إبراهيم علي رسام الهواجس الإنسانية القلقة

يحرص الفنان التشكيلي السوري إبراهيم علي على التنويع في إنتاجه الفني والجمالي، جامعا في لوحاته بين الأصالة واللغة التشكيلية الحديثة، فتأتي لوحاته ممتلئة بالمبنى والمعنى معا، ومعبّرة في الآن ذاته عن أفكاره الداخلية عقلا وروحا ووعيا.
غريب ملا زلال
"الشعر متعة، ومهمة النقد زيادة المتعة" كما يقول ت.س إليوت، أوَ ليست اللوحة الفنية متعة أيضا ومهمة قراءتنا أقلها زيادة هذه المتعة، فلنبحث عن هذه المتعة أولا ونحن نقف أمام أعمال الفنان التشكيلي السوري إبراهيم علي، ومن ثم العمل على زيادتها وتفعيلها ونحن نبدأ بقراءتها، وهي ليست قراءة كلية ولا نهائية، فالقراءات كثيرة لا حدود لها، ولا يمكن حصرها.
كما لا يمكن في جميع الأحوال اعتبارها شكلا منسجما بذاتها وإن كانت مكونات عناصرها أشبه باستنطاق خلاصاتها الدلالية كلحظات تأويلية وفق فرضية جمع الحالات الزمكانية بالانسجام مع المعطيات التي يذهب إليها علي بعمله دون أن يربطه بنمط فني معيّن، وهذا ما يجعله قادرا منذ البدء على تحديد كنهه داخل آليات البعد التشكيلي بالبحث عن المضامين الدلالية لعناصره غير المعزولة عن بعضها البعض، والحاملة لقيمها الدلالية.
تجليات متنوّعة
يستند إبراهيم علي ضمنيا على مفردات ذي طبيعة بصرية وهي في الواقع إدراكية، ولهذا عليه ونحن معه كمتلقين التحقّق من الواقعة الفعلية التي تدل على هذا المعنى أو ذاك، فالأمر عنده يتعلّق بتجليات بصرية متعدّدة ومختلفة ومنها، أي من خلال هذه التجليات، يمكننا التعرّف على أشيائه التي لا تبدو إلاّ ببعض سماتها كإقامة علاقة دلالية في حصيلتها، والتي تشي بهذه القيمة أو تلك والتي تسرّبت إلى الذاكرة، نقصد هنا ذاكرة عمله لا ذاكرته.
وهذا في حد ذاته تقارب للزمن الميتافيزيقي قبل تقييمه كتركيب فني بصري حامل لشروط تولده في أوسع اغترابه بما فيها تحوّله إلى ظاهرة من الصعب إثبات إخفاقها، وإن كانت الثغرة إليها ملائمة، وهذا لا يتنافى مع منطق الغرق في اللامعنى المتصل باللاوعي.
وعلي يسعى جاهدا إلى إيجاد شروط ملائمة لتفعيل العمل المنتج والعمل على انتشاره مهما كانت سيرورة التحوّلات مختلفة، فهو لا يخاطر لا بزمن الداخل ولا بزمن الخارج لأنه يدرك بأن المخاطرة بأحدهما تعني أن العمل سيرتدّ عليه أو قد يولد هجينا.
وهذا التناظر بينهما هو من مستلزمات نتاجات حقول علي الفنية لا كاستجابة لمقتضيات نشأتها بل فاعلا في تحوّلاتها دون أن يعيقها أي حركة اندفاعية، وصولا إلى تحديد ثنائية الداخل / الخارج كمسعى للتحرّر من تأثير الوافد وإن بنسب قليلة.
ونعني هنا أنه محكوم بما يشبع أطيافه ورغباته بأشكال فيها من التباين والتنوّع الشيء الكثير، وهذه إشارة بأنه أقرب إلى توقعات متلقيه وقراءاته منها إلى رغباته في إعادة إنتاج مقترن باستطرادات قد لا تستجيب إلى التقاط الأنغام المتجاورة لتحوّلات الزمن الجديد والمنسربة من مدى استفزاز عوائق تحريره لوعي العمل المنتج.
ولذلك فإن أعمال علي هي أبعد من التوصيف الإنشائي على نحو ضمني بل تلح على الحديث مع ذاتها لإزالة كل أشكال القيود لتبدأ بالتكسير حينا أو القفز عليها كنوع من المغامرة المكسية بالمخاطرة، فهو يسهم على نحو غير مباشر بل ومباشر أيضا بتحويل الأذهان من الغرق في موضوع ما إلى المتعة به خصوصا في أفقه الجمالي، الأمر الذي يجعله حريصا على بوصلته تماما والاتجاه الذي تُشير إليه.
