أي مسار لديمقراطية "الفتوّات" في تونس

جرّب سياسيو تونس كل المعارك دون أن يمنحوا أنفسهم ولو فرصة لهدنة والقيام بمراجعة نقدية داخلية لتثبيت مسار الإصلاح الحقيقي.
السبت 2020/09/05
خطاب يكشف عمق الأزمة التي تتخبط فيها الطبقة السياسية

التجربة الديمقراطية في تونس، التي كثيرا ما باركتها شعوب وأمم عبر العالم إلى سنوات قليلة مضت ووصفت بـ”الوليدة” باتت مهددة اليوم بانحراف مسارها نتيجة المزايدات والخصومات السياسية بين رؤوس الحكم التي لا تنتهي. هذه التجربة بفاعليها والمتصارعين حولها تذكّر بـ”معارك الفتوّات” واستعراض العضلات التي ميزت حقبة ما من تاريخ مصر.

يتراءى هذا المشهد بأدق تفاصيله في التجاذبات السياسية والمعركة التي اشتعلت أطوارها مؤخرا بدءا بمخاضات تشكيل حكومة الحبيب الجملي وما خلفته وراءها من ارتدادات، مرورا بحكومة إلياس الفخفاخ وأزمة الثقة التي راكمتها، وليس انتهاء بحكومة هشام المشيشي، التي اجتازت امتحان الثقة أمام البرلمان لتجد نفسها في قلب حقل ألغام مزروع بعناية لا ينتظر التفخيخ.

جاء خطاب الرئيس قيس سعيّد، الذي رافق أداء حكومة المشيشي اليمين الدستورية بعد نيلها الثقة ليعرّي الكثير من البواطن ويكشف عمق الأزمة التي تتخبط فيها الطبقة السياسية التونسية.

تونس لم تعد استثناء اليوم. ربما يثير هذا الكلام غضب الكثيرين. لكنه حقيقة تتجسد معالمها على أرض الواقع بوصول عراك سياسييها حدودا لا يمكن الفصل فيها

وقبل خطاب الرئيس كان رئيس مجلس البرلمان وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي قد بعث برسالة مشفرة لمؤسسة الرئاسة وللرئيس سعيّد بالتحديد يزعم فيها أن “البرلمان مصدر السلطة، وكما أنه قادر على منح الثقة قادر أيضا على سحبها. وهذا المجلس سحب الثقة من أكثر من حكومة”.

ربما من الطبيعي أن يتفاعل المراقبون إيجابا أو سلبا مع تطورات المشهد السياسي، لكن أغلبهم يقر بأن “المعركة كبرت” وباتت تنذر بسيناريوهات غير متوقعة خصوصا بعد الخطاب الحامي الذي ما زالت ارتداداته تتفاعل داخليا وإقليميا أيضا.

ووجه الرئيس التونسي كلمات قويّة لأطراف لم يسمّها متهما إياها بافتعال الأزمات قائلا “في تونس كثيرة هي المصاعب التي تم افتعالها أو غير طبيعية.. سيأتي اليوم الذي تعرفون فيه الحقائق كلها دون استثناء”. وتوعّد أيضا في خطابه جهات بعينها قال عنها “بعضهم يفتي ويكذب بناء على الفتوى لأنه فتح دار إفتاء ويدعي ما يخيّل له خياله المريض.. لكن أقول بيننا الله والأيام..”.

وفي ذات السياق تعهّد سعيد بأن يكشف أيضا عن “الخيانات والاندساسات والغدر والوعود الكاذبة والارتهان في أحضان الصهيونية والاستعمار”. وقال “سأرد على الخونة وأذيال الاستعمار الذين باعوا ضمائرهم وباعوا وطنهم وتصوروا أنهم صاروا قادرين على إعطاء الدروس.. سوف تأتيهم الدروس واضحة من الشعب ومن التاريخ ومرة أخرى بيننا الله والأيام”.

