إزالة دور السينما والمسرح تروج للثقافة الاستهلاكية

القاهرة – سبق قرار هدم سينما “فاتن حمامة” التي افتتحت منذ 34 عاما، قرارات أخرى تتعلق بإزالة دار عرض “الكورسال” أو “علي بابا”، كما يطلق عليها جمهور الدرجة الثانية، وسينما “دوللي” و”فريد شوقي” و”حديقة النصر” و”كوزمس” و”هليوبوليس” و”سفنكس” بالعاصمة المصرية القاهرة، علاوة على غلق غالبية دور العرض في محافظات مصر المختلفة، وتآكل دور العشرات من قصور الثقافة في الأقاليم، وكانت تقدّم عروضا سينمائية للجمهور بأسعار زهيدة.
ولم تتقدّم وزارة الثقافة المصرية لإنقاذ سينما “فاتن حمامة” بذريعة أن دار العرض ملكية خاصة، وجرى الاستسلام للأمر الواقع دون التفكير في تقديم البديل أو التقدّم لشراء الدار من المالكين.
لم تتوقف أزمة السينما المصرية عند عثرات الإنتاج والتوزيع وعزوف بعض المخرجين عن العمل، بل وصلت إلى حدّ صدور قرارات هدم لبعض دور العرض وعدم تصدي الحكومة لها، آخرها هدم سينما “فاتن حمامة” بمنطقة المنيل في وسط القاهرة، وعدم الالتفات لأهمية المكان أو قيمة الفنانة الراحلة التي تحمل القاعة اسمها.
وتمثل دور العرض التي جرى هدمها منفذا مهما لشريحة كبيرة من المواطنين البسطاء الذين اعتادوا ارتيادها، لأن دور السينما التي جرى تشييدها مؤخرا في الأسواق الكبيرة وذات تقنية عالية، ثمن التذكرة الواحدة فيها يفوق قدرة البسطاء، وتنحصر أهميتها لدى قطاع يملك قدرة مالية مرتفعة نسبيا.
ومعروف أن عددا كبيرا من رواد السينما ينحدرون من طبقات اجتماعية فقيرة ومتوسطة، وهي الشريحة التي تمثل غالبية السكان في مصر، وترى في السينما وسيلة للثقافة والتسلية.
كانت وزارة الثقافة بمصر تولي اهتماما بدور العرض، وتستغل السينما في توجيه الرأي العام، ليس فقط من حيث المضمون الذي تريده الدولة وتشرف عليه أجهزتها المختلفة، لكن أيضا من زاوية الإعلانات الترويجية التي يتم تقديمها قبل العرض، وتحوي أفكارا ثقافية ذات أغراض سياسية.
وتوقفت الجريدة الناطقة، وهي نشرة أخبار تقدّم غالبا قبل بداية العرض، وتتضمن معلومات وأخبارا عن الحكومة وأنشطة رئيس الجمهورية، وتم استبدالها (الجريدة) بإعلانات تجارية عن بعض المنتجات، في إطار غلبة اتجاه عام يميل إلى نمط من الثقافة الاستهلاكية على الجادة.
وتتناقض قرارات الهدم مع السياسة التي درجت بالتأكيد على اهتمام الحكومة بالفن وصناعة السينما وتطوير أدوات القوة الناعمة، باعتبار أنها وسيلة رئيسية للقضاء على التطرّف وزيادة الوعي والتثقيف، وهما من المقومات اللازمة لمحاربة تيار العنف ومنع تغلغله في المجتمع.
وتملك مصر حاليا أقل من مئة دار عرض بما لا يتناسب مع عدد السكان الكبير، كما أن المسارح التي مثلت منبرا للتثقيف في الكثير من المحافظات تواجه مصير دور العرض نفسه، حيث اختفت دور العرض والمسارح الجماهيرية في الأقاليم، واكتفى المسؤولون بما يتم تقديمه في القاهرة.
ويرى البعض من النقاد أن سياسة الهدم لدور العرض السينمائية والمسرحية تتزايد في مصر، يقابلها نمو واهتمام في دول عربية كثيرة، بدأت تدخل سوق الفن بقوة، وتملك خططا طموحة لتوظيفه بصورة حضارية، فالسعودية مثلا تؤسّس لنحو 300 دار عرض من المتوقع أن يتم افتتاحها قريبا، وأخذت خطوات جادة في هذا المسار.
