إحاطة باتيلي تطوي ملف الانتخابات في ليبيا

سيكون على الليبيين الانتظار طويلا قبل أن يحققوا أملهم في الذهاب إلى صناديق الاقتراع واختيار من سيخرج بهم من المراحل الانتقالية المتلاحقة إلى مرحلة الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني واستعادة سيادة الدولة بتحرير القرار الوطني من مساومات الداخل والخارج.
بعد أن صادق في الثاني من أكتوبر على قانوني انتخاب رئيس الدولة ومجلس الأمة، يجد مجلس النواب نفسه مطالبا بالتراجع خطوة إلى الوراء نتيجة رفض مجلس الدولة للنصوص المعتمدة، وتشكيك البعثة الأممية في إمكانية تشكيل حكومة جديدة لإدارة شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية والإشراف على تأمين الاستحقاقين، وظهور أصوات تدعو إلى العودة من جديد إلى طاولة المشاورات في مسارات مختلفة سيكون من أولوياتها العصف بنتائج لجنة 6+6 والبحث عن تصورات جديدة للحل الذي سيتأخر كثيرا.
رئيس البعثة الأممية عبدالله باتيلي أثبت مرة أخرى أنه لا يمكن أن يكون في مقدمة الداعين إلى الحل والعاملين على تحقيقه، وإنما في آخر المشهد يجمع الاستنتاجات ويطلق التصريحات بما يخدم مشاريع العرقلة ويمدد للحاكمين بأمرهم في سدة الحكم سواء في غرب البلاد أو في شرقها، وبما يخدم مصالح المتداخلين المحليين والأجانب بمختلف هوياتهم ومرجعياتهم وأهدافهم وحساباتهم.
◙ عبدالحميد الدبيبة استطاع أن يشكل تحالفات سياسية وحزبية ومالية واقتصادية وأمنية وعسكرية وأسرية وأن يكسب مناصرين من فئات مختلفة، وأن يجيد اللعب على حبال التوازنات الإقليمية والدولية
في إحاطته أمام مجلس الأمن يوم 16 أكتوبر الجاري، أشار باتيلي إلى النقاط الخلافية التي يتبناها من موقعه، والتي تدفع إلى اليأس مما تم النظر إليه مؤخرا على أنه خطوات إيجابية على طريق الانتخابات، لاسيما أن بعض تلك النقاط كان فخاخا لا يمكن تبرئة الأمم المتحدة من التورط في نصبها وهي التي شاركت بخبرائها في وضع مسودة أبوزنيقة التي تم الإعلان عنها في السادس من يونيو الماضي.
أولا: موضوع الجولة الثانية الإلزامية للانتخابات الرئاسية، والتي يفرضها القانون حتى في حالة فوز أحد المرشحين بالأغلبية المطلقة في الجولة الأولى من السباق الرئاسي، وهو أمر غير مسبوق في أي بلد من بلدان العالم، وليست له أي مرجعية ديمقراطية، والهدف منها بث الفوضى في حالة فوز إحدى الشخصيات الجدلية بالعمل على تجييش كل المختلفين معها ضدها، والدفع نحو توتير الأوضاع بما يفسح المجال لإعادة الانتخابات.
وباتيلي لم يجانب الصواب عندما اعتبر هذا الشرط مرتبطا بشروط الترشح ويبين عمق انعدام الثقة بين الطبقة السياسية. ومن الممكن أن يساء استخدامه لاستبعاد المرشحين من الجولة الثانية، والتشكيك في نتيجة الأغلبية المحتملة وتعطيل العملية الانتخابية برمتها، وكلامه من هذه الناحية أقرب إلى أن يكون صحيحا وواقعيا.
ثانيا: الربط بين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهو أمر جدلي يهدف إلى إخضاع صحة الانتخابات البرلمانية إلى صحة الانتخابات الرئاسية، كما أنه ناجم عن اعتبارات سياسية غير معلنة ويعرّض العملية لخطر التعطيل، بحسب رأي باتيلي، ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن مؤتمر الحوار السياسي الذي انعقد في تونس في نوفمبر 2020 هو الذي أوصى بتنظيم الاستحقاقين التشريعي والرئاسي في ديسمبر 2021، وكان ذلك تحت رعاية الأمم المتحدة وفي سياق مخرجات مؤتمري برلين الأول والثاني اللذين كان مصيرهما الفشل في أغلب المسارات باستثناء المسار الأمني، وكان من الواضح للمراقبين أن جمع الاستحقاقين كان يهدف إلى توفير الشروط الملائمة للانقلاب على النتائج أو على الأقل للمساومات بين الفرقاء في سياق التمهيد لنظام برلماني يضع رئيس الدولة في مرتبة ثانية من سلم السلطة التنفيذية بعد رئيس الحكومة.
◙ القوى المهيمنة على القرار في طرابلس والمنطقة الغربية تقف بقوة ضد السماح للفئتين بخوض الغمار الرئاسي، وهي تقصد بالأساس الجنرال حفتر
ويمكن القول إن الأطراف الفاعلة في المنطقة الغربية هي التي اشترطت تنظيم التشريعيات مع الرئاسيات في مواجهة بعض الأطراف في المنطقة الشرقية ومن أنصار النظام السابق الذين دعوا إلى تنظيم انتخابات رئاسية أولا، وحاليا تتجه تلك الأطراف للمطالبة من وراء الستار بتنظيم الاستحقاق البرلماني أولا بغاية إيجاد وقت كاف لإعادة النظر في قانون الانتخابات الرئاسية أو تأخير الحسم فيه إلى حين انتهاء مجلس الأمة القادم من وضع دستور جديد. السبب أن القوى الثورية المتشددة وتيار الإسلام السياسي وبعض الأطراف الحزبية والجهوية والميليشياوية تخشى وصول شخصية لا ترتاح إليها إلى كرسي الرئاسة من خلال انتخابات ديمقراطية وتعددية ومعترف بها عالميا، وأن تقوم تلك الشخصية بالانقلاب على المسار السياسي الحالي، خصوصا إذا تعلق الأمر بإحدى الشخصيات البارزة في استطلاعات الرأي مثل الجنرال خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي.
