إذاعات تونسية خاصة مهددة بالإغلاق لتراجع عائدات الإعلانات

لم تعد الكثير من الإذاعات التونسية قادرة على تغطية نفقات رسوم البث وأجور العاملين لديها مع تآكل إيرادات الإعلانات، ما يجعلها مهددة بالإغلاق، بينما تطرح النقابة المعنية حلولا لتجنب هذا المصير وهو الأمر الذي يتطلب تعاون الدولة.
تونس - أكدت النقابة التونسية للإذاعات الخاصة الجمعة أن عددا من الإذاعات قد تغلق أبوابها بسبب أزمة مالية خانقة نتجت بالخصوص عن تراجع عائدات الإشهار (الإعلانات) وارتفاع رسوم البث، حيث تتراكم الديون على الكثير من الإذاعات الخاصة مع عجزها عن السداد ودفع رواتب موظفيها.
وقال محمد كمال ربانة رئيس النقابة في تصريح لإذاعة محلية إن بعض الإذاعات لم تصرف أجور الصحافيين والمستخدمين منذ أكثر من 8 أشهر، بسبب تراجع مداخيل الإشهار وارتفاع رسوم البث . وأوضح أن العديد من الإذاعات الخاصة تعاني من تراجع كبير في الموارد المالية بسبب انخفاض قيمة الإعلانات، التي لم تعد تكفي لتغطية تكاليف التشغيل، خاصة مع الزيادة في عدد الإذاعات الخاصة بعد الثورة.
وتعمل في تونس حاليا 51 محطة إذاعية موزعة منها 12 إذاعة رسمية حكومية، و17 إذاعة خاصة (مملوكة بالكامل للقطاع الخاص)، و22 إذاعة جمعياتية، أي تملكها جمعيات من المجتمع المدني. ومقابل هذا العدد الكبير للمحطات الإذاعية، فإن سوق الإعلانات لا يتجاوز سنويا 40 مليون دينار (حوالي 13 مليون دولار).
وتعتمد المحطات غير الرسمية بشكل شبه كلي على عائدات الإعلانات التجارية، علما أنّ إذاعة “موزاييك أف.أم” تسيطر على 50 في المئة من هذه الإعلانات، تليها إذاعات “آي.أف.أم”، و”الجوهرة أف.أم”، و”ديوان أف.أم”. أما باقي الإذاعات التي يتجاوز عددها 34 محطة فتتقاسم مبلغا زهيدا من العائدات المالية للإعلانات التجارية، وبالتالي تبقى عاجزة عن ضمان توازناتها المالية.
وتعمل هذه الإذاعات – حسب إمكانياتها وخصوصية كل منها – على ضمان خطاب تعددي ديمقراطي من خلال فتح المجال لمختلف الأصوات الفكرية والسياسية للتعبير عن رؤاها وتوجهاتها. وذكر كمال ربانة أن “التنوع الإعلامي” كان من مكاسب الثورة ولكن في الوقت نفسه زادت المنافسة وأثّر ذلك سلباً على موارد الإذاعات.
وتطرق رئيس النقابة إلى حل هذه المشاكل، وطالب لجنة المالية في مجلس نواب الشعب، التي استقبلت ممثلي الإذاعات الخاصة مؤخراً، بتقديم إعفاءات من بعض الديون المستحقة على هذه الإذاعات، مع اقتراح جدولة هذه الديون على مدة عشر سنوات.
وذكر بأنه طالب بإعفاءات تصل إلى 50 في المئة من الديون المستحقة على الإذاعات الخاصة وجدولة بقية الديون، بالإضافة إلى إعادة النظر في قيمة رسوم البث وتغيير تصنيف نشاط الإذاعات من تجاري إلى ثقافي.
كما دعا إلى تخفيضات في تكاليف البث التي تثقل كاهل الإذاعات، خاصة في المناطق الجهوية، حيث قد يصل المبلغ السنوي إلى 100 ألف دينار في بعض الحالات.
وأوضح أن النقابة لا تطالب بدعم مباشر من الدولة، بل تطالب بحلول متمثلة في الإعفاءات والعدالة في توزيع الإعلانات العمومية. كما أكد أن الإذاعات الخاصة تؤدي دوراً مهماً في تقديم الخدمات الإعلامية للمواطنين، ومن غير المعقول أن تتحمل التكاليف الباهظة بسبب غلاء أسعار الإرسال والبث، التي تفرضها شركات الاتصالات والديوان الوطني للإرسال.
وأشار إلى أن الإعلام الخاص في تونس لا يهدف إلى الربح المادي فحسب، بل يقدم خدمات ثقافية وإعلامية للمواطنين، ويجب أن يحظى بالدعم الذي يساعده على الاستمرار دون اللجوء إلى التمويل الأجنبي أو المال الفاسد. ويُعتبر الإشهار أهم مصدر لتمويل وسائل الإعلام السمعية والبصرية وضمان استمراريتها في تونس، ويزداد أهمية في هذه الفترة بالذات، في ظل الصعوبات المالية التي تواجهها معظم القنوات التلفزيونية والإذاعية.