وينظر قطاع من المثقفين في مصر إلى الشروع في هدم دور السينما كونه تدمير لرمز حضاري، يحمل معاني ومضامين عميقة حيال الرؤية الحاكمة للثقافة، ويعكس قدرا من التناقض بين الرغبة الظاهرة لتطوير القنوات الثقافية، وبين الانسداد الحاصل بشكل عام داخلها، والذي يقف أمامه المسؤولون عاجزين ولم يحركوا ساكنا ينقذ الموقف.
والتزمت الوزارة المسؤولة عن الثقافة في مصر، الصمت تجاه عمليات الهدم المستمرة، وحتى المبرّرات التي جرى تقديمها لم تكن مقنعة، واكتفت بتفسير ما يجري وإسناده إلى عوامل خارجة عن إرادتها، وتسكين الأزمة ومنع اشتعالها خوفا من أن تلحق النيران بثياب مسؤولين كبار في الحكومة لم ينشغلوا بالثقافة أصلا.
وكشف التهاون بأهمية دور السينما والمسرح، عدم وجود خطة تراعي الأدوار التي تلعبها هذه الفضاءات ودورها على المدى البعيد، وأن المسؤولين عن الثقافة في مصر يسيرون في طريق مغاير لما تعلنه الحكومة، من طموحات كبيرة تتواءم مع الأفكار التي تنطوي عليها المشروعات القومية العملاقة.
وتظل الرؤية الثقافية الواضحة غائبة، لذلك تأتي التصوّرات في هذا المجال غائمة، وتتوقف على اجتهادات كل مسؤول في الجزئية التي يتولى إدارتها في قطاع الثقافة، فإذا كان واعيا لطبيعة دوره جاءت تصرفاته إيجابية والعكس صحيح، وهي في مجملها لا تعني نجاحا متواصلا.
وذهب الناقد الفني طارق الشناوي إلى أن التعامل السلبي مع سينما “فاتن حمامة” هو عرض لمرض فني متجذر، لا يقيم وزنا للكثير من القيم الثقافية، وعدم التحرك لمنع الهدم هو عملية مركبة ومعقدة تتجاوز حدود عقليات الموظفين إلى رؤية الحكومة ذاتها للفعل الثقافي.
وأشار لـ”العرب”، إلى أن تضخم عمليات الهدم المادي والمعنوي للثقافة ليس وليد اليوم، لكنه وليد سنوات ماضية، تم فيها إهمال الدور التنويري، والتفرغ لثقافة الكرنفالات، وهي تعكس طريقة تفكير جامدة تسببت في تدهور كبير، شمل مستويات ثقافية متعددة في السينما والمسرح والأدب.
ويقدّم مسؤولون، رفضوا ذكر أسمائهم، لـ”العرب” رؤية قاصرة تفسر من وجهة نظرهم الخمول الحاصل في الفضاء السينمائي والاستسلام لعلميات الهدم، تدور حول انخفاض الإقبال على السينما أصلا، بحكم رواج مواقع التواصل الاجتماعي، وأهمها يوتيوب، والتي تقدّم الأفلام والمسرحيات بسهولة للمشاهدين، ما أدّى إلى انخفاض الإقبال على دور العرض.
ويتجاهل هؤلاء التطورات الجارية في دور العرض وعدم توقف الجمهور عن ارتيادها، لأن الذهاب إلى السينما يعد طقسا اجتماعيا لدى الشباب، وغالبية أفراد الأسر ترى أن مشاهدة فيلم في قاعة عرض أهم بكثير من مشاهدته على شاشة لا تتجاوز أحيانا كف اليد، من خلال موقع يوتيوب.
ويرى نقاد أن قيمة فاتن حمامة كفنانة كبيرة لن تتوقف مع هدم الدار التي تحمل اسمها، لكن الدلالة التي يحملها تنفيذ الهدم تؤكد أن حالة الكسل الثقافي سوف تمتد إلى ما هو أكبر من هدم سينما وبناء برج سكني مكانها، يدر ملايين الجنيهات، فقد سادت ثقافة النمط الاستهلاكي ما عداها من أنماط جادّة تحفظ للمجتمع ذاكرته وكيانه وحضارته.