إبراهيم الكوني: مشكلة الأدب العربي الحداثي هو الهوس بالبعدين السياسي والأيديولوجي

مسقط - حلّ الكاتب والروائي الليبي إبراهيم الكوني مساء الخميس ضيفا على برنامج "كتاب مفتوح" الذي يعده ويقدمه الشاعران عبدالرزاق الربيعي ووسام العاني برعاية مركز حدائق الفكر للثقافة والخدمات في سلطنة عمان، في أمسية افتراضية بُثت على جميع منصات التواصل الاجتماعي، حيث قدم الكاتب الذي رفد المكتبة العربية والعالمية بالعديد من الروايات والكتب والمؤلفات التي تربو على الثمانين، والحاصل على العديد من الجوائز العالمية المهمة التي لم يفز بها كاتب من قبله، طروحاته وأفكاره في الكثير من القضايا الفكرية المعاصرة والتحديات التي تواجه إنسان هذا العصر وجوديا وثقافيا.
وقدم الكاتب بداية ملخصا عن رحلته الممتدة من الصحراء الكبرى حتى أوروبا حيث وجد في عنوان الأمسية "من الصحراء الكبرى إلى جبال الألب" محرضا لتداعي أفكاره وطروحاته بخصوص هذه الرحلة التي تمتد لخمسة عقود، حيث قال "يقينا أن الضياع هو شفرة وجودية ميتافيزيقية ذات أبعاد غيبية وفلسفية في آثارها النهائية، لأننا في الواقع كلنا ضائعون وغرباء في هذا العالم، نبحث عن الفردوس المفقود ونفرّ لمطاردة حلم بغض النظر عن هويته". وانطلاقا من عنوان الأمسية "من الصحراء الكبرى إلى جبال الألب" وهو إشارة إلى مفارقة المكان أو سؤال المكان ودوره في تكوين الإنسان تكوين المبدع كإنسان، السؤال المطروح هل المكان هو المهم أم البعد المفقود في المكان؟ وهل ما يستهوينا في هذا الوجود هو الوطن أم الميثولوجيا التي تسكن الوطن؟.
يقول الكوني "لاحظت مبكرا منذ الستينات، غياب الرؤية الفلسفية في أدبنا العربي المعاصر، لاسيما الروائي منه. واكتشفت لاحقا أن السبب هو غياب الروح الميثولوجية أو غياب استنطاق البعد الميثولوجي في الوجود أو في المكان. ونحن الذين نتعامل بلغة عبقرية وعظيمة وعريقة وثرية كاللغة العربية، أكثر من يجب أن يعنى بهذا البعد لأن التراث العربي كله ميثولوجي، الشعر العربي ميثولوجي، والقرآن ثروة ميثولوجية، والقص العربي القديم ميثولوجي.
مفارقة أن تبدع الصحراء لأن شرط الإبداع الروائي هو وجود العلاقة ولذا من رأى أن المدينة هي عصب العمل الروائي، هو على حق من خلال تنصيب العلاقة سلطانة على الوجود في البعد الروائي. ولكن عندما حاولت أن أستنطق المكان، اكتشفت أن المكان ليس هو الذي يلعب دور البطولة في العمل الإبداعي والروائي وإنما الإنسان الذي يسكن هذا المكان، بل السؤال الذي يسكن هذا الإنسان، بمعنى أن المكان ليس هو المدعو لكي يقول كلمته ويبوح بسر الوجود، بل ميثولوجيا المكان وذخيرة المكان. لهذا السبب عندما نحمل أمكنتنا معنا، ببعدها الميثولوجي وليس الحرفي، لأن ما يصنع الإبداع هو الميثولوجيا، ميثولوجيا الأمكنة وميثولوجيا الوجود، لتفكيك لغز الوجود، فمن الضروري استنطاق البعد الميثولوجي في هذا الوجود. نحن نعرف أن الميثولوجيا لعبت دورا رئيسيا في تأسيس الديانات والفلسفة وتأسيس مفاهيم الوجود من خلال خطاب شعري واستعاري بالضرورة.