قد يجد الرئيس سعيد مبرّرا لخطابه وللرسائل التي وجهها إلى خصومه الأساسيين، وأساسا حزب حركة النهضة وما يدور في فلكه من أحزاب تتوافق وترتمي في أحضانه عند الضرورة، لكن ما يعاب عليه تمسكه بردّ فعل متشنج في ظرف اجتماعي واقتصادي متأزم زاده تمسك الطبقة السياسية بمعاركها الجانبية تأزما.

الأساس في الديمقراطيات الحديثة أو المستجدة أن يكون البناء من الداخل ويفترض درجة عالية من التنسيق والإرادة اللذين لا يكتمل دونهما أي مسار حقيقي للإصلاح مهما كان نوعه، اقتصاديا، اجتماعيا، وحتى سياسيا.

لكن في تونس تركت كل الأمور جانبا لتفسح المجال لأهواء السياسيين ونوازعهم الغريزية ليستعيدوا إلى حلبات معاركهم أهواء وغرائز بطولية قديمة للجيل الطلابي لسبعينات وثمانينات القرن الماضي.

جرّب سياسيو تونس كل المعارك دون أن يمنحوا أنفسهم ولو فرصة لهدنة والقيام بمراجعة نقدية داخلية. كل الحروب التي خيضت وتخاض يلجأ طرفاها إلى هدنة وقد تنتهي أحيانا بمصالحة. هل يحتاج سياسيو تونس إلى هدنة تحلحل الأمور وتنتهي بإصلاح ذات البيّن بين أنداد في رأسي الحكم وفروع لأحزاب باتت تشكل مشهدا سياسيا “منتفخا” فوضويا.

إذا كان الجميع منفتحا على معارك “الفتوّات” بما تعنيه من استعراض للعضلات “السياسية” ومحاولة تدويم الأزمة والحياد بها عن المشاكل الأساسية التي يجب أن تركز عليها مؤسسات الحكم، فإنه حري بسياسيي تونس أن يتحسسوا رقابهم جيدا وينتبهوا لما يجري حولهم في بعض الدول العربية (العراق ولبنان أساسا) التي حاد فيها فاعلوها عن مشاغل الناس، وهاهم يجنون حصيلة معاركهم.

تعهّد سعيد بأن يكشف أيضا عن "الخيانات والاندساسات والغدر والوعود الكاذبة والارتهان في أحضان الصهيونية والاستعمار"

تونس لم تعد استثناء اليوم. ربما يثير هذا الكلام غضب الكثيرين. لكنه حقيقة تتجسد معالمها على أرض الواقع بوصول عراك سياسييها حدودا لا يمكن الفصل فيها.. وهنا يبدو أن طريق الديمقراطية بات وعرا والشكوك في حيادها عن مسارها الأصلي واختطافها نحو المجهول باتت الأقرب أكثر من أي وقت مضى.

ليس بهذه الغلظة وهذا التشدّد في الرأي وركوب أمواج التحارب تُبنى الديمقراطيات الناشئة. مطلوب اليوم من جميع الفاعلين السياسيين في تونس مهما اختلفت مشاربهم وميولهم ومواقفهم وآراءهم تحكيم ملكة العقل على أن يكون الحوار هو الفيصل لحسم هذا الخصومة التي قد تنحرف بمسار البلاد نحو مجهول لا ينفع بعده أي تحسر أو ندم.

الفرصة مواتية أمام الجميع للإعلان عن حوار وطني حقيقي جامع يكون ممثلا بالرئاسات الثلاث وجميع الأحزاب والمنظمات الوطنية ويكون موازيا لعمل الحكومة يعاضد جهودها ويقدم الدعم لتنفيذ البرامج التي جاءت من أجلها. ودون ذلك لا عزاء أمام التونسيين سوى الانتظار ومراقبة المشهد لحين الإعلان عن الجولة النهائية للخصومة، وحينها تُرفع القبعة للفائز.

7