إرث شيخ المترجمين محمد عناني أثقل من أن يقيم الآن

متخصصون: عناني كاتب ومترجم سباق ومختلف.
الخميس 2024/01/04
مترجم وأكاديمي موسوعي

خاض المفكر المصري الراحل محمد عناني طوال عقود تجربة الكتابة المسرحية والنقدية، كما كتب في الشعر، لكنه أبحر كثيرا في الترجمة بأسلوبه المميز الذي منحه لقب شيخ المترجمين العرب، ورغم غزارة مؤلفاته إلا أن المتخصصين يرون أن الوقت لم يسنح بعد لتقييم مسيرة مفكر كان سباقا ومجددا في حركة الترجمة العربية.

القاهرة - بعد عام على رحيل محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي والترجمة بجامعة القاهرة وأحد أهم المترجمين في العالم العربي، ما زال إرثه في الترجمة والأدب أثقل من أن يوضع في الميزان ومن أن يتناوله المتخصصون بالنقد والتشريح، بحسب تلاميذه والمعجبين.

ورغم أن أول كتبه “النقد التحليلي” الذي صدر عام 1963 قوبل بهجوم شديد من “أصحاب النقد الأيديولوجي”، حيث وجد نفسه مصنفا بين دعاة “الفن للفن” في مقابل دعاة “الفن للمجتمع”، يشغل إرثه الآن منطقة أبعد بكثير من سهام النقد العنيف.

وروى عناني بنفسه قصة مواجهة قصيرة طريفة بينه وبين الناقد الراحل أنور المعداوي الذي لم يعجبه نهج عناني، وقال “أنتم عمالين تقولوا الفن الفن.. طب وبعدين؟ أنتم في ضلال! والأخطر أن يمتد الضلال إلى الجيل الجديد!”.

على الرغم من تأثر محمد عناني بالقرآن وفهمه العميق لمعانيه، لم يخض قط تجربة ترجمة معانيه بشكل فردي

تقول لبنى عبدالتواب يوسف أستاذة النقد والأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة إن عناني كان أستاذا ومترجما وكاتبا وأكاديميا موسوعيا على نحو “مبهر”.

وتضيف “لما كان يقول محاضرة ويستشهد بفلاسفة وكتاب وأدباء، كان من غير ما يبقى في إيده كتاب، كان بيقدر يستشهد بالعربي وبالإنجليزي وحاجات من المعلقات ومن الأدب الحديث، بدون أي مجهود… كان موسوعي وكان حقيقي يبهرنا في المحاضرات أنه قادر على تذكر قصائد بلغات مختلفة حتى بالفرنسية”.

وعن أسلوب عناني في تحليل النصوص، تقول “كان في وجهة نظره تحليل النص أهم من أن نبحث عن نظريات نحلل بها النصوص… عمره ما دخل الكلاس (قاعة الدراسة) يقول لنا البنيوية والتفكيكية”.

لم يكن عناني ينظر إلى الحياة والأدب من مرآة واحدة ولم يكن يؤمن بالتصنيفات الجامدة. وعلى سبيل المثال تقول الدكتورة لبنى “طبعا الرومانسية والكلاسيكية والمدارس دي كانت موجودة وقت ما كنا طلبة… هو كان يشرح لنا إنه ما كانش في حاجة اسمها رومانسية بحتة ولا كلاسيكية بحتة… الرومانسيون كان عندهم خط كلاسيكي.. والكلاسيكيون كان عندهم خط رومانسي. فكان يفهمنا أنه علينا أن نبحث عن الخصائص الرومانسية عند الرومانسيين، والخصائص الرومانسية عند الكلاسيكيين بردو (أيضا)”.

عناني مترجما

خلال ستة عقود تقريبا بين كتابه الأول الذي صدر في ستينات القرن العشرين ووفاته في العام الماضي، شهد العالم ثورات هائلة في مجالات الاتصال والانفتاح والعولمة، وكان عناني، بحسب الدكتور خالد توفيق أستاذ الترجمة واللغويات بجامعة القاهرة، سباقا إلى ترجمة الكثير من المصطلحات الحديثة التي ولدت من رحم التقلبات العنيفة التي اجتاحت العالم.

ويقول توفيق “هو عامل كتاب اسمه المصطلحات الأدبية، كلها تقريبا ترجماته الشخصية.. وكان له كتاب اسمه تنويعات المفارقة كان يتكلم فيه عن أنواع المفارقة وترجماتها. إنما في الترجمات الأدبية كان سباقا في ترجمات حاجات كتير منها والتفرقة في الترجمات ما بينها”.