لهذا السبب يعاني واقعنا الثقافي العربي من غياب هذا البعد. أذكر عندما انعقد مؤتمر الأدباء العرب في طرابلس عام 1977، أن مداخلتي كانت تحت عنوان 'مشكلة الرؤية الفلسفية في الأدب العربي المعاصر'، وكان عنوان المؤتمر 'مشكلات الأدب العربي المعاصر'. عندما نقرأ التراث يدهشنا هذا الهوس بالميثولوجيا التي صنعت المجد العربي الكلاسيكي في حين خذلنا هذا الماضي الكلاسيكي بتجاهلنا استنطاق البعد الميثولوجي فيه، في حين استغل أدباء عالميون هذا البعد وسرقوا منا ما يجب أن نقوّمه نحن. الأدب العالمي المعاصر وحتى الكلاسيكي منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم استفاد من التراث الميثولوجي العربي، في حين بقينا نتجاهله ونسعى لاستنطاق النسخة الأوروبية والتي هي في الحقيقة مستعارة منا نحن. ولذلك أول تحد لي كان العودة إلى الميثولوجيا وإلى زمن الميثولوجيا والعودة إلى التحدي البدئي الكامن لاستنطاق الإنسان من خلال ذخيرته الميثولوجية وذاكرته المنسية، فالأساطير يطلق عليها بلغة الطوارق اسم 'أي ميال' وتعني المنسيات والمهملات والمهجورات، أي ما سقط من الذاكرة. ولهذا السبب نلاحظ الآن أننا نخلط بين الثروة الميثولوجية والخرافة التي تختلف تماما عن الأساطير. فالأسطرة مرحلة أخرى من العقلية الميثولوجية التي لم تنشئ الروايات وحسب بل حتى الديانات. أفلاطون يقوم بالكامل على الميثولوجيا كما في القوانين والمدينة الفاضلة. وكذلك 'عرافات معبد دلتا'. قضية الخلق ذاتها عمل ميثولوجي وكذلك الكتب السماوية والآداب السنسكريتية والزرادشتية والطاوية. كل الأدب العالمي المعاصر يستعير رأس ماله من ينابيع الميثولوجيا، لذلك صارت الأسطرة أحد شروط العمل الإبداعي. يقول أفلاطون، على لسان سقراط وهو على فراش الموت، إنه أخطأ عندما ظن أن التنظير الفلسفي هو السبيل الوحيد لتلقين الناس الحقيقة، لأن هاجسه دائما، أو ملاكه الحارس كما يسميه، يحضه على التشبث بربات الفنون التسعة وهن مودعات الميثولوجيا.
هذه النزعة استعارها تلميذ أفلاطون، أرسطو في كتابه 'الشعر' ونوه بصريح العبارة بأن غاية العمل الإبداعي هو تأليف الأسطورة وهذا قانون، ونحن نتجاهل هذا القانون اليوم ونكتب روايات عن السياسة مثلا، فعندما تذهب إلى عرين الحرف تخسر، خصوصا عندما تذهب بأسلحة العبارة وليس الإشارة، كما يقول أهل التصوف.