وترى الإذاعات الخاصة نفسها الأكثر تضررا جراء الأزمة الاقتصادية في البلاد، وتراجع الإعلانات وهي الطرف الأضعف في قطاع الإعلام الخاص. وأفاد الإعلامي والمحلل السياسي مراد علاّلة أن “قطاع الصحافة بشكل عام والإذاعات الخاصة في تونس تقريبا هي في لحظة خطر داهم يهدد وجودها، وبات أصحابها غير قادرين على العمل فيها”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “الوضع غير الطبيعي للهيئة التعديلية يطرح أكثر من سؤال والمسؤولية الرئيسية دائما للسلطة التي يجب أن يكون لها دور في إدارة الإعلام، وهناك مسؤولية قيمية للدولة لحماية تلك المؤسسات”.
ودعا علالة إلى “ضرورة إنقاذ الإذاعات الخاصة، لأنه لا يمكن أن نتحدث عن مشهد إعلامي متعدّد في غيابها، والدولة بهيئاتها التعديلية والرقابية هي من فتحت الباب لها كي تنشط، وبالتالي لا بدّ على السلطة أن تتحمل مسؤولياتها لأنها هي من أسندت لها الرخص”، متسائلا ” كيف تمنح رخصة لإذاعة خاصة حتى تنشط وهي غير قادرة على تسديد أجور الصحافيّين وسداد ديونها؟”.
وقال المحلل السياسي المنذر ثابت “الإعلام في تونس شهد منذ 2011 لحظتين متتاليتين، الأولى لحظة الفوضى والوفرة في مستوى الإشهار والعائدات المالية وفوضى في مستوى المضامين، والثانية بعد 25 يوليو 2021 ومنذ سنة تقريبا، وهي أن المؤسسات أصبحت في وضع عدم القدرة على سداد المستحقّات المالية”.
وأكّد لـ”العرب” أن “الكلفة باهظة جدّا للإذاعات والكل يشتكي مما يعتبرونه إجحافا في كلفة حقوق البثّ، وهنالك فوضى في علاقة بالإشهار حتى أن صاحب المؤسسة يطلب من معدّ البرنامج توفير التمويل الخاص ببرنامجه وهو أمر صعب، كما أن المؤسسات ورجال الأعمال أصبحوا يتجنّبون تمويل البرامج ذات الصبغة السياسية”.
ولفت ثابت إلى أن “المؤسسات الإعلامية لها بعد تجاري وربحي، وبالتالي هي معرّضة للصعوبات المالية والإفلاس، والوضعية أصبحت مركّبة وتحتاج إلى تضافر كل الجهود”. واستطرد قائلا “من الضروري أن يكون هناك ضمان للمؤسسات الإعلامية من النقابة ما يمنح الحماية للإعلاميين إذا ما تعرّضوا لعملية طرد تعسّفي”.
وسبق أن تم إيقاف عدد من وسائل الإعلام بسبب الديون المتراكمة، حيث أفاد الديوان الوطني للإرسال الإذاعي والتلفزي أنه أوقف خدمة البث لكل من إذاعة “ابتسامة.أف.أم” (أي أف أم) والقناة التلفزيونية “تونسنا” بسبب”عدم احترام المؤسستين الإعلاميتين المذكورتين لبنود الاتفاقيتين المبرمتين مع الديوان وخاصة في ما يتعلق بخلاص معاليم البث”.
وأضاف الديوان مطلع العام الماضي أنه تم إمضاء اتفاق جديد لجدولة الديون المتخلدة بذمة كل من المؤسستين الإعلاميتين ولم تلتزما ببنوده رغم التنبيه عليهما في العديد من المناسبات، مضيفا إلى أن الديوان الوطني للإرسال الإذاعي والتلفزي تولى إعلام كل من إذاعة “ابتسامة.أف.أم” وقناة “تونسنا” بتاريخ إيقاف خدمة البث دون تسجيل تجاوب يذكر.
وتتجاوز الأزمة في تونس الإذاعات الخاصة لتضرب القطاع بكامله. وسبق أن حذر نقيب الصحافيين التونسيين زياد الدبار من أن 80 في المئة من المؤسسات الإعلامية الخاصة مهددة بالغلق جراء الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها، مبينا أن صحافة الجودة تمثل تحديا حقيقيا لضمان استقرار قطاع بات مهددا في وجوده.
وتراهن الهياكل الإعلامية في تونس على صحافة الجودة لإعادة الاعتبار للإعلام الذي فقد نسبة كبيرة من ثقة الجمهور لضعف المحتوى بشكل عام وحالة الاستقطاب السياسي التي يعيشها.
وتتباين وجهات النظر حول أزمة الإعلام التونسي، ففي الوقت الذي تقول فيه نقابة الصحافيين إن الأزمة سياسية وتوجه أصابع الاتهام للسلطة في كل مناسبة، فإن قطاع الإعلام في تونس، بحسب الدبار، “يعيش اليوم تحديات حقيقية تتمثل بالخصوص في التراجع عن جملة من المكتسبات في ظل تواصل غياب سياسة عمومية للإعلام ومحاولات ضرب القطاع عبر تطبيق تشريعات تمسّ بحريّة الصحافة والإعلام والنشر، وسجن الصحافيين وملاحقتهم قضائيا بهدف تهديدهم وترهيبهم".
غير أن هناك وجهة نظر أخرى بأن وسائل الإعلام التي حملت خطا معارضا ارتمت في أحضان الأجندات، وشرعت بلعب دور أخطر من الذي كانت تلعبه زمن الدكتاتورية، وذلك بخلط الأوراق في الكثير من الملفات، ويؤكد المتابعون أن الحرية الإعلامية في تونس لم تنتج في الحقيقة تجارب رائدة تعكس الأفق الذي حاولت الثورة التوجّه نحوه.