إجراءات عراقية متأخرة لتطويق الفساد المستشري في مشاريع إعادة الإعمار

دور أساسي للمكاتب الاقتصادية للميليشيات في نهب أموال إعمار المناطق المستعادة من داعش.
السبت 2024/02/17
وراء كل مشروع قصة فساد

مشاريع إعادة إعمار المناطق العراقية المدمرة بالحرب على تنظيم داعش تحوّلت من فرصة للسكّان المحلّيين لتحسين أوضاعهم واستعادة الاستقرار المفقود في مناطقهم إلى غنيمة للأحزاب والميليشيات الحاكمة والخبيرة بكيفية الوصول إلى المال العام ونهبه باستخدام العديد من الطرق والوسائل الملتوية.

بغداد - أعاد تحقيق أعلنت هيئة النزاهة الاتحادية العراقية عن فتحه بشأن شبهات تلقّي موظفين تابعين لبرنامج الأمم المتحدة لإعادة إعمار العراق رشى تسليط الأضواء على ظاهرة الفساد المستشرية في مشاريع إعادة إعمار المناطق المتضرّرة من الحرب التي دارت على أرضها ضدّ تنظيم داعش بين سنتي 2014 و2017.

وكان قد أعلن عن إطلاق برنامج إعادة إعمار تلك المناطق منذ سنة 2015 وتم توفير الغطاء المالي له إثر مؤتمر دولي انعقد بالكويت سنة 2018 وتعهّد المانحون خلاله بتوفير مبلغ ثلاثين مليار دولار، الأمر الذي أثار مطامع القوى السياسية والفصائل المسلّحة المعتادة على نهب المال وتحويل أموال المشاريع العمومية لمصلحتها عبر طرق عديدة للاحتيال والالتفاف على القوانين ودفع الرشى للمسؤولين الاتّحاديين والمحلّيين.

وتتالى منذ ذلك الحين الكشف عن قضايا فساد وتلاعب في مشاريع إعادة الإعمار المتلكئة أصلا، إلاّ أنّ فضيحة الفساد التي فجّرها مؤخّرا تحقيق صحفي بريطاني، شكّلت صدمة استثنائية كون الفضيحة متعلّقة ببعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق “يونامي”، الأمر الذي عكس مدى استشراء الفساد داخل مختلف المؤسسات في البلد إلى درجة أثّرت في نزاهة الهيئات الدولية العاملة على أرضه.

الضالعون في نهب المال العام في العراق يمتلكون من قوة النفوذ ما يجعلهم في مأمن من أن تطالهم التحقيقات والعقوبات

وأعلنت هيئة النزاهة في بيان أنّ فريقا تابعا لها شرع في التحقيق بمعلومات أوردها تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية بشأن تلقي تابعين لـ”يونامي” لرشى.

وأشارت المعلومات الواردة في التقرير إلى أن موظفي البعثة الأممية تقاضوا رشى من مقاولين عراقيين ضمن مشاريع صندوق إعادة إعمار المناطق المستعادة من تنظيم داعش.

وقال البيان إنّ فريق النزاهة تواصل مع محررة التحقيق للحصول على دلائل بشأن المعلومات التي استندت إليها في اتّهامها لموظفي الأمم المتحدة العاملين في العراق.

ويترافق تحقيق الهيئة العراقية مع تحقيق مواز شرعت فرق الأمم المتحدة في إجرائه انطلاقا من مقر المنظّمة في نيويورك.

ووعدت هيئة النزاهة في بيانها بإعلان أي “حقائق ناصعة” يتم التوصّل إليها من قبل فريق التحقيق التابع لها للرأي العام.

لكنّ العديد من الدوائر السياسية والإعلامية العراقية شككّت في فاعلية التحقيق الجاري في تفكيك شبكات الفساد المتشعّبة واستعادة الأموال المنهوبة من الأرصدة المخصصة لمشاريع إعادة إعمار المناطق المدمّرة.

ورأت تلك الدوائر أنّ تحرّك الهيئة جاء بسبب تحوّل قضية الفساد في مشاريع إعادة الإعمار إلى فضيحة دولية، بينما القضية متداولة منذ سنوات وعلى نطاق واسع وترد بشأنها الكثير من المعلومات في وسائل الإعلام المحلّية.

وقالت إنّ الضالعين في نهب أموال تلك المشاريع يمتلكون من القوّة والنفوذ ما يجعلهم في مأمن من أن تطالهم تحقيقات النزاهة.

وأكّدت أنّ قياديين كبارا في أحزاب حاكمة وفصائل مسلّحة يقفون على رأس شبكات المضاربة بالمشاريع ومنحها للمقاولين مقابل الحصول على الرشى والعمولات.

كما أشارت إلى أنّ بعض من حصلوا على عقود لإنجاز مشاريع في مناطق غرب وشمال العراق ليسوا سوى أشخاص تابعين لتلك الأحزاب والفصائل ومكلّفين بإنشاء واجهات بعناوين مختلفة لا تحيل على أحزابهم وفصائلهم.

وكان إصرار الميليشيات الشيعية التي شاركت في الحرب ضدّ تنظيم داعش في المناطق التي غزاها والواقعة في أغلبها شمالي العاصمة بغداد وغربها والتي يشكّل أبناء الطائفة السنية غالبية سكّانها، على البقاء في تلك المناطق بعد الحرب قد تحوّل إلى مدار صراع بين تلك الميليشيات ضدّ بعضها البعض وضدّ السكّان المحلّيين.

متى تنتهون

ويتذّرع قادة تلك الميليشيات المنضوية ضمن هيئة الحشد الشعبي بدواع أمنية لتبرير عدم سحب ميليشياتهم من مناطق شمال وغرب العراق، على اعتبار أن تلك المناطق لا تزال مهدّدة بعودة تنظيم داعش إليها.