كافكا صنع من الواقع الخشن والحرفي أساطير، يعني أسطر الواقع، ومن هذا الأسلوب استفاد كل من ماركيز وفوغنر. فالأسطرة تتم عبر جناحين، إما مادة الواقع وإما استعادة أسطورة من الماضي وإعادة تهيئتها وتشكيلها، كما فعل شعراء الكلاسيك اليونانيون مثل صوفقلس وغيره، استعارة أسطورة جاهزة وبث روح الحداثة فيها عبر الأزمنة. لماذا تحول أوليس إلى نموذج للرحيل بروح الأسطرة، بروح هوميروس، بروح الإنسان الذي يفضي قلبه لكي يستقبل الماضي المنسي. أعتقد أن إحدى قضايانا اليوم هي كيفية إعادة الاعتبار للتراث الأسطوري أو التراث العربي الميثولوجي الغني على نحو لا يتخيل إذا قورن بالآداب الأوروبية. لاحظوا هذا العمل الإنساني الضخم الذي تأسس في الثلث الأول من القرن التاسع عشر وهو 'فاوست' لغوته، حيث استعار من أسطورة صغيرة في القرون الوسطى صورة جرمانية وبث فيها روح الميثولوجيا وأصبحت عملا مرجعيا. كل الأدب الأوروبي الذي نستشهد به اليوم هو في الواقع أدب استعار مؤهلاته وكل رأس ماله من الماضي المنسي. لذا أعتقد أن عنوانكم هذا 'من الصحراء الكبرى إلى جبال الألب' هو في واقع الأمر يحرض على وجوب تأمل المكان ليس كحرف مكان ولكن كميثولوجيا مكان التي هي روح المكان. لذا أيضا استطعت أن أصحح نظرية جورج لوكاتش والنظريات الغربية التي نصبت المدينة حكرا على الرواية باعتبار أن المدينة بنت الرواية، واستطعت أن أستنطق الصحراء فوجدتها ذخيرة ميثولوجية صانعة للرواية، عندما نحسن استجوابها كما ينبغي، لذلك استطعت أن أكتب سبع ملاحم من الروايات متعددة الأجزاء.
في حين أن الواقع الحرفي للصحراء شحيح جدا لأنه حرية والحرية هي العدم، وهي الموت بمفهوم كانت، ولهذا السبب عندما يأتي الحديث عن الصحراء ترجم بالعدم، وهي عدم حرفيا، ولكن ما يخفيه الموت هذا أو البعد المفقود هو ذخيرة الذخائر وهو الممول وصاحب الشأن، واكتشفت أن كل شيء يدب في الصحراء هو أسطورة تدب على قدمين، فإذا كان إنسانا فهو فيلسوف وشاعر، كذلك الحجر في الصحراء فهو كتاب، والشجر أناشيد، والأفق قصيدة وملحمة، والصفاء اللا محدود. كل القيم الكبرى في الواقع منبعها الصحراء واكتشفت أنها هي التي فاضت على العالم وليس العكس، كل ما حدث أنها تصحرت لأنها هرمت، وما يهرم هو الأقدم وهو الأجدر بالولاية وهو الوريث وصاحب الشأن. ولهذا السبب أنا أحاول دائما أن أفسر هذا الهوس بالصحراء، عندما يقول الكثيرون من النقاد إن الكوني رهين الصحراء، والحقيقة أن الصحراء هي رهينتي. وبسبب هذا التحدي، عندما جئت أكتب رواية عن المدينة، وهي 'الأسلاف والأخلاف'، ملحمة البحر المتوسط في 125 سنة، وجدت أن العمل جاهز ومركب وأسهل عندما تكتب روايات عن المدن لأن العلاقات مركبة وجاهزة، والتحدي في الكتابة عن الصحراء لأنك تصنع العلاقات لأنها معدومة، ويتطلب النحت في الموت والحرية وهذا هو التحدي الحقيقي. كل شيء في الصحراء ينطق لأن الطبيعة تكف أن تكون طبيعة، فهي تحولت إلى روح وهي في واقع الأمر شهادة وفاء على وجود وعلى حضارات ولكن أثرها يتكلم بلا صوت، وعلينا أن نستحضره لنحقق فيه حضورا. وهذا جانب في غاية الأهمية لأنه يتعلق بماهية الوجود، وأبجديات استنطاق هذه الماهية تبدأ من هذا المصطلح.
