إثيوبيا تسعى لترويض مصر قبل بدء الملء الرابع لسد النهضة

تعكس رسائل التطمين التي ساقها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، لأول مرة منذ بدء أزمة سد النهضة، تجاه القاهرة تغييرا في مقاربة أديس أبابا لمعالجة الأزمة. وبدا آبي أحمد أكثر انفتاحا على الحوار مع القاهرة والخرطوم بانتظار إذا ما كان التصريحات تطابق التحركات على الأرض.
القاهرة/ أديس أبابا - في الوقت الذي تستعد فيه إثيوبيا للملء الرابع لخزان سد النهضة، حاولت ترويض مصر بتبني خطاب يطمئنها بأن الملء الأكبر والأخطر لن يمثل ضررا لها، والحديث عن توظيف حرب السودان سياسيا غير صحيح.
وكشفت مصادر مصرية لـ”العرب” أن الخطاب الناعم الذي تبناه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أخيرا يعبر عن تغير في اللهجة ولا يشير إلى تحول في المضمون، فالرجل حساباته النهائية لم تتبدل، لكنّ هناك ضغوطا تعرّض لها من بعض القوى الدولية للتوقف عن استفزاز القاهرة، وإيجاد قواسم مشتركة للتفاهم معها.
وألمحت المصادر ذاتها إلى أن تطوير التعاون بين مصر والهند لعب دورا في تغير الخطاب الإثيوبي، حيث تسهم نيودلهي بدور فعال في النواحي اللوجستية لمشروع سد النهضة، وتريد أن تحافظ على علاقات قوية مع القاهرة وأديس أبابا، ما جعلها تتدخل أخيرا لنزع فتيل التوتر بينهما وتنمية فكرة التعاون بدلا من الصدام.
وذكرت مصادر أخرى لـ”العرب” أن الأجواء السياسية في إثيوبيا وطموح آبي أحمد الإقليمي والاستقرار النسبي الذي تحقق له في السلطة بعد تهدئة أزمة تيغراي منحته قدرة على عدم الحاجة إلى التصعيد اللفظي أو تبني خطاب زاعق يدغدغ مشاعر الإثيوبيين ويستنفرهم لدعمه.
وأضافت أن الشكوك التي أثيرت حول استثمار أديس أبابا للصراع الضاري في السودان أسهمت أيضا في تبني لهجة مرنة لدحض الاتهامات التي لاحقت القيادة الإثيوبية للاستفادة من انخراط الطرف السوداني في الحرب والتغول في قضايا المياه وإضعاف الموقف المصري، أو القيام بشن حرب على منطقة الفشقة التي أعاد الجيش السوداني السيطرة عليها قبل عامين.
وقال رئيس وزراء إثيوبيا أمام برلمان بلاده الخميس إن “المصريين والسودانيين إخواننا، ونأخذ في الاعتبار التخوفات التي يثيرونها بشأن سد النهضة”، مؤكدا استعداد بلاده للتشاور والوصول إلى حلول وبدء مشروعات مشتركة، والعمل على مرور مياه كافية إليهما وبصورة لا تضرنا ونعمل على الإيفاء باحتياجاتهم وتنميتنا.
وتطرق آبي أحمد إلى ما كان يثار من خلافات بشأن سد النهضة قائلا “السؤال الهام هو كيف يمكننا أن نقوم بمشاريع جديدة مشتركة معاً بدلاً من الجدال، كيف يمكننا أن نقوم ببدء أعمال جديدة ونحن جاهزون للتشاور مع إخواننا ونصل إلى حلول”.
وأوضح ضياءالدين القوصي المستشار السابق لوزير الري المصري أن حديث آبي أحمد تطرق لعدة نقاط لأول مرة منذ أزمة السد عن التعاون بعد أن كانت إثيوبيا ترى أن النيل الأزرق حق رئيسي لها بمفردها دون الاعتراف بأحقية مصر والسودان.
وأكد في تصريح لـ”العرب” أن هذا الحديث جاء كنتاج لمباحثات غير معلنة جرت على مستوى قيادات تنفيذية وفنية في البلدين وبعد أن لوحت القاهرة باللجوء إلى جهات دولية لإصدار أحكام بشأن التصرف في مياه الأنهار الدولية العابرة للحدود.
