إبراهيم تراوري زعيم بوركينا فاسو الجديد على خطى الملهم سانكارا

رئيس جمهورية بوركينا فاسو يرفع شعار السيادة ويعلن موقفا راديكاليا مناوئا لفرنسا.
الأحد 2023/10/08
أصغر رئيس دولة في العالم يحظى باحترام زملائه في الجيش

“معا، نحن ملتزمون بتحرير بلدنا. وإنني مطمئن إلى تصميمي على قيادة العملية الانتقالية بنجاح على الرغم من الشدائد والمناورات المختلفة لوقف مسيرتنا الحثيثة نحو السيادة المفترضة”، بهذه الكلمات خاطب رئيس جمهورية بوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري شعبه.

خلال توليه السلطة كان تراوري لا يتجاوز 34 عاما من عمره، وهو ما جعل منه أصغر رئيس دولة في العالم. يحظى باحترام زملائه في الجيش، بمن في ذلك القادة الكبار الذين يتجاوزونه من حيث الرتب العسكرية والخبرة.

ويرفع شعار السيادة ويعلن موقفا راديكاليا من دور فرنسا في مستعمراتها السابقة، ويتبنى مواقف أغلب أبناء شعبه الذين يرون أن فرنسا لم تقدم شيئا لبلادهم، وعندما انقض عليهم الإرهابيون وجدوا أنفسهم دون سند حقيقي رغم التحالفات التي جرى تشكيلها.

اتجه تراوري شرقا إلى موسكو، وتجلى ذلك في المظاهرات التي كانت تدعم انقلابه، والتي رفعت الأعلام الروسية فيما هاجم متظاهرون مقر السفارة الفرنسية في العاصمة واغادوغو، محملين باريس مسؤولية استمرار الهجمات الإرهابية في بلادهم، وداعين الحكام الجدد إلى التحالف مع موسكو بدلا منها.

بوكس

في 19 أبريل أعلن تراوري “التعبئة العامة”، التي سمحت بتجنيد البوركينابيين الذين تزيد أعمارهم عن 18 عاما للمشاركة في المجهود الحربي. كان ذلك سيرا على خطى “الدفاع الشعبي المعمم” الذي دعا إليه الملهم توماس سانكارا، مع استشهاد دائم بشعاراته حول جملة من المفاهيم، من بينها “التعبئة الوطنية” ومحاربة “الإمبريالية” و”التنمية الذاتية”.

نجح تراوري منذ اليوم الأول لتوليه السلطة في إحياء جذوة الانتماء الوطني في نفوس البوركينابيين الذين خرجوا في مظاهرات 14 أكتوبر 2022 منادين بتعيينه رئيسا للدولة، وبعد أسبوع واحد كلفه المجلس الدستوري برئاسة المرحلة الانتقالية.

كان أول أهدافه توحيد صفوف مواطنيه لمواجهة الجماعات الإرهابية، وقامت حكومته بتجنيد استثنائي لـ3000 جندي، بالإضافة إلى تسجيل 50000 مساعد كمتطوعين للدفاع عن الوطن. لكنْ كانت هناك عراقيل جدية في طريق الرئيس الشاب منها أن مخازن الجيش لم تكن تحتوي على أكثر من 200 بندقية رشاشة.

يجد تراوري صدى مهما لدى الشباب الذين يمثّلون 70 في المئة من أبناء شعبه ومازالوا غير ممثلين بشكل حقيقي في مواقع القرار.

في 17 يناير الماضي عاد الرئيس الشاب إلى جامعته السابقة التي تخضع للنفوذ الماركسي. وعد بمراجعة الاتفاقات العسكرية مع فرنسا، وبعد أقل من شهر أعلن عن إجلاء الوحدة العسكرية الفرنسية من البلاد وهي كتيبة مكونة من قرابة 400 جندي من القوات الخاصة.

وفي مقابلة تلفزيونية قال “نحن لسنا أعداء للشعب الفرنسي. إن سياسة أولئك الذين يحكمون فرنسا هي التي تشكل مشكلة في أفريقيا” .

