أي دور للموارد الثقافية في الاقتصاد المصري

مع بداية الألفية الجديدة، بدأ نمط جديد من الاقتصاد يتشكل قائما على الموارد الثقافية في الدول المتقدمة والدول النامية الصاعدة على المستوى العالمي. وهذا لا يعني أن الموارد الثقافية لم تكن موجودة أو مستخدمة في النشاط الاقتصادي، وإنما الجديد هو حجم تأثيرها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وفي نمط حياة الإنسان عموما، وهو ما جاء نتيجة للخطط الوطنية المتكاملة ذات البرامج الزمنية والأهداف المحددة التي وضعتها تلك الدول لسد الفجوة المعرفية بينها منذ الربع الأخير من القرن الماضي.
انطلاقا من ذلك تنبع أهمية كتاب “الموارد الثقافية وقياس المساهمة الاقتصادية في الدخل القومي” للباحثين د.رؤوف عبدالحفيظ هلال ود. سيف الدين بدوي، الصادر أخيرا عن دار العربي للنشر، حيث يشكل محاولة لاكتشاف دور الموارد الثقافية المصرية في الاقتصاد القومي، ومن ثم استغلالها الاستغلال الأمثل في تنمية المجتمع المصري، وذلك بالتخطيط الجيد، من خلال إعادة النظر في التوجهات الاقتصادية والاعتماد عليها في النشاط الاقتصادي وجعلها هدفا استراتيجيا تتطلع إليه الدولة.
ويعد الكتاب الأول في مصر – على حد علم الباحثين – الذي يتناول واقع الموارد الثقافية ودورها في الاقتصاد القومي، وهو ما يمكن أن يسهم في إثراء الإنتاج الفكري الخاص بالموارد الثقافية، ويسلط الضوء على أهمية الموارد الثقافية وسبل تنميتها، كمصادر اقتصادية للدولة، حيث تعد من أهم الأنشطة الرئيسية في العديد من دول العالم، ومعرفة وسائل وطرق الاستغلال الأمثل لاستخدام الموارد الثقافية للتحول نحو مجتمع المعرفة، وإبراز دور قطاع الثقافة في الاقتصاد المصري. وفتح باب المجال أمام المختصين لدراسة الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في عمليات الحفاظ على التراث الثقافي، وتعظيم دوره في الاقتصاد الوطني.
يرى الباحثان أن أشكال الموارد الثقافية تتعدد من دولة إلى أخرى، فمثلا في فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة والصين، هناك العديد من الموارد الثقافية كالمكتبات بمختلف أنواعها والمتاحف والمواقع الأثرية والتراث الموسيقي والسينمائي، وهذا ما جرى ذكره في التقرير العالمي لليونسكو للتربية والعلوم والثقافة. وتعد كل هذه الموارد الثقافية مصادر اقتصادية تعمل على زيادة الدخل القومي، وهو الذي يمكن رؤيته بوضوح في مؤشرات الموارد الثقافية لهذه الدول. أما عن مصر الحضارة، فهي تشمخ بكلّ ما فيها من عمق حضاري وثقافي عظيم، فأهراماتها التي تناطح السحاب تقف شاهدة على روعة هذه البلاد وما مرّ عليها من تاريخ طويل مليء بالمجد والعزّ والفخر، وآثارها المنتشرة في كل ربوعها ما هي إلا دليل صادق على أن مصر منبع الحضارات، فتاريخها غني بالعديد من الحضارات المختلفة، أكثر من أي دولة أخرى، تشكل منها قوة ثقافية ناعمة في المنطقة والعالم. وعلى الرغم من قوة مصر الناعمة المتمثلة في مواردها الثقافية، فإن هذه الموارد غير مستغلة الاستغلال الأمثل، وإن ظل ممكنا في ظل الاندماج العالمي وباستخدام التكنولوجيا، أن يتحول مستقبل الثقافة في مصر إلى مستقبل مشرق، ويكون له تأثير واضح في القطاع الاقتصادي وزيادة الدخل القومي.
