أيمن الشوفي: تغيرت أجندات الكتابة وأدواتها

“أيمن الشوفيّ، سيكون لهذا الاسم شأنٌ في عالم الرواية في المستقبل. لا أقول هذا الكلام كناشر وإنما كقارئ قرأ نص الرواية بتلذذ وألم، فهو عن الثورة السورية بآمالها وخيباتها. ما إن بدأت بقراءة الصفحات الأولى حتى وجدت نفسي أمام لغة روائية متفردة وشيقة”. بهذه الكلمات قدم الناشر السوريّ خلدون النبواني صاحب “دار كتابوك” في باريس الروائي أيمن الشوفيّ، مقرراً أن تكون باكورة أعمال الروائي السوريّ الشاب “غواية البازلت الأبيض” الصادرة مؤخراً، سفيرة الدار إلى “جائزة كتارا للرواية العربية”.
طبيب غير آمن
لا يخفي الروائي السوريّ الشاب أيمن الشوفيّ أن كتابة رواية ما في هذا “الزمن السوريّ العصيب”، تعني بالضرورة أن يخرج كاتبها من الواقع سالما، معللًا ذلك بالقول “إنّكَ تطرح بدائل حين تكتب، وتستقوي بذاتك في الكتابة على الواقع. ما أطّركَ سابقًا، تُعيد تأطيرهُ بالكتابة في انبثاقٍ متبادلٍ لا يهدأ، وروايتي الأولى «غواية البازلت الأبيض» هي اقتطاعٌ جزئي من أزمة وجودٍ كليّة تعيشُ على أكتاف السوريين عمومًا، تحثّهم على إزالة الأقنعة من فوق الأسئلة الصعبة، يعيدنا السرد فيها إلى تلك الأشهر القاسية من صيف العام 2013، فالشخصيات تفضح ذاتها في سردياتها الخاصة، تبحث عن هويّة تمسكها، ثم تعود وتعلقُ في فخاخ الحدث الواقعي وعبثه، كتبتُ الرواية طيلة شتاء العام 2015، وهو الشتاء الأصعب الذي مرّ عليّ، وعلى معظم السوريين، وامتدت الكتابة حتى منتصف الصيف، لقد حاولت الرواية أن تؤرشف الواقع على طريقتها، دون أن تستفيض فيه، وأن تتسلل بشخوصها إلى زمن السرد الواقعي فتصير جزءًا منه”.
يتحدث ضيفنا عن أسباب نشر الرواية إلكترونيًا، وعدم نشرها ورقيًا حتى الآن، يقول مُحاورنا “لم أكن أملك كلفة الطباعة الورقيّة للرواية، كما أن دور النشر الكبرى في بيروت لها أجنداتُ نشرها الخاصة، تلك التي يتحلّق حولها دومًا طوقٌ ضيق من الكتاب توليهم أولوية الطباعة المجانيّة. أيضًا تلقيت عرضًا من دار نشر سوريّة انتقلت إلى بيروت لكنه كان مجحفًا بحقوقي ككاتب، فرفضته، اللافت أنّ دار كتابوك للنشر الإلكتروني في باريس تعاملت بجدّية وشغف مع الرواية منذ البداية، صاحبها خلدون النبواني عانى كغيره من مأزق النشر الورقي، متعبةٌ هي دور النشر حين تحبس النصوص في أدراجها، ثم وجدتُ شروط النشر لدى دار كتابوك جيدة، ووجدت صاحبها أشدَّ حماسةٍ مني للإسراع في نشرها. لكن المشكلة أن تجربة النشر الإلكتروني لا تزال جديدة علينا، لم تطوّعنا بعد إلى جوانبها الجاذبة، المتطابقة أصلًا مع اعتمادنا الواسع على الكمبيوتر المحمول والإنترنت وسواهما”.