كان واضحا أن القائد الشاب قرر توجيه بوصلة التحالفات الجديدة لبلاده سياسيا وإستراتيجيا نحو روسيا، ودخل في تحالف ثلاثي واتفاقية للدفاع المشترك مع المجلسين العسكريين في مالي والنيجر.

يبدو تراوري الأكثر وضوحا في المواقف والرؤى والعقيدة الفكرية والسياسية بين نظرائه قادة المجالس العسكرية التي وصلت إلى الحكم في دول الساحل عبر انقلابات، وهو إلى حد الآن يلهب الحماس في أبناء شعبه، ويعيد إليهم الأمل في تحرير بلادهم من الإرهاب، ومن التبعية المذلة للقوى الأجنبية، ويعد بالعودة إلى مشروع التحرر الوطني الذي قاده سانكارا قبل أن يتم القضاء عليه. فقد يحقق الطالب ما فشل في تحقيقه الأستاذ، شريطة ألا يطيح به انقلاب جديد.

لقد كان لافتا أن تراوري تولى السلطة في نفس عمر سانكارا عندما حكم البلاد، وبنفس الرتبة العسكرية تقريبا حيث أن رتبة نقيب هي التي تلي رتبة رائد مباشرة، وبنفس القبعة الحمراء.

كما أن كلا منهما قاد انقلابا بعد ثمانية أشهر من انقلاب آخر، يضاف إلى ذلك أن نفس القناعات والرؤى والمبادئ التي عرف بها سانكارا يحملها تراوري انطلاقا من المشاعر الوطنية المتدفقة في بلد لا يزال منذ استقلاله في عام 1960 يواجه كل مؤشرات التخلف الحضاري والاقتصادي، ويعاني من الفساد المالي والإداري، ومن سيطرة الإرهاب على جزء كبير من أراضيه ومن مجتمعاته المحلية.

◙ القائد الشاب قرر توجيه بوصلة التحالفات الجديدة لبلاده نحو روسيا
القائد الشاب قرر توجيه بوصلة التحالفات الجديدة لبلاده نحو روسيا

قبل توليه منصب الرئيس الانتقالي اتجه تراوري إلى النصب التذكاري للزعيم سانكارا، ووضع عليه باقة ورود، كما تولى إيقاد الشعلة الثورية السانكارية وسط مشاعر ودموع الآلاف من أبناء شعبه.

كانت رسالته إلى شعبه أنه يسير على درب الزعيم التاريخي للبلاد، وأنه مستعد للتضحية بحياته إذا لزم الأمر كما فعل سانكارا.

ولد تراوري عام 1988 في بوندوكو بولاية موهون، غربي بوركينا فاسو، وهناك تلقى تعليمه الابتدائي، قبل أن يلتحق بمدرسة ثانوية في بوبوديولاسو حيث اشتهر بهدوئه وبأنه “موهوب للغاية” وفق ما أكده أساتذته وزملاء الدراسة.

في عام 2006 اتجه تراوري إلى جامعة واغادوغو لدراسة الجيولوجيا، وهناك انضم إلى رابطة الطلبة المسلمين، لكن النزعة اليسارية كانت واضحة على مواقفه الاحتجاجية ضد الاستغلال الاقتصادي والظلم الاجتماعي والتدخل الخارجي المباشر في شؤون بلاده.

وفي عام 2009 التحق بالجيش وتخرج من أكاديمية جورج ناموناو العسكرية، ثم أرسل إلى المغرب لتلقي تدريب في سلاح المدفعية قبل نقله إلى وحدة مشاة في كايا، وهي بلدة في شمال بوركينا فاسو.

بوكس

عمل عشر سنوات على الجبهة في شمال ووسط البلاد حيث كانت البلاد تواجه هجمات الجماعات الإرهابية. وتمت ترقيته إلى رتبة ملازم أول في عام 2014، وانضم إلى بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي.

في عام 2018 جرى الاستشهاد به كواحد من جنود البعثة الذين أظهروا الشجاعة في التصدي لهجمات المتمردين الرئيسية في منطقة تمبكتو. ثم عاد بعد ذلك إلى بوركينا فاسو حيث ساعد في العمليات ضد الجماعات الإرهابية. في عام 2020 تمت ترقيته إلى رتبة نقيب.