ويشير الباحثان إلى أن الموارد الثقافية والإبداعية تتمتع بمزايا عديدة، منها: دمج الصناعات، والقيمة المضافة العالية، وحماية البيئة، ودفع الاستهلاك، وتوسيع التجارة الخارجية، وزيادة التوظيف، وتعزيز قوة الحشد المجتمعي، فهي بذلك لها مكانة متميزة في الاقتصاد الوطني، وقوة محركة هامة للارتقاء بمستوى الصناعات ونمو الاقتصاد الكلي والابتكار العلمي والتقني. وعلى الرغم من أن الصناعات الثقافية تولّد ثروات كبيرة للعديد من اقتصادات العالم المختلفة، فإن الاهتمام بهذه الصناعات في مصر والعالم العربي ما زال هامشيا، وهو ما انعكس سلبا على دورها في تنمية الاقتصاد الوطني، وهو ما أشار إليه التقرير الأول للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، فالعوائد المتأتية من مخرجات هذه الصناعات مبهمة، ولا توجد أي إحصاءات أو بيانات دقيقة عن مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، في حين تشكل الصناعات الثقافية ما بين 5 و10 في المئة من قيمة المنتجات في العالم، فإنها لا تمثل قيمة تذكر في الدخل القومي المصري. فطبقا لتقارير المنظمة العالمية للملكية الفكرية، فإن الصناعات الثقافية في العالم العربي في مؤخرة الترتيب على الصعيد العالمي.
ويؤكدان أن التحدي الحقيقي الذي يواجه الصناعات الثقافية والإبداعية يتمثل في قدرتها على تقديم قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وليس فقط في أن تكون هذه الصناعات لمجرد الحفاظ على التراث، لأن هذا سيجعل مصير هذه الصناعات كالمتاحف فقط، وتوقف قدرتها على الاستمرار. وبخصوص قدرة هذه الصناعات على تحقيق قيمة اقتصادية، فإن هذا سيحافظ على قدرة هذه الصناعات على الاستمرار، وهذا لا يتأتى إلا من خلال رصدها ومتابعة تطور مؤشراتها في الدخل القومي، ومن ثم تنميتها. ومن هنا جاءت فكرة هذا الكتاب وتبلورت، فقد أدركا المؤلفان أهمية تحديد الموارد الثقافية المصرية، والكشف عن مؤشرات قياس مساهمتها في الدخل القومي.
التحدي الحقيقي الذي يواجه الصناعات الثقافية والإبداعية يتمثل في قدرتها على تقديم قيمة مضافة للاقتصاد
ويلفت الباحثان إلى أن الموارد الثقافية هي: الأعمال الثقافية الموجهة إلى المجتمعات والتي تنتج بأسلوب الإنتاج الكبير وتدخل في عملية إنتاجها رؤوس أموال كبيرة وتمر بمراحل متعددة حتى تخرج في صورتها النهائية، ويدخل في إنتاجها ممول أو منتج وعمالة كبيرة العدد نسبيا ليست بالضرورة هي المصنف للعمل أو المبدع له، وتشبه العملية الإنتاجية فيها ما يتم في مجال الصناعات الحديثة مما جعل هذا النوع من المنتج الثقافي يوصف بأنه صناعة ثقافية حيث تتحول طرق إنتاج الأعمال الإبداعية والفكرية من الطرق التقليدية التي يلعب فيها المبدع الفرد أو مجموعة المبدعين الدور الأساسي في إخراج المنتج الثقافي بصورته النهائية، إلى عملية إنتاجية مركبة يشارك فيها آخرون، ومثلما كان التصنيع مسؤولا عن النمو الهائل في قدرة المجتمعات الحديثة على توليد الثروة مقارنة بالمجتمعات التقليدية، فإن التصنيع الثقافي مسؤول كذلك عن التطور الهائل في القدرة على توليد الثروة الفكرية والفنية الثقافية في تلك المجتمعات وعلى تحقيق الاتصال الواسع بين المبدع والجمهور. ومن أبرز الأمثلة على الموارد الثقافية: الصناعات الثقافية، السينما، والدراما التلفزيونية، ونشر الكتب، والتسجيلات الموسيقية والغنائية المنتجة بهدف التسويق الواسع، والبرامج التلفزيونية الثقافية.