الرواية تحيلنا إلى تاريخ الأشخاص، وإلى الحدث في سياقه التاريخي، لا في آنيته الراهنة، فهي منفلتة من الآنية
كتب الشوفيّ عن الحدث السوريّ، الذي لا يزال طازجًا ونعيش يوميًا تفاصيله الدموية بالغة التعقيد. ما يدعونا إلى سؤاله: كيف بنى عمارته الروائية تحت وطأة الزلزال الذي دمّر أكثر من ثلث العمران بالبلد وقتل مئات الآلاف وهجّر الملايين، وجعل الخراب يعمّ روح الإنسان السوريّ؟ يجيب ضيفنا “أتفقُ معكَ حول وطأة ما حدث خلال خمسة أعوام، لكن التخلّي عن الواقع بالفرجةِ عليه يحيلنا بالضرورة إلى سلسلة من الهزائم، وإن كانت غير محسوسة، وحين نكتب عن سوريا الوطن المأزوم فإننا لا ندير ظهرنا لها ونمضي في سبيلنا، حرفةُ الكتابة ضرورية لنبش الخراب الذي رافقها وأوصلها إلى نقطة اللارجعة، أقصد إلى حراك مارس 2011، ومن بعده وقع خرابٌ آخر امتدّ من داخل الإنسان إلى خارجه، ثمّ إن عوامل التعريّة التي تصيب الطبيعة الجامدة من حولنا، تعودُ فتصيب البشر أيضًا بالمقدار ذاته، وحين ترفض كتابة فيضٍ مكتمل في داخلك مهما كانت درجة المخاطرة، وأيًا كانت العاقبة، فإنك لا تشبهُ هنا سوى طبيبٍ يرفض إجراء عملية جراحية لإنقاذ مريض في مكانٍ يعتبرهُ غيرَ آمنٍ على حياته الشخصيّة”.
الرواية والشباب
نقاطعه ونسأل “ولكن ألا تعتقد أنه من المبكر كتابة رواية عما يحدث في سوريا؟” فيجيبنا “لا تشترط الكتابة الروائية حدثًا تاريخيًا مكتملًا لتصطادهُ فتكتب عنه، تكتفي بحدثٍ ناضج تنسبهُ إلى شخصياتها ثم تعودُ فتنسب شخصياتها إليه”. وعن رأيه في مقولة إن “التاريخ يقول إن فترات الاضطراب الاجتماعي العنيف المكللة بالدماء الساخنة لا تشهد أدبا رفيعا متميزا في الحال، وإنما ينبثق منها أدب اللحظة، أدب رد الفعل السريع الذي يحوي الكثير من الحماسة المتوهجة، والقليل من الإبداع الجميل”.
|
يعلق الشوفي “ربما نقبل هذه المحاكمة في الشعر وفي القصة القصيرة أكثر، وربما نقبلها في السينما أيضًا، لكن الرواية مسألة مختلفة، الحدث في الرواية لا يستنطق اللحظة ككيانٍ مجرّد عن صيرورته التاريخيّة، الرواية تحيلنا إلى تاريخ الأشخاص، وإلى الحدث في سياقه التاريخي، لا في آنيته الراهنة، بهذا تنفلت الرواية من فخ الآنيّة المفرطة، ومن لوثات ردّ الفعل المصاحب لها، وهذا له مقاربات في الرواية العربية المعاصرة، فلا يمكن قبول رواية «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي على أنها رد فعل يحاكي أشلاء البشر التي تخلّفها السيارات المفخخة، إذ أن الرواية الحقيقية تدور هناك في الرواق الخلفي للشخصيات التي أدارتها حبكة ممتازة، كما لا يمكن اعتبار رواية «شريد المنازل» لجبور الدويهي على أنها سرديّة من سرديّات الحرب اللبنانيّة، لأنها ببساطة احتفاء متقن بتفاصيل تترك رائحتها الطازجة على ثياب شخصياتها، وعلى ثيابنا ونحن نقرأ، بحيث تصير الحرب معها مجرّد فقّاعةٍ بائسة”.
وبسؤاله وهو الذي ينتمي إلى جيل الكتّاب الشباب، هل يرى أنّ جيله مقلد لما سبقه أم أنه يؤسس لنمط جديد في الكتّابة الإبداعيّة؟ يقول أيمن الشوفيّ “أعتقد أنّ هموم الكتابة ومشاغلها باتت مختلفة بين جيل الكتّاب الشباب، وبين من سبقهم، ومعها تغيّرت أجندات الكتابة وأدواتها، وهذا يولّد منتجًا أدبيًّا مختلفًا من حيث مقاييس المحاكمة والنقد والتذوّق، منتجًا أكثر استجابة لإلحاح البحث عن صورة الذات ومكوناتها، وبالتالي تحديد شكل الهويّة وقيمتها لجيلٍ عربيّ كامل عاش فورة التكنولوجيا والاستهلاك مثلما عاش انكسار الربيع العربي وخيباته، وصعود نجم التطرف الإسلامي المرعب، وأقصد هنا من هم دون الأربعين من العمر”.
وعن مدى استجابة الحركة النقدية لهذا النمط الجديد من الكتابة، وهل راعى النقاد الأساليب الحديثة في النصوص الجديدة؟ يرى الشوفيّ أنه “بصورةٍ عامة، يهتم الإعلام العربي والناقد العربي بالروائي الذي تقدّمه الجوائز المتخصصة، مثل البوكر، أكثر من سواه، بحيث تظل العديد من التجارب الروائية العربية التي تحمل طابعًا غرائبيًّا خاصًّا بعيدة عن دائرة النقد والضوء”.