وأشار إلى أن إثيوبيا تدرك أنها لن تتمكن من الاستفادة الكاملة من 27 مليار متر مكعب لإتمام الملء الرابع للسد بعد أن تمكنت من ملء 13 مليارا فقط في مراحل الملء الثلاث الماضية، وبالتالي هدفت إلى إظهار نفسها كطرف يراعي مصالح جيرانه.
ويذكر أن ضخامة كميات المياه في الملء الحالي يمكن أن تؤثر سلبًا على حصة مصر والسودان، خاصة أن إجمالي إيراد النيل الأزرق سنويًا يصل إلى 50 مليار متر مكعب، أي أنها قد تستحوذ على أكثر من نصف الكمية المتاحة.
ولفت القوصي في حديثه لـ”العرب” إلى أن القاهرة ستتعامل مع تصريحات آبي أحمد بالمزيد من الهدوء ولديها من المعلومات ما يجعلها متيقنة من أن السد سيكون في حاجة إلى ملء خامس وسادس وعاشر أيضا، ورفضت مصر أن تنجرف لفكرة ضرب السد عندما حصلت على ما يشبه الضوء الأخضر من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ولم توظف أزمة تيغراي سياسيا.
وحث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في الرابع من يونيو الماضي إثيوبيا على قبول حل وسط بشأن أزمة سد النهضة، في إشارة فهمت على أنها رسالة من القاهرة إلى أديس أبابا بأن هناك فرصا مجدية لإيجاد قواسم مشتركة بينهما.
والتقى السيسي وآبي أحمد على هامش قمة “ميثاق التمويل العالمي الجديد” في الثاني والعشرين من يونيو الماضي في باريس، وبدا اللقاء عابرا، لكنه أوحى بعدم وجود قطيعة بينهما، وحمل رسالة بإمكانية البحث عن صيغة منتجة للطرفين.
وتمسكت القاهرة والخرطوم بضرورة الوصول إلى اتفاق ملزم مع إثيوبيا بشأن ملء السد وتشغيله لضمان استمرار تدفق حصّتيهما المائية التاريخية، بينما أصرت أديس أبابا على رفض هذا الطرح، مؤكدة أن مشروعها لا يستهدف الإضرار بأيّ دولة.
واستمر الموقف متراوحا بين صعود وهبوط إلى أن تجمدت المفاوضات في العاميين الماضيين، وتحولت أزمة سد النهضة إلى أزمة موسمية بين الدول الثلاث ويتردد صداها كلما حدث تطور من جانب أيّ منهم أو شرعت إثيوبيا في ملء خزان السد.
وتجمدت غالبية المواقف الإقليمية والدولية، وبدأت كل دولة تعتمد على علاقاتها الثنائية بالقوى الحليفة لها أو القريبة منها لأجل دعم رؤيتها الفنية والسياسية.
وأكدت الخبيرة في الشؤون الأفريقية أميرة عبدالحليم أن المعلومات المتداولة تشي بوجود مشكلات في عملية الملء الرابع للسد، ولن تكون إثيوبيا في حاجة إلى كميات كبيرة من المياه، وخطاب آبي أحمد موجه إلى الداخل الإثيوبي للتأكيد على أن الدولة منفتحة على جيرانها وأن الحكومة ليست لديها رغبة لإثارة مشكلات بالداخل والخارج.
واعتبرت عبدالحليم في تصريح لـ”العرب” أن الأزمة في السودان سوف تجلب تغيرات في المنطقة تعيد رسم التوازنات في الإقليم، مع سيناريوهات عديدة قاتمة للأزمة، وأرادت أديس أبابا إعادة تموضعها ضمن التغيرات المنتظرة مع تصدير خطاب يبين رغبتها في التعاون وحل الأزمات ما يجعلها رقمًا مهمًا في أيّ تحولات مستقبلا.
وتأثرت القاهرة بالصراع في الخرطوم، وبدت كمن خسر الرافعة الأخرى التي تسند موقفها في الضغط المعنوي على أديس أبابا، ما دفعها لتجنب حدوث قطيعة مع إثيوبيا والبحث عن قوى للوساطة على قاعدة المنافع المتبادلة، الأمر الذي يفسر التغير الظاهر في خطاب آبي أحمد، والخيط الذي مده لمصر.
ومن المتوقع أن تلتقطه القاهرة وتتفاعل معه بالطريقة التي تراها مفيدة لمصالحها، لأن هذا الخيط يحوي ملامح إيجابية حتى ولو لم يحدث تحول في الموقف الإثيوبي.