خالد توفيق: عناني كان سباقا ودخل مساحة لم يستكشفها كثيرون قبله
خالد توفيق: عناني كان سباقا ودخل مساحة لم يستكشفها كثيرون قبله

ويقول أستاذ الترجمة واللغويات إن عناني دخل بقدمين ثابتتين في مساحة لم يستكشفها كثيرون قبله عندما قام بتعريب مبحث نظريات الترجمة. يضيف “هو ترجم النظريات إلى اللغة العربية وقربها وسهلها ويسرها للمتلقي العربي… قبل كده، ما كانش في حد اتكلم عن نظريات الترجمة بهذا الشكل في اللغة العربية”.

يقول الدكتور خالد توفيق إن تأثر عناني بلغة القرآن الكريم واضح بحيث لا تخطئه عين وإن لغة القرآن تنساب بعذوبة في كل ترجمات الراحل تقريبا.

ويضيف “بيبان أوي (جدا) تأثره بلغة القرآن الكريم في كل ترجماته، تحس أن القرآن يدخل – يعني رقراق كده – في كل ترجماته لكل النصوص اللي عملها تقريبا”.

ويشير توفيق إلى أن عناني لم يكن مؤيدا للفصل بين دراسات الترجمة وبين ممارسة الترجمة أو تطبيقها، فيقول “دكتور عناني كان دائما مؤمنا.. لما الشخص يكون مترجم أو يمارس الترجمة بالفعل لما يجي يعمل دراسة في الترجمة طبعا يكون أقدر من الذي درسها بشكل نظري فقط. وحتى في التدريس، كان مؤمنا دوما بأن الشخص الذي يدرّس ترجمة بناء على خبرة ومارس الترجمة قبل ذلك يكون أفضل له بكثير”.

وعلى الرغم من تأثر عناني بالقرآن الكريم وفهمه العميق لمعانيه، لم يخض قط تجربة ترجمة معانيه بشكل فردي، وتتفق الدكتورة لبنى مع الدكتور توفيق على أهمية تعرض عناني لترجمة القرآن الكريم، إذ يعتقدان أنه كان الأقدر على نقل معانيه إلى الإنجليزية.

لكن لبنى تعرض وجهة نظر عناني التي صارحها بها وهي “أنه لكي يترجم القرآن من الضروري أن يقرر من قارئ القرآن (تقصد قارئ النسخة المترجمة) الذي سيترجم له، هل قارئ القرآن الذي سيترجمه سيكون قارئا مسلما لا يعرف القرآن أو قارئا غير مسلم ويحتاج إلى أن يعرف القرآن؟”.

ويؤكد توفيق الأمر نفسه، فيقول إنه اقترح على عناني ترجمة القرآن الكريم بمفرده، لكن عناني رد عليه قائلا “طب أنا هاضيف أيه؟” (ماذا سأضيف)، مشيرا إلى أنه اشترك بالفعل في ترجمة القرآن الكريم عندما كان موجودا في السعودية خلال الفترة من 1982 إلى 1984.

إرث هائل

محمد عناني شيخ المترجمين ترك إرثا متكامل يجمع بين المسرح والشعر والأدب والنقد
محمد عناني شيخ المترجمين ترك إرثا متكامل جمع بين المسرح والشعر والأدب والنقد

ترك محمد عناني الذي ولد في العام 1939 ولقب بشيخ المترجمين إرثا هائلا وتنوعت كتاباته في المسرح والشعر خصوصا والأدب والنقد عموما، ومن مؤلفاته بالعربية كتب “فن الكوميديا” و”في الأدب والحياة” و”قضايا الأدب الحديث” و”المصطلحات الأدبية الحديثة” في النقد واللغة، ومسرحيات “رحلة التنوير” بالاشتراك مع سمير سرحان و”ميت حلاوة” و”الدرويش والغازية” و”الغربان”.

وكتب إلى جانب ذلك دواوين وقصصا شعرية منها “أصداء الصمت” و”طوق نجاة” و”حكاية معزة” و”زوجة أيوب”، ورواية وحيدة هي “الجزيرة الخضراء”.

وفي مجال الترجمة، كان أهم ما يميز ترجمات عناني هو أنه أبرز نقاط الصعوبة في ترجمة شكسبير وهي ترجمة مستويات الحديث المختلفة أو ترجمة الشعر شعرا والنثر نثرا، والتجأ أحيانا إلى اللغة العامية إذا ما عمد شكسبير إلى استخدام لغة عامية مثلما فعل في ترجمة “حلم ليلة صيف”، فكان يترجم حديث بعض الشخصيات إلى العامية المصرية ويترجم حديث البعض الآخر ترجمة فصحى بليغة.

وترجم من العربية إلى الإنجليزي أعمال عميد الأدب العربي طه حسين، فبدأها بترجمة “الوعد الحق” إلى رواية “خطبة الشيخ”، وكان كتاب “على هامش السيرة” هو آخر ما ترجم عناني من أعمال عميد الأدب العربي.

12