إسرائيل على مفترق طرق دستوري بسبب قضية عزل رئيس الشاباك

القدس - استأنفت المحكمة العليا الإسرائيلية اليوم الثلاثاء جلسة حاسمة للبت في الطعون المقدمة ضد قرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعزل رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار، وذلك بعد تعليقها إثر بلبلة أثارها الحضور في القاعة، في مشهد استثنائي يحمل في طياته توترا سياسيا وقضائيا غير مسبوق.
ولا يتوقف على هذه الجلسة مصير قيادة أحد أخطر الأجهزة الأمنية في الدولة فحسب، بل يتردد صداها ليلامس مستقبل التوازن الدستوري الهش في إسرائيل.
وتكتسب هذه الجلسة حساسية مضاعفة في ضوء ما تكشف مؤخرا من شهادات صادمة أدلى بها مسؤولون أمنيون سابقون، والتي ألقت بظلال كثيفة من الشك حول دوافع نتنياهو الحقيقية. فقد تحدث هؤلاء المسؤولون عن "محاولات رئيس الوزراء لاستخدام جهاز الشاباك لأغراض سياسية ضيقة، بما في ذلك طلبات غير قانونية لملاحقة خصومه أو حتى إعفائه من المثول أمام سلطة القانون والقضاء".
وقد شكلت شهادة رئيس الشاباك الأسبق، يورام كوهين، زلزالًا حقيقيًا في المشهد السياسي والقضائي، حين كشف النقاب عن أن نتنياهو "طلب منه شخصيًا استبعاد نفتالي بينيت، السياسي البارز، من عضوية المجلس الوزاري الأمني الحساس، بزعم ضعف ولائه لرئيس الوزراء"، وهي رواية وصفها كوهين بـ "الكاذبة والخطيرة"، مما يزيد من حدة التساؤلات حول استغلال السلطة.
وفي هذا السياق المتفجر، يتوقع مراقبون أن تتجه المحكمة العليا نحو إصدار واحد من ثلاثة قرارات محتملة: إما تجميد القرار الحكومي بعزل بار مؤقتًا لإتاحة المزيد من الوقت للتدقيق، أو إلزام الحكومة بتقديم تبرير رسمي وقانوني مقنع لهذا القرار المثير للجدل، أو إحالة الملف برمته إلى هيئة موسعة من قضاة المحكمة العليا لمزيد من التداول والتعمق في حيثياته الدستورية والقانونية.
لكن ما يتجاوز هذه الإجراءات القانونية المعتادة هو القلق المتصاعد في الأوساط الإسرائيلية من الاحتمال الخطير بأن ترفض الحكومة الانصياع لحكم المحكمة العليا، وهو ما سيشكل سابقة خطيرة تهدد صميم النظام الديمقراطي القائم على فصل السلطات وسيادة القانون.
وقد تعالت أصوات التحذير من مختلف أطياف المجتمع الإسرائيلي، حيث لمّح الاتحاد العام للعمال "الهستدروت" إلى اتخاذ خطوات احتجاجية واسعة النطاق إذا تم "المساس بسيادة القضاء واستقلاليته"، فيما يرى محللون قانونيون وسياسيون أن رفض الحكومة الامتثال لقرار المحكمة سيكون بمثابة "كسر علني وواضح لمبدأ فصل السلطات"، ويفتح الباب أمام ما يشبه "الحكم الفردي" وتقويض أسس الديمقراطية.
ومع ترقب إسرائيل لقرار المحكمة العليا الحاسم، فإن الأنظار لا تتجه فقط نحو منصة القضاء، بل أيضًا نحو رد فعل الحكومة اللاحق. فإسرائيل تجد نفسها، ربما للمرة الأولى في تاريخها، أمام مفترق طرق دستوري حاد ووجودي: إما الالتزام الكامل بسيادة حكم القانون وقرارات المحكمة العليا، أو الانزلاق نحو أزمة دستورية عميقة تهدد بتمزيق النسيج الديمقراطي الهش من الداخل.
وقد شهدت الجلسة في بدايتها تعليقا اضطراريا إثر فوضى واحتدام شهدهما القاعة، مما يسلط الضوء على حساسية القضية وتأثيرها على المؤسسة الأمنية والمجتمع الإسرائيلي.
وكانت المحكمة العليا قد أبدت موافقتها على النظر في الالتماسات المقدمة ضد قرار نتنياهو بإقالة بار، وهو القرار الذي أثار موجة من الاحتجاجات المناهضة للحكومة وكشف عن انقسامات سياسية متفاقمة تعصف بالبلاد.