وهو يستجيب لتلك الحواريات الأثيرة والمتصلة بعلاقات إنتاج معرفته وإبداعه، كما يستجيب للاختلاف في مبنى سردياته، حيث يفتح النوافذ في كل تنقلاتها ويلحق بها وعلى نحو منتظم تلك المجموعة من العناصر التي ستشكّل فيما بعد مقولته الجمالية، والتي سيطرحها بجهد يخضع لمشروعية الاختيار والمرهون بالعثور على المتعة الصالحة كأنموذج يمشي إليه ببوصلته الخاصة، وهذا ما ينطوي عليها حضوره المكثّف في ترحاله الجميل.
ألوان الحياة
في لوحات إبراهيم علي حوار للرؤى التشكيلية بما تحمله من هواجس وتصورّات تجعل المتلقي يذهب معه في رحلته إلى الأعماق الإنسانية ليقرع باب الشمس ويمسح عن جفون الحرف باستنباط المعنى.
وعن منجزه الفني تقول الناقدة الفنية منى كوسا “صوره مشحونة بعاطفته المتفجرّة، حيث ينشىء بين مفرداته علاقات جديدة تثير الدهشة، حيث تتجلى قيمة لوحاته في الصدى الذي يخّلفه وراءه لدى المتلقي”.
وتضيف “أفكاره لم تعتقه وقد سبق لها وتجذّرت لتمتزج مع خطوطه وألوانه ومسطحاته، فالإيقاع عنده له صداه، له مداه ووعيه المخزون، صدى موسيقاه اللونية تنساب مع موسيقاه النفسية الداخلية بعلاقتها الحارة، وهذه الموسيقى التي تداخلت في ثنايا خطوطه تتلائم مع عزفه على قيثاره الذي كان شدوه الشجي مبنيا على ابتكار الضوء وصياغة الأمل عبر فن مُشرق”.
هكذا ينبلج فن علي من خلف الأفق الإنساني على صهوة فجر تشكيلي مميّز بشّر به وانتظره بتفاؤل ليستمر في إبداعه.
أعمال الفنان السوري أبعد من التوصيف الإنشائي على نحو ضمني بل تلح على الحديث مع ذاتها لإزالة كل أشكال القيود
رحلته الفنية تتجسّد في الحاضر وتديرها ريشته المتعدّدة الألوان والمدارس، ريشة فنان تولد اللوحة إثر اللوحة فتشرق الكلمة والمعنى ويبقى الصدى يتردّد على أشرطة الزمن في كل أبعاده.
أعماله نقطة ضوء في عالم مسحور، وهو فنان يُسافر في الفن مبتهجا، يرسم ويحلم باحثا عن المجهول متنقلا بين الوقائع والرؤى، أداته الفن الخالص، حيث نذر له حياته.
استطاع علي أن يحرّر نفسه من المبالغة من خلال الضرورات الفنية التي تدفعه باستمرار للبحث عن وسائل علاج جديدة لعمله من الممكن أن تكون قطعة قماش مادة له، فيضع المتلقي أمام أسئلة لوحاته وموضوعاته وهو يتألق فنا وروحه تنشد بالحب.
لوحاته محبوكة بأكثر من صوت لحوار بين المتلقين فيها حركة الحياة، غّلفها بالرمز والشفافية من جمال الفن التشكيلي الذي لا يشبه إلاّ ذاته، حسا وإيقاعا ومعان تنساب على ضفافها المهارة في التقنية والتركيب من حيث البناء وأصالة الانتماء.
أعمال إبراهيم علي تستحق التحليل والتقييم لأصالتها، والمتابع لتجربته الفنية يشعر أنه كلما توغل الإبحار في فنه كلما أغرته أعماقه غوصا في مخزونه الذي تخفيه شفرات تختزنها موضوعاته المتجددة، يقرأ شعاره بالتفاؤل والمحبة والتجدّد والأمل، يجد في لوحاته حواره مع ذاته ومع الآخر.
ومن هناك رسّخ التشكيلي السوري فنه في أعماق الجمالية فأتقن صياغته التشكيلية بتفوّق في جدلية الخلق والتكوين، كذلك في التقاء الضوء وانعكاسه، إنه أكثر من مجرّد تصوير للحياة، إنه إبداع للحياة، حكاية مصنوعة من خبرة وتجربة وواقع.