنوات الأخيرة وفق تقارير منظمة الصحة العالمية وهي تحتل المراتب الأولى للمشاكل الصحية في العالم، حيث أثبتت دراسات أن واحدا من ضمن 10 أشخاص على مستوى العالم مصاب باكتئاب أو باضطراب قلق شديد.
وتعرّف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بالرفاه النفسي الذي يمكّن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة وتحقيق إمكاناته والتعلّم والعمل بشكل جيد والمساهمة في مجتمعه المحلي. وهي أيضا جزء لا يتجزأ من الصحة والرفاه اللذين يدعمان قدرات الأشخاص الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات وإقامة العلاقات.
ويصبح كبير السن المريض نفسيا عاجزا عن إنشاء علاقات ما يفاقم من وضعيته.
وقالت حنان المزوغي، الثلاثينية، لـ”العرب” إنها تعبت في رعاية والدتها المريضة نفسيا والتي كانت تشتكيها كذبا إلى إخوتها وتدعي أنها تضربها وتسيء معاملتها حتى قاموا بطردها من المنزل واستولوا على البيت. ولحسن الحظ أن والدها قام بتسجيل ملكية البيت باسمها ما ضمن لها حقها وحماها من التشرد.
وتعاني العديد من الأسر من مزاجية المريض نفسيا وتقلب نفسيته وتواتر نوباته العصبية.
وأكد أمين نواصرية، الخمسيني، لـ”العرب” أنه يبذل قصارى جهده لرعاية والده المسن المريض نفسيا لكنه أصبح يشعر بالخجل من جيرانه كلما انتابت والده نوبات الغضب والصراخ التي تنتهي بوابل من الشتائم والكلام المهين.
وقال نواصرية “أنا أصغر إخوتي.. لقد رفضت الزواج حتى أرعى والدي لأنني لا أعتقد أن شخصا آخر قادر على رعايته مثلي”.
وسجلت تونس في السنوات الأخيرة ازديادا في عدد المرضى النفسيين. ويعد تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وزيادة الضغوط المعيشية بشكل عام من العوامل التي ساهمت في زيادة إقبال المواطنين على العلاج النفسي في المستشفيات الحكوميّة التي باتت تواجه صعوبات في الاستجابة لعدد المرضى الكبير وإيوائهم.
تكشف اللجنة الطبيّة في مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعقلية (أكبر مستشفى متخصص في الأمراض النفسية في تونس)، عن تزايد أعداد المرضى الذين يلجؤون إليها طلبا للعلاج في ظل الضغوط النفسية أو للتخلص من الإدمان على المخدرات، وتشير إلى أن عدد المرضى في مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية، وأولئك الذين توجهوا إلى العيادات الخارجية خلال عام 2019، ارتفع بنسبة 15 في المئة بالمقارنة بعام 2018.
ويطرح الارتفاع المطرد في حالات المرضى النفسيين في تونس مشكلة النقص في أقسام الرعاية النفسية، إذ يوجد 11 قسما للرعاية النفسية في كامل الجمهورية (دون احتساب الأقسام المتوفرة بمستشفى الرازي) موزّعة على ولايات نابل وسوسة والمنستير والمهدية والقيروان وصفاقس وقابس.
كما تفتقر عدة ولايات تماما لخدمات الرعاية النفسية على غرار القصرين وقفصة ومدنين وتطاوين وقبلي وتوزر، فيضطر سكان هذه الولايات إلى التحوّل إلى ولايات مجاورة بحثا عن رعاية صحية نفسية مما يكلفهم عناء التنقل ويكبدهم مصاريف إضافية.
أما الأقسام المذكورة فهي غير كافية ولا تستجيب لحاجات المرضى، نظرا للنقص في عدد الأسرّة وفي عدد أطباء الاختصاص بالقطاع العمومي مع النقص الحاصل في عدد الأطباء العاملين بالقطاع الخاص حسب شمس الدين حمودة الدكتور المختص في طب النفس.
بدوره، تحدث لطفي قحة، الدكتور المختص في طب النفس والرئيس السابق لقسم الرعاية النفسية بمستشفى فطومة بورقيبة بالمنستير، عن عدم توفر هياكل استشفائية لازمة لعلاج المرضى، معتبرا أن هذه المشكلة تجعل الطلب أكثر من العرض أي أن عدد المرضى أصبح يفوق طاقة استيعاب أقسام الطب النفسي.
الارتفاع المطرد في حالات المرضى النفسيين في تونس يطرح مشكلة النقص في أقسام الرعاية النفسية، إذ يوجد 11 قسما للرعاية النفسية في كامل الجمهورية
فعلى المستوى الوطني نجد أن بعض الولايات كولايات الجنوب (ماعدا صفاقس) تفتقر إلى أقسام لعلاج الأمراض النفسية أو الإدمان (باعتبار أن الإدمان في حد ذاته يمثل اضطرابا نفسيا وأن بعض المواد المستهلكة تسبب تعقيدات نفسية للمريض). وأحيانا نجد أن ولايات الجنوب الغربي أو الجنوب تفتقر إلى وجود أخصائيين نفسانيين وفق تصريح نفس المصدر.
ووفق دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية في 2020، يقدر مجموع العاملين في الصحة النفسية بتونس بالقطاعين العمومي والخاص بـ1026 عاملا، موزعين على 338 طبيبا نفسانيا و393 ممرضا و190 مختصا في علم النفس و27 مرشدا اجتماعيا و78 عاملا آخر متخصصين في الصحة النفسية (مثل المعالجين الوظيفيين). وقدّرت نفس الدراسة أن إجمالي عدد العاملين في مجال الصحة النفسية في خدمات الصحة النفسية للأطفال والمراهقين يناهز 78 عاملا.
ويعد العلاج الدوائي مهما جدا في مرحلة علاج المريض ومع ذلك تشهد تونس نقصا في توريد بعض الأدوية الخاصة بالعلاج النفسي والتي ينبغي على المريض استهلاكها حفاظا على استقراره النفسي. ويستند العلاج على عدة أصناف من الأدوية منها أدوية مضادة للذهان أو مضادة للاكتئاب وأدوية مهدئة أو معدلة للمزاج، وفق تأكيد الدكتور قحة.
وأشار الدكتور قحة إلى أن الطبيب قد يضطر إلى وصف أدوية جنيسة قد تعقّد العلاج بسبب عدم دقة الدواء البديل في صورة عدم توفر الأدوية اللازمة للعلاج. وأضاف أن السلطات لم تتمكن من استيراد العديد من الأدوية الأجنبية بسبب غلاء أسعارها ملاحظا أن سعر أحد الأدوية يبلغ 250 يورو، أي ما يعادل تقريبا 840 دينارا.
وأفاد الدكتور حمودة بأن أكثر من 320 نوعا من الأدوية لا تتوفر في الصيدليات وأن ذلك يدفع المريض إلى البحث في أكثر من صيدلية دون العثور على ضالته.
فسّر الدكتور لطفي قحة عزوف العديد من المرضى عن زيارة الأطباء النفسانيين بأن اختصاص الطب النفسي يعد حديثا نسبيا وبأنه يتعامل مع اضطرابات غير مرئية ولا ملموسة أو عضوية، إضافة إلى دور الموروث الثقافي الذي قد يختصر أي مرض نفسي في الإصابة بمس أو سحر.