وقبل دقائق من استئناف الجلسة، أكد رئيس المحكمة العليا يتسحاك عميت على أهمية ضمان سير الجلسة بشكل سليم ونزيه، قائلاً "من أجل ضمان إجراء الجلسة بشكل صحيح، مع الأخذ بعين الاعتبار القيم التي نحن ملزمون بها كقضاة، مثل ضمان نزاهة العملية القضائية وإتاحة المجال لجميع الأطراف المعنية في الجلسة بممارسة حقها بالمرافعة دون خوف، نوجه الأمن في المحكمة بإخلاء القاعة".
وقد اضطر القضاة إلى وقف الجلسة بعد مرور 30 دقيقة فقط على بدئها، وذلك نتيجة للمقاطعات المتكررة من الحضور وارتفاع حدة التوتر داخل القاعة. وبلغ الأمر ذروته بإخراج أحد المحتجين، وهو أبٌ قُتل ابنه في غزة في ديسمبر 2023، بعد أن صرخ متهمًا بار بشكل مباشر بالمسؤولية عن مقتل ابنه، مما يعكس الألم والغضب العميق الذي يخيم على المشهد الإسرائيلي.
وعقب هذا الحادث، علق رئيس المحكمة العليا قائلاً بغضب "لا محكمة أخرى في العالم كانت لتُدار بهذه الطريقة"، وذلك بعد أن وجه تحذيرا شديد اللهجة لكل من المؤيدين والمعارضين لقرار الحكومة بإقالة بار.
وأعلن عن استراحة مؤقتة، فيما استمرت الاضطرابات خارج قاعة المحكمة، حيث ظل العديد من المتظاهرين يهتفون بشعار "العار!".
وكانت الحكومة الإسرائيلية قد اتخذت قرارًا بإقالة بار في 21 مارس الماضي بناءً على اقتراح من رئيسها بنيامين نتنياهو، الذي برر هذه الخطوة بـ"انعدام الثقة الشخصية والمهنية" بينهما، وهو ما يمنع "الحكومة ورئيس الوزراء من ممارسة مهامهما بصورة فعالة".
وقد صدر بيان رسمي مقتضب أعلن أن بار سيغادر منصبه في موعد لا يتجاوز العاشر من أبريل الجاري.
وقال نتنياهو الشهر الماضي إنه فقد الثقة في بار بسبب ما اعتبره فشلا ذريعا لجهاز الشاباك في منع الهجوم المباغت الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، وهو الهجوم الذي أشعل فتيل الحرب المدمرة في قطاع غزة.
وأثار قرار إقالة بار تظاهرات كبيرة في إسرائيل حيث يتهم البعض نتنياهو بميول استبدادية وتقويض أسس الديمقراطية.
وقد ألمح بار نفسه، الذي دخل في خلاف علني مع رئيس الوزراء خلال الأسابيع الأخيرة على خلفية إصلاحات أمنية مقترحة، إلى وجود دوافع سياسية بحتة وراء قرار إقالته، مؤكدًا أن السبب الحقيقي يكمن في رفضه تلبية مطالب نتنياهو بـ "الولاء الشخصي".
ويُتَّهم الشاباك بالفشل في منع هجوم حركة حماس على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 ،وهو الهجوم الذي هز أركان المؤسسة الأمنية وأشعل فتيل الحرب المستمرة في غزة.
وتفيد تقارير إعلامية إسرائيلية حساسة بأن جهاز الشاباك كان يجري تحقيقات سرية مع بعض المقربين والمساعدين البارزين لنتنياهو بتهم تتعلق بتلقي أموال مشبوهة من دولة قطر، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الحرب في القطاع مستعرة.
وعلى الرغم من أن التحقيق لا يستهدف نتنياهو بشكل مباشر في الوقت الحالي، ولا يشكل خطرا فوريا على قبضته القوية على السلطة، إلا أنه يسلط الضوء على أجواء عدم الثقة والاتهامات المتبادلة التي تخيم على المشهد السياسي والأمني في إسرائيل.
ويتعلق التحقيق تحديدا باتهامات تشير إلى أن قطر دفعت أموالًا طائلة لمساعدين إعلاميين بارزين في محيط نتنياهو كجزء من حملة نفوذ واسعة النطاق تهدف إلى تحسين صورة الدوحة على المستوى الدولي.
ووصف نتنياهو هذه القضية المعروفة إعلاميًا باسم "قطر غيت" بأنها حملة ذات دوافع سياسية خبيثة أطلقتها ضده ما أسماه بـ "الدولة العميقة"، مؤكدًا أن المساعدين الاثنين اللذين تم القبض عليهما في سياق التحقيق تم أخذهما "رهينتين" في صراع سياسي أوسع.