تنقلت عبر العالم وأنا حامل لهذه الأحجية في قلبي. الأوروبيون يسألونني دائما كيف يستطيع مبدع يعيش خارج وطنه عشرات السنين ثم لا يكتب إلا عن هذا الوطن؟ وأجيبهم لأنكم تعتقدون أن المبدع يكتب عن المكان الحرفي، بينما هو يكتب عن روح المكان وليس الواقع. القديس بولص يقول 'نحن لسنا معنيين بالأشياء التي تُرى، لكن بالأشياء التي لا تُرى، لأن الأشياء التي تُرى وقتية والتي لا تُرى أبدية'. الإبداع هو استنطاق أبدي، أن تخلق من الفاني أبديا.
الإنسان كله واحد في كل مكان وزمان، ومشاكل الإنسان كلها واحدة، كل ما علينا فعله هو أن نتجلى ونتماهى مع الكائنات كلها وليس فقط مع الآخر لكي نفلح في التعبير عن الوجود. وهذا ما غاب عن أدبنا العربي المعاصر".
وفي سؤال إن كان تحصّل على ذخيرة حية من جبال الألب كما تحصل عليها من الصحراء، أجاب الكوني "كل الأمكنة ذخائر، والإنسان الذي ترك الحرية المجسدة وهي الصحراء ونزل إلى الواحات، كانت بالنسبة لي فخا وسجنا ولم أطقه، ثم كانت العتبة التالية إلى عاصمة جنوب ليبيا ثم إلى طرابلس الحاضرة حيث سواحل البحر المتوسط، ثم القفزة الخرافية إلى بلاد الديلم ما وراء الستار الحديدي حينما كان الاتحاد السوفيتي في ذروة قوته، وهي التجربة التي لم ولن أندم عليها. وجدت الإنسان هناك طبيعيا كما في الصحراء فهم عفويون وودودون، وهذا يعني أنهم مفتوحون على الآخر، ويعني أنهم شعراء بالطبيعة ويبدون لصيقين بالطبيعة رغم قسوتها، ومدين لهم ولبيئتهم أني تعلمت الانضباط الذي كدت أنساه من الصحراء لأنها منضبطة بأعلى الدرجات. قبل أن أتحول إلى بولونيا ثم مرة أخرى إلى روسيا ثم إلى جبال الألب وهي أطول فترة عشتها في أوروبا قبل أن أتحول إلى أيبار الآن.
كل شعب، كل بيئة لها خصوصياتها وجوانبها الإيجابية وميثولوجياتها على نحو أو آخر. ومعايشة الأمم هي ذخيرة في غاية الأهمية لتكوين الإنسان وأنا سعيد لأني عايشت هذه الشعوب العظيمة، ورسالتي كمهاجر أن أقرأ في كتاب كل أمة وأستفهم جيدا لأستطيع أن أستوعب جيدا، والثمن كان باهظا لأن الاغتراب ضرب من الوفاء، فليس يسيرا أن يغترب الإنسان عن وطنه وعمن أحب من أهله وناسه ثم يتنقل عبر القارات ليحيا مهاجرا أبد الدهر وهذا نزيف الروح، لكني ذهبت في طلب المعرفة والتجربة، فلا بد من القراءة في كتاب التجربة لكي نعرف كما ينبغي في هذا العالم الذي يرفض إعطاء الحقيقة بلا ثمن".
وعن سؤال لماذا لم يصبح شاعرا، على تشابه التجربة الإبداعية بينه وبين أبي العلاء المعري، أجاب الكوني "ليس بالضرورة أن نصنف النص الإبداعي مسبقا، بل النص هو الذي يجب أن يصنف نفسه، فأعمالي في أوروبا تصنف شعريا، الأهم هو الروح الشعرية وليس الحرف، أعمال ماركيز وكافكا مثلا كلها أشعار ومكتوبة بروح هوميروس وروح الميثولوجيا التي هي من أسس الشعر والدين والفلسفة. ليس كل قافية شعرا فالمهم هو الإيقاع الداخلي والجرس الضمني. الروح الميثولوجية هي من تصنع الشعر وليس الحرف. كما أن السرد يجب أن يكون شعريا دوما ولا ننطق إلا شعرا، والكاتب منذ لحظة الشروع بالكتابة يجب أن يبدأ بالغناء، فالكاتب الحقيقي هو المبني للمجهول وهو الكائن في البعد المفقود. وأي نص إبداعي هو شعري بالضرورة وأي عمل غير شعري ليس إبداعا".