منذ عام 2015 وقعت بوركينا فاسو في دوامة عنف منسوبة إلى الإرهابيين المرتبطين بتنظيميْ القاعدة وداعش، والذين ضاعفوا الهجمات الدموية مخلفين الآلاف من القتلى -المدنيين والجنود- وأكثر من مليوني نازح وفق الأرقام التي قدمتها المنظمات غير الحكومية في ظل استمرار ظاهرة الصراع المحتدم على السلطة.

تعتبر بوركينا فاسو من أكثر دول المنطقة تعرضا للانقلابات في تاريخها، ففي الخامس من أغسطس 1960 استقلت “فولتا العليا” عن الاستعمار الفرنسي، وتحولت إلى جمهورية يرأسها زعيم حزب التجمع الديمقراطي الأفريقي موريس ياميوجو الذي بادر بقمع المعارضة واعتماد سياسة ونظام الحزب الواحد، وهو ما دفع باتحاد نقابات العمال إلى الاحتجاج عبر الإضراب العام.

وفي الرابع من يناير 1966 استولى الجيش على الحكم وأصبح الجنرال أبوبكر سانجولي لاميزانا رئيسا للدولة.

منذ ذلك التاريخ دخلت البلاد في دوامة الانقلابات التي لا تكاد تتوقف. كانت هناك محاولات للتخلص من هذه الظاهرة من خلال تنفيذ توصيات غربية تهمش دور المؤسسة العسكرية، لكن كانت النتيجة أن ضعف الجيش وسيطر الإرهاب ولم تنته الانقلابات.

وبسبب أزمة الجفاف وتأثيرها على أوضاع المزارعين، واحتجاجات نقابات التعليم على قرارات تعسفية طالت عددا من زملائهم، واتساع دائرة المحسوبية والفساد، قاد الجيش ثاني انقلاب عسكري في جمهورية بوركينا فاسو في 25 نوفمبر 1980 ليطيح بالجنرال لاميزانا ويعلن تولي العقيد سايي زيربو الحكم.

وبعد عامين، وتحديدا في السابع من نوفمبر 1982، دفعت أزمة داخلية في مؤسسة الجيش بالرائد توماس سانكارا إلى تزعم انقلاب فسح من خلاله المجال للطبيب الرائد جان – بابتست أويدراوجو لتقلّد مهام رئيس الدولة رغم افتقاره إلى الخبرة السياسية وافتقاده للخلفية الأيديولوجية.

اكتفى سانكارا بمنصب وزير الإعلام في الحكومة، وكان يذهب إلى مقر وزارته وإلى مجلس الوزراء على دراجة هوائية، وعندما اكتشف تسرب الفساد إلى السلطات الجديدة واجهها بقوة، فتمت إقالته من الوزارة والزج به في السجن، إلى أن قام رفيقه بليز كومباوري بانقلاب عسكري جديد في الرابع من أغسطس 1983 حيث تم إطلاق سراح سانكارا واختير ليكون الرئيس، فتزعم ثورة ثقافية واجتماعية حقيقية في البلاد، ومثّل رمزا مهما لقوى اليسار في القارة الأفريقية متأثرا بالثورة الكوبية وبزعيمها فيدال كاسترو وتشي جيفارا إلى أن سمي بجيفارا أفريقيا.

◙ القائد الشاب قرر توجيه بوصلة التحالفات الجديدة لبلاده نحو روسيا
القائد الشاب قرر توجيه بوصلة التحالفات الجديدة لبلاده نحو روسيا

بادر سانكارا بمصادرة أراضي الإقطاعيين وزعماء القبائل ووزّعها على المزارعين وألغى الضرائب الثقيلة التي كانت تثقل كاهل المزارع مما رفع المستوى المعيشي للمزارعين وخلق الحالة المُثلى للمساواة في بوركينا فاسو.

وفي غضون أربع سنوات فقط تضاعف إنتاج القمح والقطن من 1700 كيلوغرام للهكتار الواحد إلى 3900 كيلوغرام للهكتار، واستطاع تحقيق فائض في الغذاء، ونصح مواطنيه بضرورة الاعتماد على النفس وحظر استيراد العديد من المواد وشجّع على نمو الصناعات المحلية.