ويشددان على أن الاقتصاد الثقافي يعد فرصة نحو التنمية الاقتصادية، وأن تطوير البنية التحتية الثقافية مهم بشكل خاص لها، والتي سوف يساعدها على أن تجذب أكثر من نصف السياح من جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030. فالحياة الثقافية الثرية أصبحت هي الأساس الذي تعتمد عليه البلدان الرامية إلى جذب المديرين التنفيذيين للشركات والموظفين الموهوبين ـ الساعين وراء الثقافة والترفيه – وكذلك الحركة السياحية تحركها الثقافة. فقد اتجهت الكثير من دول العالم إلى تطوير مدنها اعتمادا على المناطق الثقافية، ومن الأمثلة على ذلك “مركز زورلو” بالقرب من إسطنبول، و”أودايبا” في طوكيو، ومنطقة غرب “كولون الثقافية” في هونغ كونغ و”NDSM” في أمستردام، ومدينة “ستراتفورد” في لندن، وفي الولايات المتحدة وضعت أوستن بتكساس بالجنوب الغربي الخارطة الثقافية لجذب أكثر من 370.000 شخص في عام 2014 لضخ 315 مليون دولار للاقتصاد المحلي. وفي دول آسيا والمحيط الهادئ سعت تلك الدول إلى تعزيز وتنمية قدرتها من الصناعات الثقافية، مثل مركز نادي الفنون الإبداعية (JCCAC) بهونغ كونغ بمقاطعة غرب كولون الثقافية، وتقدم JCCAC خدمات لدعم الأعمال الفنية، وتقديمها للمشاركين والزائرين، ففي عام 2014 قدم المركز 136 وحدة بمثابة أستوديوهات للتصوير والتسجيل، جذبت ما يقدر بـ3000000 زائر خلال العام. كذلك المعارض العالمية في آيتشي (اليابان) التي تأسست في عام 2005، وشنغهاي (الصين) في عام 2010، ويوسو (كوريا الجنوبية) في عام 2012، وكذلك المهرجانات: تشيري بالوسوم (اليابان)، سوجران (تايلاند)، دوالي (الهند) ومهرجان المصابيح.
الكتاب يعد الأول في مصر – على حد علم الباحثين – الذي يتناول واقع الموارد الثقافية ودورها في الاقتصاد القومي
ويضيف الباحثان “نتيجة لقدرة الموارد الثقافية على توليد الثروة، اتجهت العديد من الدول على الاعتماد على الموارد الثقافية لزيادة الدخل القومي، حيث يشهد العالم اليوم استخداما واسعا للموارد الثقافية كمورد رئيسي في الاقتصاد فهي محرك أساسي لتحقيق النمو والتنمية الاقتصادية. وتعتمد الموارد الثقافية على المعلومات وعلى التراث الثقافي والإبداع الثقافي، وهذا ما يميزها عن الموارد الاقتصادية الأخرى التقليدية مثل الصناعة والزارعة والتجارة. وتمثل صناعات الموارد الثقافية (الصناعات الثقافية)، أحد قطاعات الاقتصاد والتجارة الأقوى نشاطا في العالم، وتفتح أمام البلدان النامية آفاقا تجارية جديدة. فعلى المستوى العالمي، تمثل هذه الصناعات حاليا أكثر من 7 في المئة من إجمالي الناتج العالمي، ويُتوقَّع لها حسب تقديرات حديثة أن ترتفع هذه النسبة إلى 10 في المئة في السنوات المقبلة. وتُعتبر الصناعات الثقافية والإبداعية من أسرع الصناعات نموا في العالم وقد ثبُت أنها خيار إنمائي مستدام يعتمد على مورد فريد ومتجدد هو الإبداع البشري، ويُقصد بمصطلح الإبداع هنا قدرة الإنسان على وضع حلول وأفكار جديدة ومبتكرة نابعة من الخيال أو من مهارة الابتكار.