وحول الحمولات الفكرية التي يثقل بها متنه السردي، يجيب الكوني "أعتقد أن المتن السردي يجب أن يتحمل كل الحمولات، فما دمنا نستنطق الأشياء في مبدأ أعلى هو الوجود، فلا بد أن نتحمل هذه المسؤوليات، وإذا قررنا أن نناشد الحقيقة لتبوح لنا بسرها، فعلينا أن نتسلح بكل ما نستطيع من قوة وإمكانات ونستنطق كل ما في أنفسنا ونستعد لأن نقول كل شيء إلى النهاية. أي موضوع هو قابل لأن يطرح أسئلة أكثر مما نتوقع، لذا نجد أننا لا نتحكم في حجم العمل ولا نهايته، أي أنه مغامرة وجودية دفع الكثيرون حياتهم ثمنا لها. هناك الجنون الذي يتربص لنا في كل ركن، فإما أن نفلح ونعود من المغامرة سالمين وإما قد نجن أو نموت، فالإبداع مسألة حياة أو موت وكلمته يجب أن تقال كما يجب، لذا هو عمل فدائي. وهذا الخطر قد يوجد في الخلاص".
وحول إذا ما كانت نصوصه الإبداعية عن الصحراء موجهة في بدايتها ضد أوروبا كتعبير عن الرفض ضد قيم الاستهلاك المديني، أجاب الكوني "كنت أحاول بإخلاص أن أقول كلمة الصحراء، فكل أركان هذا الكون قالت كلمتها في الأدب، إلا الصحراء لأنها ظلت مقهورة ومقموعة دوما حتى من أبنائها، فالنخبة العربية التي تنهل من الصحراء، تصف الصحراء عدما وكل ما يوصف سلبا يوصف بالصحراء وهو جهل بالواقع الصحراوي، فالصحراء ليست ثروة مادية بل روحية أيضا، فترى كل الأديان مثلا جاءت من الصحراء ولم تبخل علينا لأنها كلمة الحرية في حق العبودية، ولذا هي تحد لأوروبا وللعقلية الأوروبية، فالحرية في الصحراء أنك تستطيع زيارة الموت والعودة منه سالما، فالزمان والمكان ميثولوجيان في الصحراء، وهي بكر دوما ولذا تفيض على العالم بالحكمة والحقيقة. نعم هناك كتابات كثيرة عن الصحاري ولكنها سياحية وخارجية وليست نابعة من ميثولوجيا الصحراء، ولذلك استقبل الأوروبيون هذا الأدب واعتبروه فتحا باعتباره قارة جديدة دخلت الأدب العالمي. لذلك أفنيت عمري كي أمكن الصحراء من أن تقول كلمتها هي وليس ما أريد لها أن تقول. وهذا مقياس الأصالة ولذا هي كلمة حقيقية وإلا لما نالت هذا الاعتراف في العالم.
وعندما قرأ الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان مجموعتي القصصية الأولى قال لي 'لا تكتب شيئا خارج الصحراء'. وبعد أن بدأنا الدراسة في معهد غوركي قرأت وصية تولستوي الشهيرة 'أكتب عما تعرف' فوافقت هذه وصية فرمان بوجوب احتراف معالجة الواقع الذي يسكننا ويشغلنا بغض النظر عن حقيقته، فما نحن مشغولون به هو ما نستطيع أن نعبر عنه ويتحول إلى رسالة، فدون روح رسالية لن تفلح في عملك".