ثالثا: هناك ملف تشكيل حكومة جديدة، التي أكد باتيلي أنها لا يمكن أن تأتي إلا نتيجة تفاوض بين أصحاب الشأن الرئيسيين، وهو ما يعني أنها لن تأتي في الوقت المنظور على الأقل، فرئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها المهندس عبدالحميد الدبيبة استطاع أن يشكل تحالفات سياسية وحزبية ومالية واقتصادية وأمنية وعسكرية وأسرية وأن يكسب مناصرين من فئات مختلفة، وأن يجيد اللعب على حبال التوازنات الإقليمية والدولية، وأن يفتح بابا للحوار والمساومة من تحت الطاولة مع الجنرال حفتر، ونظرا إلى أنه يمتلك مفاتيح مصرف ليبيا المركزي ويعد حليفا موثوقا بالنسبة إلى الأتراك أصحاب القوة على الأرض، ويحظى بدعم المفتي المعزول من قبل البرلمان منذ 2014 والمعتمد من قبل سلطات طرابلس بصفة رسمية منذ 2012، ولأنه نجح في ترويض أغلب أمراء الحرب وقادة الجماعات المسلحة، فإنه لا أحد يمكنه مبدئيا أن يهدد منصبه أو يفرض عليه التخلي عن مكتبه كرئيس مجلس الوزراء، أضف إلى ذلك أنه نجح في ربط علاقات براغماتية مع أغلب الدول المؤثرة في الملف الليبي.
يقول باتيلي إن “أي حكومة جديدة لا مناص من أن تكون نتاج مفاوضات سياسية بين الأطراف الرئيسية”، لكن من لديه السلطة والثروة والقوة على الأرض مثل الدبيبة يمكنه البقاء في موقعه إلى حين الدخول معه في اتفاق حقيقي يؤهله إلى منصب آخر في المرحلة القادمة. ولا يغيب عن المبعوث الأممي أن رئيس الحكومة جاء إلى السلطة وفق خطة اشتغلت عليها أطراف متغلغلة في مواقع القرار منذ زمن القذافي، ولا يمكنها التنازل عن مصالحها وامتيازاتها مهما كان الثمن.
◙ الربط بين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهو أمر جدلي يهدف إلى إخضاع صحة الانتخابات البرلمانية إلى صحة الانتخابات الرئاسية، كما أنه ناجم عن اعتبارات سياسية غير معلنة
رابعا: هناك قضية حذف مواد من نسخة يونيو من مشروع القوانين الانتخابية، وهي المواد التي تسمح لحاملي الأرقام الإدارية بالتسجيل والتصويت والتي قد تزيد من التحديات التي تواجه تنفيذ الانتخابات في جنوب البلاد، وهذه مسألة مرتبطة بالخصوص بالطوارق والتبو وبعض مكونات المجتمع الأخرى، ومن المؤكد أنها ستشكل حجر عثرة في طريق أي مشروع للحديث عن انتخابات تعددية وديمقراطية وشاملة وقادرة على نيل ثقة كل فئات المجتمع الليبي.
وبالتأكيد هناك نقاط أخرى خلافية حتى وإن تم التوافق عليها في لجنة 6+6، فمثلا لا يزال ترشح العسكريين وأصحاب الجنسيات المزدوجة عنصر خلاف جوهريا. والقوى المهيمنة على القرار في طرابلس والمنطقة الغربية تقف بقوة ضد السماح للفئتين بخوض الغمار الرئاسي، وهي تقصد بالأساس الجنرال حفتر، كما ترفض ترشح رموز النظام السابق الملاحقين قضائيا حتى وإن تمت تبرئتهم من القضاء الوطني وعلى رأسهم سيف الإسلام القذافي. ولا شك أن هناك قوى إقليمية ودولية تدعم هذا التوجه منها الجزائر وتركيا وقطر وبريطانيا والولايات المتحدة، حتى أن ترشح القذافي لسباق 2021 كان بمثابة القوة القاهرة التي تصدرت دوافع عرقلة الاستحقاق.
المتابع للشأن العام في ليبيا يستنتج جملة من الحقائق والمعطيات من بينها أنه لا أحد من متصدري السلطة حاليا يريد الوصول إلى الانتخابات، لاسيما أنهم يحظون بامتيازات مهمة لم يكونوا يحلمون بها أبدا، وليس هناك ما يهدد مصالحهم رغم الأخطاء الفادحة التي يقترفونها في حق الدولة والمجتمع والتي تصل إلى مستوى الجرائم، ومنها التورط في الفساد والعبث بالمال العام وبالسيادة الوطنية والتبعية للأجانب والتخابر معهم وتجنيد المرتزقة وتعطيل جهود الحل السياسي والتنمية وغير ذلك من المسائل.
هل هناك أمل في التوصل إلى تنظيم انتخابات في المدى المنظور؟ إلى حد الآن كل المؤشرات تؤكد أن صناديق الاقتراع لا تزال بعيدة عن عيون الناخبين، وأن باتيلي يمارس وصاية تامة على الشأن الليبي من منطلقات وظيفته في انتظار أن تقرر العواصم الغربية وخاصة واشنطن ولندن الخروج بملف ليبيا من نفق الأزمة المتفاقمة منذ 12 عاما.