ويوضحان أن “نظرا لأهمية الموارد الثقافية والإبداعية وصناعاتها، اتجه العالم نحو الاهتمام بتنميتها من خلال الإدارة الفاعلة لها، ويقصد هنا ‘بإدارة الموارد الثقافية’ ذلك النظام الذي يهدف إلى صون وإدارة ممتلك بعينه أو مجموعة من الممتلكات بطريقة تحمي قيم التراث، خصوصا القيم العالمية الاستثنائية إذا كان الممتلك تراثا عالميا، ويعزّز فوائده الاجتماعية حيث يكون ذلك ممكنا. إن التعقيد المحيط بالتراث، يلزم المجتمع بقوة المشاركة في إدارته بشكل شامل بدلا من الاقتصار على صون بعض الإنشاءات المعيّنة فحسب، كما كان يحدث في الماضي. وبسبب الاتساع الكبير في نطاق ما يعُرف اليوم بالتراث وازدياد المشكلات التي تواجهه تعقيدا والحاجة إلى استخدامه على نحو مستدام، سواء أكان ذلك للسياحة أم لأهداف أخرى، فإن إدارة التراث باتت أكثر طلبا، وفي الوقت نفسه باتت المخرجات والنتائج المتوقعّة من عمليات الإدارة أكبر من أي وقت مضى.”
الباحثان يؤكدان أن التحدي الحقيقي الذي يواجه الصناعات الثقافية والإبداعية يتمثل في قدرتها على تقديم قيمة مضافة للاقتصاد الوطني
ويقول الباحثان إن مسؤولية الأنشطة الثقافية والإبداعية في مصر، تقع على عاتق عدة قطاعات في الدولة، وإن قطاع الثقافة هو القطاع الأكبر الذي يدخل ضمن مسؤولياته النصيب الأكبر من الموارد الثقافية. فالموارد الثقافية التي تقع تحت مظلة وزارة الثقافة هي: الأفلام الفيديو، المكتبات والأرشيفات، الفنون المسرحية (المسرح، الرقص، المهرجانات)، التصميم (المنتج، الموضة، الرسم)، الفنون البصرية (الكتب، الصحافة، المجلات)، الموسيقى، الترفيه والتسلية والأنشطة الثقافية الأخرى. أما باقي الموارد فإن مسؤوليتها تقع تحت مظلة قطاعات أخرى وقد يشترك معها قطاع وزارة الثقافة. وعلى الرغم من اهتمام الحكومة بالصناعات الثقافية والإبداعية، إلا أن هذا الاهتمام لم ينعكس على تقدير حجم مساهمات الموارد الثقافية والإبداعية، حيث وُجد أن هناك العديد من الموارد الثقافية والإبداعية لم يتم تقدير مساهمتها في الإحصاءات الوطنية التي تخرج عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تصل تقريبا إلى 9 موارد، أي أنه يوجد ما يقارب من 60 في المئة من الموارد لا يوجد تقدير لها. وعلى الرغم من ذلك فإن نسبة 40 في المئة من الموارد تساهم تقريبا بأكثر من ثلاثة مليارات جنيه مصري في الدخل القومي وهي نسبة لا بأس بها، تدل على قدرة الصناعات الثقافية في مصر على تحقيق التنمية المستدامة إذا تم الاهتمام بتنميتها. وفي اتجاه الموارد البشرية العاملة في الأنشطة الثقافية والإبداعية في مصر، هناك العديد من الموارد البشرية العاملة في الأنشطة الثقافية والإبداعية لم يتم تقدير أعدادها في الإحصاءات الوطنية التي تخرج عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تصل تقريبا إلى 8 موارد، أي أنه يوجد ما يقارب 53.3 في المئة من الأنشطة الثقافية والإبداعية، لا يوجد تقدير عدد الموارد البشرية التي تعمل بها. وعلى الرغم من ذلك فإن نسبة 46.7 في المئة من الأنشطة الثقافية والإبداعية يعمل بها أكثر من ثلاثة وسبعين ألفا من العمالة الثقافية، أي أن العدد الحقيقي للموارد البشرية في الصناعات الثقافية والإبداعية، يمكن أن يضاعف هذا الرقم المعلن، وهو رقم لا بأس به يستطيع تعزيز الإبداع والابتكار ونمو الاقتصاد الوطني ورفاهية المجتمع.