وعن كون الغرب يقرأ نتاجه الإبداعي أكثر من العالم العربي، قال الكوني "يقول هيرمان هسي 'إذا قرأك إنسان واحد يستحق فكأنما كل البشرية قرأتك'. العبرة ليست بالكم، العبرة بقوة وحقيقة وقيمة من يقرأ النص. النقد الأوروبي والأميركي والياباني أنصفني أكثر من النقد العربي وهذا بسبب الاغتراب عن الواقع الصحراوي، فالعرب لا يزالون يعتقدون أنني أكتب عن الصحراء كصحراء وليس عن الإنسانية في الصحراء. القضايا التي أثيرها هي قضايا الوجود والجنس البشري، ولا أذهب إلى الصحراء لآخذ منها بل آتيها بذخيرتي وهي تساعدني في تسويتها لأن الصحراء هنا عرابة تزوق لك النبوءة والأحاجي التي تخبر عنها، وأنا عرابي دائما الصحراء".
وعن قدر المبدع في أن يكتب لزمن قادم وليس لزمن حاضر، وعن قدر الهجرة تحدث الكوني قائلا "تأسيسا على مقولة المسيح 'لا كرامة لنبي في وطنه' قلت ولا كرامة لنبي في زمنه، حيث لم يعترف عبر التاريخ بحكيم أو فيلسوف في زمنه، لأن له في الواقع خصوما واقعيين مستعدين لتغييبه جسديا إن تطلب الأمر، ولا وجود لصاحب الفكرة دون أناس يعادون هذه الفكرة ويحاولون إسقاطها على شخصه وليس على نصه. وبعد غياب صاحب النص، يأتي النص ليدافع عن صاحبه، حيث لا يعود هناك من يخاصمه لأنه لم يعد موجودا وبالتالي النص وحده يكون حاكما، وهذه تجربة كل الأنبياء والأوصياء. وفي ما يخص الاستقرار، أقول ليس المهم الوطن الذي نسكنه بل الوطن الذي يسكننا. والتجربة البشرية قدمت لنا دليلا على أن الذين يهجرون الأوطان هم الذين يصنعون أمجاد هذه الأوطان والذي يتقوقع في وطنه سيموت والحقيقة معه، أما من يستنصر بالهجرة باعتبارها بعدا ساميا لا بد أن ينتصر في دعواه. وكمثال من الصحراء، قديما كان الذين ينقذون الواحات هم أهل الصحراء الذين يسرقون في البرية، لأن الواحات سجنت نفسها في الأسوار والحدود لذلك يأتي المخلص من الصحراء المفتوحة. وفي النهاية سيتمكن المهاجر من قول الكلمة التي ستكون وساما على صدر الوطن".
وعن إصراره دائما على الكتابة باللغة العربية رغم أنها ليست لغته الأم، أجاب الكوني "اللغة العربية أصبحت لغتي الأم لأني أحببتها ولأنها استطاعت أن تدلني على هويتي الميثولوجية المنسية ولهذا أنا مدين لها. ورغم أن الكثير نصحني بالكتابة بغيرها، إلا أني بقيت وفيا لها لأن ما يهمني ليس المجد وإنما الحقيقة".
وعند سؤاله لمن يقرأ من الروائيين العرب؟ أجاب الكوني أنه يقرأ للكلاسيكيين منهم مثل نجيب محفوظ والطيب صالح وغائب طعمة فرمان في كتاباته المبكرة لأنهم ميثولوجيون. ولهذا استطاعوا أن يكتبوا أدبا عالميا وأصبحوا أكثر حضورا من كتاب معاصرين. وأشار إلى أن مشكلة الأدب العربي الحداثي هي الهوس بالبعدين السياسي والأيديولوجي وهما أكبر عدوين للجانب الوجودي. وأقر بصعوبة متابعة بقية الكتاب المعاصرين لظروف تنقله بين البلدان على مدى عقود من الزمن.