إبراهيم العزابي تجريدي سحره المزاج التونسي

في غرام المواد المختلفة.. فرصة للتسلل إلى الرسم من جهة غير تلك الجهة التي تقيم فيها الألوان.
الأحد 2022/07/03
العزابي.. تجربة فنية فذة

غالبا ما يتستر الفنانون على المصادر الفنية التي تأثروا بها وبالأخص أسماء الفنانين الذين لعبوا دورا مهما في صياغة أسلوبهم الفني. لذلك فإن رساما يعترف بتأثره بفنانين تعلم على أيديهم لا بد أن يحظى بنوع مضاف من التقدير.

هذا هو حال الفنان التونسي إبراهيم العزابي الذي سبق له وأن لعب أدوارا مهمة في الحياة التشكيلية في تونس. ولأن الاعتراف يشكل طريقا لمعرفة الذات فإن العزابي يشكل نموذجا فذا في ذلك المجال برغم ابتعاده عن الأضواء واعتزاله الحياة العامة.

معلمون سبقوه إلى التجربة

رسوم العزابي اليوم تنتمي إلى تجربته في الرسم التي مضى عليها أكثر من أربعين سنة. ولكنه يفضل ألا ينسى. ذلك درسه الأخلاقي الذي يجاور درسه الفني

يقول العزابي “بداياتي الجادة كانت في مدرسة الفنون الجميلة (1964 ــ 1975) وكنت أميل إلى الرسم بالألوان أكثر من الرسم الفحمي وكان أستاذي يومها الهادي التركي وفي السنوات التالية تعلمت على أيدي محمود السهيلي ورضا بن عبدالله وفي النحت الهاشمي مرزوق ورضا بن عبدالله. وإثر تمرين في استعمال المواد وجدت ضالتي ووجدت نفسي وأنا أنجز أعمالا لا شكلية وقد تأثرت أساسا بالفرنسي جان دو بوفيه وما أنجزه في بداية الخمسينات. كما تأثرت بالرسوم الجدارية الفرعونية ورسوم فرانسيسكو غويا وبيكاسو وبول كلي الذي أنجزت عنه دراسة مهمة”.

بسطور قليلة أوجز العزابي سيرة تجربته الفنية على شكل اعترافات قصيرة ذات دلالة عميقة. فهي أولا تؤكد ثقته بما أنجزه كونه ينتمي إلى ذاته الباحثة عن أسباب وجودها من خلال الرسم وهي ثانيا تمثل استعادة لبهجته وهو يتذكر الرسامين الذين أحبهم وتعلم على أيديهم كيف يكون رساما بخصوصية شخصية.

ما نراه في رسومه لا يعيدنا إلى الرسامين الذين ذكرهم. تلك مسألة تحسب له. منذ سنوات بعيدة تحرر العزابي من المصادر التي تأثر بها. رسومه اليوم تنتمي إلى تجربته في الرسم التي مضى عليها أكثر من أربعين سنة. ولكنه يفضل ألا ينسى. ذلك درسه الأخلاقي الذي يجاور درسه الفني.

لا يفكر العزابي بنجوميته بقدر ما يفكر في رفعة واستقلالية تجربته التي تتصل بتجارب فنانين سبقوه. البعض منهم كان قريبا منه على المستوى الحياتي فيما كان البعض الآخر قد مارس تأثيره عن بعد.

لقد قال كلمته التي تعبر عن موقف استثنائي في المشهد التشكيلي التونسي. هي كلمة معلم. فالرجل أراد أن ينفي عن نفسه صفة التواضع حين قرر أن يضع الجميع في مواجهة حقيقة الفنان الذي يفترس كل الفنانين الذين تأثر بهم من غير أن ينكر تأثيرهم عليه.

ابن جيل الحداثة الثانية

معرضه “عمق الأشواق” الذي أقامه بفضاء دار الثقافة بمرناق، رواق حسن حسني عبدالوهاب هذا العام، يبدو العزابي فيه كما لو أنه يتمثل تجربته كلها في معرض استعادي
معرضه "عمق الأشواق" الذي أقامه بفضاء دار الثقافة بمرناق، رواق حسن حسني عبدالوهاب هذا العام، يبدو العزابي فيه كما لو أنه يتمثل تجربته كلها في معرض استعادي

ولد العزابي عام 1949 بمجاز الباب غربي مدينة تونس. درس الرسم في المعهد العالي للفنون الجميلة بين عامي 1969 و1975. قضى عام 1977 في مدينة الفنون بباريس، وأقام أول معارضه الشخصية عام 1976 في قاعة ارتسام بتونس. بعده أقام العزابي أكثر من عشرة معارض شخصية إضافة إلى مشاركته في عدد كبير من اللقاءات الفنية العالمية.

عام 1989 انتخب أمينا عاما لاتحاد التشكيليين التونسيين. إضافة إلى الرسم مارس الكتابة في النقد والتاريخ الفني ونشر مقالاته في الصحافة المحلية.

ينتمي إلى جيل الحداثة الفنية الثاني بتونس. فبعد جيل نجيب بلخوجة ومحمود السهيلي وعبدالرزاق الساحلي ظهر جيل مقديش والعزابي وقويدر والتريكي. ذلك الجيل وبعد أن تحرر من عقدة جماعة “مدرسة تونس” لم يجد في طريقه ما يعيق تفكيره في مسألة الجمع بين العالمية والمحلية في معادلات جمالية سوية بحيث لا تكون الرسوم المستلهمة من الحياة اليومية التونسية وحدها معبرة عن الروح الشعبية وفي المقابل فلن يُلزم الرسام لكي يكون حديثا على أن يُقاطع كل ما له علاقة بالحياة اليومية.