ولم يمر على حديثه الكثير حتى أصبح البوركينابيون يرتدون ملابس مصنوعة من قطن وطني بنسبة 100 في المئة، قطن جرى نسجه وتفصيله في بوركينا فاسو.

كما يعود له الفضل في تحرير المرأة، ونشر الرعاية الصحية، وغير ذلك من الإنجازات، إلى أن انقلب عليه مساعده كومباوري في 15 أكتوبر 1987 حيث شهد ما سمي آنذاك بالخميس الأسود مواجهات دموية، وقام 14 ضابطا بالهجوم على سانكارا في القصر الجمهوري واغتياله بدعم مباشر من قوى خارجية لم تكن مرتاحة للنزعة الاشتراكية الثورية التي كان يتزعمها.

بوكس

اغتيل سانكارا وهو في السابعة والثلاثين من عمره، ولم يترك من ممتلكات شخصية سوى دراجة هوائية وسيارة قديمة مع ثلاجة معطلة وثلاث قيثارات، ومع بصمة مهمة في تاريخ أفريقيا ككل وفي تاريخ بلاده التي كان وراء تسميتها “بوركينا فاسو” بمعنى بلاد الرجال الصالحين بعد أن كانت تحمل اسم فولتا العليا، وهو من كتب نشيدها الرسمي بنفسه وصمم علم البلاد آنذاك وعليه شعار “الموت أو الوطن” نقلا عن مقولة لتشي جيفارا في منظمة الأمم المتحدة.

في أكتوبر 2014 اضطر الرئيس كومباوري إلى التخلي عن منصبه نتيجة انتفاضة شعبية عارمة، ودفعت قيادة الجيش بأحد قادة الحرس الرئاسي وهو العقيد إسحاق زيدا كرئيس مؤقت، وقد وافق في غضون أسبوعين على تسليم السلطة إلى إدارة انتقالية مدنية، فتم التوقيع على ميثاق انتقالي في 16 نوفمبر، وفي اليوم التالي تم تعيين الدبلوماسي السابق ميشيل كافاندو رئيسا مؤقتا فأدى اليمين الدستورية في 18 نوفمبر وعين زيدا رئيسا للوزراء من الإدارة الانتقالية.

وفي سبتمبر 2015 أعلن الجنرال جلبرت ديانديري، الذراع اليمنى لكومباوري، الاستيلاء على الحكم، وأعلن نفسه رئيسا لـما سماه المجلس الوطني للديمقراطية، وهي الهيئة الجديدة المسيّرة للبلاد، لكن قيادات من الجيش قالت إن قواتها تسير باتجاه واغادوغو وأعطت ديانديري ومساعديه في إدارة الانقلاب في الحزب الاشتراكي الثوري مهلة لإلقاء أسلحتهم.

في 23 سبتمبر أعيد كافاندو إلى منصبه كرئيس مؤقت، واستمر منع المرشحين الذين دعموا جهود كومباوري في الجمعية الوطنية لإلغاء تحديد فترات الولاية من الدستور في الانتخابات الرئاسية المرتقبة، واتهم ديانديري وغيره من مدبري الانقلاب بما نسب إليهم من جرائم أمام القضاء، بينما أجريت الانتخابات الرئاسية والتشريعية المؤجلة في 29 نوفمبر 2015.

وخاض 14 مرشحا السباق الرئاسي ليكون الفوز من نصيب روش مارك كريستيان كابوري، الذي سبق له أن شغل منصب رئيس الوزراء ورئيس الجمعية الوطنية في عهد كومباوري قبل أن يقطع معه العلاقات في أوائل عام 2014.

لكن الأوضاع على الأرض، والتي كانت مأساوية بسبب الفقر والفساد والإرهاب وغياب التنمية، دفعت في أغسطس 2021 بحوالي مئة من أفراد القوات المسلحة البوركينابية إلى التخطيط للسيطرة على البلاد. وهو ما تم فعلا في 23 يناير 2022 من خلال الإعلان عن اعتقال الرئيس كابوري وعزله.

7