لكنّ قيام تلك الميليشيات بفتح مكاتب اقتصادية لها في محافظات مثل نينوى وكركوك وصلاح الدين والأنبار وديالى كشف أهدافها الحقيقية من إصرارها على عدم مغادرتها وهي الحصول على نصيب من أموال إعادة الإعمار.

وأحدث التنافس الشديد بين تلك القوى النافذة على مشاريع إعادة إعمار المناطق العراقية المدمرة جرّاء الحرب فوضى كبيرة في عملية إسنادها للمقاولين ورصد الأموال لها، وأدّى إلى تعثّر إنجازها وصولا إلى وقفها.

وتمّ في وقت سابق وقف إنجاز تلك المشاريع بشكل مؤقت وذلك في إثر قرار من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بإعفاء رئيس صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من حرب داعش محمد هاشم العاني من منصبه، وذلك بعد تواتر المعلومات بشأن سوء أداء الصندوق وآلية توزيع المشاريع في المناطق والمحافظات.

وتقرر آنذاك تكليف سعد فيصل أمين الجبوري بمهام إدارة الصندوق بدلا عن العاني، فيما أعلنت الحكومة عن وضع  برنامج لإجراء الإصلاحات الإدارية في الصندوق وإعفاء الموظفين المقصرين أو المتلكئين الذين تسببوا بهدر المال العام، وعدم تحقيق الغرض المطلوب من الصندوق.

لكن تلك الإجراءات الحكومية بدت غير فاعلة في إنهاء ظاهرة الفساد في مشاريع إعادة الإعمار، وهو ما أكّده تحقيق صحيفة الغارديان.

وورد في التحقيق أنّ مبالغ ضخمة من الأموال التي خصصتها الدول المانحة لبرنامج إعادة إعمار المدن المستعادة من داعش قد فقدت جراء ممارسات فساد على يد أفراد تابعين لبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة من خلال مطالبتهم مقاولين برشى للفوز بعقود إعادة الإعمار.

وأشارت الصحيفة إلى أن الفساد والرشاوى يشكلان عصب حياة مفاصل السياسة في البلد ولهذا فإن الأمم المتحدة تنفذ مشاريعها بشكل مباشر على أمل تحقيق شفافية أكثر مما هو موجود في المؤسسات المحلية.

ونقلت عن منظمة برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة أنها تمتلك “آلية داخلية تمنع وتكشف حدوث فساد وسوء إدارة، مدعومة بإجراءات مساءلة صارمة وقيود داخلية”.

مشاريع إعادة الإعمار بطيئة
مشاريع إعادة الإعمار بطيئة

لكن مقابلات جرت مع أكثر من عشرين منتسبا حاليا وسابقا في الأمم المتحدة ومع مقاولين ومسؤولين عراقيين وغربيين، أشارت إلى أن وكالة تابعة للمنظمة الأممية في العراق تغذي ثقافة الرشوة التي توغلت داخل المجتمع العراقي منذ أكثر من عقدين.

واستنادا إلى ثلاثة منتسبين وأربعة مقاولين، فقد كشفت الصحيفة أن رشى بلغت قيمتها 15 في المئة من قيمة العقد قد تمت المطالبة بها من قبل كادر في الأمم المتحدة. بالمقابل يقوم المنتسب بمساعدة المقاول على الدخول في منظومة مناقصة برنامج الأمم المتحدة المعقد لضمان اجتياز عملية التدقيق.

واستنادا إلى أحد المقاولين، فإنه تمت مفاتحته وزملاء له من قبل موظفين من برنامج الأمم المتحدة مطالبين برشوة، مضيفا قوله “لا أحد يحصل على عقد دون أن يدفع، ليس هناك شيء في هذا البلد تحصل عليه دون أن تدفع رشوة، لا من الحكومة ولا من برنامج الأمم المتحدة”.

وقال أحد منتسبي البرنامج الأممي إن الصفقات تجري على نحو شخصي دون اعتماد أي وثائق لتلافي التحقق مع قيام عراقيين متنفذين في بعض الأحيان بدور الكفيل. وأوضح أنّ “الطرف الثالث يأخذ حصة أيضا من مبلغ الرشوة، وأن مقاولين يستعينون بأشخاص ذوي نفوذ كبير”.

كما أشار التحقيق إلى وجود معلومات بشأن مسؤولين حكوميين مؤتمنين لدى مكتب برنامج الأمم المتحدة للتنمية من الذين يشرفون على مشاريع البناء يأخذون حصة من الرشوة.

وقال مقاولون وموظّفون من كادر الأمم المتحدة المشرف على عدد من المشاريع إنّ مسؤولين يستغلون سلطتهم للابتزاز وتلقي رشى من شركات مقابل التوقيع على مشاريع مكتملة.

وأعقبت الكشف عن هذه المعلومات مغادرة الممثلة الخاصّة للأمين العام للأمم المتّحدة جينين بلاسخارت للعراق، ما جعل جهات عراقية تربط حدث المغادرة بالكشف عن فضيحة الفساد.

لكنّ البعثة الأممية إلى العراق أصدرت بيانا توضيحيا أكّدت فيه أن مغادرة بلاسخارت “تتسق مع الممارسات المتبعة داخل الأمم المتحدة بما في ذلك التناوب المعتاد لكبار مسؤولي المنظمة”.

كما نأت البعثة بنفسها عن أي مزاعم فساد تطال عملها في العراق مؤكّدة أنّ لها هياكل إدارية ومالية مختلفة، ودعت وسائل الإعلام إلى “إيلاء الأولوية للدقة والامتناع عن تعميم معلومات مضللة”.

3