تناقض يجمع المترادفات

مكانة العزابي مهمة بين أفراد جيله المتمرد، غير أن محاولته تفتح الطريق لفهم قيمة المواد التي تصنع عالما يسمح بالمترادفات التي هي عبارة عن ثنائيات متناقضة

مع جيل العزابي انتهى التشنج الذي كان سائدا، يوم كانت جماعة مدرسة تونس مهيمنة على قرار المؤسسة الرسمية. انعكس ذلك الصلح على تجارب فناني تلك المرحلة ومنهم العزابي الذي يتميز أسلوبه بالرغم من تجريديته اللاشكلية بالجمع بين المزاج المحلي والتجريبية الغربية. تلك صفة لا يمكن التعرف عليها من الخارج إلا بحذر فيما ينفتح داخل اللوحة على مقاربات عديدة استطاع الرسام من خلالها أن يجمع بين المتناقضات التي يعتبرها مترادفات. ذلك ما يُلقي ضوءا على لغته البصرية. فهو يرى لا من أجل أن يصف بل من أجل أن يتأكد من وجوده. كل ذلك يفعله من أجل ن يعوض غياب الطبيعة والهامها.

في معرضه “عمق الأشواق” الذي أقامه بفضاء دار الثقافة بمرناق، رواق حسن حسني عبدالوهاب هذا العام، بدا العزابي كما لو أنه يتمثل تجربته كلها في معرض استعادي. صحيح أنه رسم ما انتهى إليه على المستوى الأسلوبي والتقني وبالأخص في مجال استعمال المواد المختلفة غير أن الصحيح أيضا أن الرسام استعاد عوالمه المختلفة عبر الأربعين سنة الماضية. وهي عوالم تجريبية يتجاور فيها الرسام والحفار والنحات.

لقد عمل العزابي على أن يقرب بين تجاربه التقنية أملا منه في أن يجمع أجزاءه في كل يعبر عن شخصيته. لم يكن الأسلوب مهما بقدر أهمية شخصية الفنان الذي شغف بمفهوم الفن الخام الذي اخترعه الفرنسي جان دوبوفيه.

كان عليه أن يفكر في سياق التجربة التي تذهب بالمواد إلى أصولها وبالأشكال إلى بداياتها اللاشكلية وبالمعنى يوم لم يكن هناك حيز للمعنى في الحياة العادية. فالمعنى لا يهب الأشياء إلا حياة مؤقتة. هناك حياة افتراضية تنجزها المواد من أجل أن تهب البصر فرصة مختلفة للنظر.

الرسام في موقفين

العزابي ينتمي إلى جيل الحداثة الفنية الثاني بتونس. فبعد جيل نجيب بلخوجة ومحمود السهيلي وعبدالرزاق الساحلي ظهر جيل مقديش والعزابي وقويدر والتريكي
العزابي ينتمي إلى جيل الحداثة الفنية الثاني بتونس. فبعد جيل نجيب بلخوجة ومحمود السهيلي وعبدالرزاق الساحلي ظهر جيل مقديش والعزابي وقويدر والتريكي

يقول العزابي “أصبحت المواد المختلفة هي الوسائل التي لا تغيب عن أعمالي وبما أنها نتوءات فإني لم أستعمل كثيرا الألوان بل كنت أستعمل الألوان البنية، ألوان الأرض وأسمح للضوء الذي يقع في فخ تلك النتوءات أن يُثري المساحة بالقيم الضوئية أو الدرجات اللونية الحقيقية”.

لقد وهبته المواد المختلفة فرصة للتسلل إلى الرسم من جهة أخرى غير تلك الجهة التي تقيم فيها الألوان. العزابي ليس ملونا وفي الوقت نفسه فإنه لا يميل إلى الرسم الخطي. ولهذا فإنه وجد فرصته في المواد ليكشف عن ألوانها. صار ملونا من غير قصد مسبق. وفي ذلك اختصر علاقته بالبيئة المحلية. كانت المواد المختلفة طريقه إلى البيئة التونسية.

التقيت العزابي مرتين؛ عام 1992 في المحرس، وهي بلدة تونسية ساحلية تحتضن مهرجانا فنيا، ويومها كان صديقي يوسف الرقيق وهو مؤسس المهرجان حيا. ربما لا يتذكر العزابي ذلك اللقاء، ومرة أخرى حين صرت أرى لوحاته في أروقة نزل صدر بعل بالحمامات كلما سكنت هناك بعد عام 2006. لقد كان لدي الوقت لأقف أمام تلك الرسوم وأتأملها بعمق. سيكون عليه أن يعتز بمعرضه الدائم هناك. وبرغم المسافة الزمنية فإن تلك الرسوم تذكرني بالشخص الذي التقيته وأنا في مقتبل شبابي. كان العزابي يومها لا يميل إلى الرسوم أو المنحوتات التشخيصية غير أن ذلك لا يعني أن كل تجريد يقنعه. كانت لديه شروطه القاسية وانضباطه وهو الذي كان يومها أمينا لاتحاد التشكيليين التونسيين.

من المؤكد أن للعزابي مكانة مهمة بين أفراد جيله المتمرد غير أن محاولته تفتح الطريق أمامنا لفهم قيمة المواد التي تصنع عالما يسمح بالمترادفات التي هي عبارة عن ثنائيات متناقضة.

9