أيغفرون لأمي خطيئتها بعد عشرين عاما؟

صانعو المعروف لا يتذكرهم أحد في الخير وإنما تلوك سيرتهم الألسنة حال حدوث أي خطأ.
الاثنين 2019/01/07
لبنات الشرق سحر لا يقاوم

نقاش عائلي ساخن امتد إلى منتصف الليل، ما بين جذب وشد، وحديث جانبي بين امرأتين كبيرتين في العمر والمقام من نساء العائلة، أصوات تعلو وتخفت، وظلت المباحثات على قدم وساق والجميع مشغولون بهذه المعضلة الكبيرة، والمشكلة العويصة، كارثة الأسرة التي بلغت ابنتها عامها الخامس والعشرين دون زواج رغم جمالها الأخاذ وثراء عائلتها!

تفتق ذهن أمي عن فكرة عبقرية، لعلها تستطيع بها حل مشكلتين معا، وقذف عصفورين بحجر واحد. قريب لنا من جهة أمي، قادم من دولة أوروبية ذات تاريخ عريق، وحضارة ضاربة بجذورها في عمق الزمن، وبذخ اقتصادي ألقى بظلاله على القريب الثري فأضاف له بعدا يلمع صورته اللامعة بالأساس من جميع الزوايا، وجعله عريسا “لقطة” بالعامية المصرية. وبات يمثل ضالة أهل العروس الحسناء المتمردة.

وهو أيضا وجد ضالته في عروس مصرية بعد أن تيقن بعد سنوات من الزواج بشقراء حسناء أوروبية الجنسية، والهوية والهوى والمزاج، بأن لبنات الشرق سحرا لا يقاوم، ودفئا تركته في قلوبهن بلاد الشمس الحانية شتاء والصريحة صيفا.

وأيقن أن انفصاله عن حسناء دولة المهجر ضرورة لعدم اتفاقهما في الفكر والرؤى، والأيديولوجيات، وتضاد خلفيتهما الثقافية والاجتماعية، حتى ألعاب الطفولة وذكريات الشوارع الضيقة والحواري الملتوية في رحلات الصيف لزيارة الأهل في الريف لا تجمعهما فيها سجادة خضراء فرشتها الطبيعة كتلك المحتمية بها بعض الأراضي الطينية قبل أن يقتلها الغزو الخرساني، وتغتالها يد البناء الرأسي والتوسعات الزاحفة على سنابل القمح الطيب.

سحر خفي وتفاصيل مدهشة تجمع أهل الشرق دائما وتجعل معظم مغتربيه في البلدان الراقية يعودون للزواج من فتياته.

رأى قريبي أن من المناسب والأجدى له الزواج بعربية تشاركه الحلم والهوى، وبعد توافق واتفاق ولقاءات وربط الأحداث قررت الأسرة الموافقة على العريس مصري المولد، القادم من بلاد الجليد، حامل جنسيتها، توافقا ثقافيا وفكريا، وتم الزواج، منذ أكثر من سبعة وعشرين عاما. عاشا حياة طويلة مليئة بالأحداث والأفراح، سافرا وجابا العالم، أنجبا ثلاث فتيات، صارت لديهما حياة جميلة، بيتا فارها، سيارة أنيقة ومدخرات لا بأس بها، وللزوجة مصوغات ومشغولات ذهبية، باختصار مستوى مادي رائع.

مع الفرح يتضاءل الحديث عن أمي، لا بأس فهي نفسها لا تبالي، حتى زيارتهما صارت شحيحة للغاية، ولكن حين تحدث مشكلة ما بينهما يأتي ذكر أمي ويفيض الحديث عنها وربما لعنا اليوم الذي عرضت فيه هذه الزيجة وقامت بهذا الاختيار، وربما ذهبا لأبعد من هذا بالسباب والشتائم.

جميع التهم تسقط بالتقادم، فمع مرور السنوات تسقط عن جميع المجرمين التهم ولا تطالبهم الحكومات والجهات الأمنية بقضاء عقوبة ما، لكن وحدها أمي تظل تهمة تزويج اثنين تلاحقها كعار لا يمكن الفرار منه، ما عساها أن تفعل؟

هل تظل مذنبة تتجدد تهمتها مع نهارات الغضب الزوجي والمشكلات التي لا تنتهي في الحياة الزوجية بالطبع؟

عشرون عاما فرت من الزمن ولم يفر عن أمي الذنب الذي تبرأت منه مرارا، واغتسلت من خطيئتها وتطهرت بأن أقلعت إلى توفيق رأسين في الحلال بأي طريقة كانت، امتنعت عن تزويج أي فتاة أو عرض أي رجل مهما كانت إمكانياته على أهل فتاة تأخر زواجها مهما تكن الأسباب بعدما باتت تقرأ النتيجة مسبقا من تجربتها اليتيمة.

زواج قديم وخطيئة تتجدد مع تجدد مشكلاتهما، أصبحت حياة أمي مستباحة، وهدوئها معرض للاختراق في أي وقت، من حقهما الاتصال في أي وقت من ليل أو نهار للشكوى، نهاراتها التي تمر بسلام تستنشق فيها هواء طازجا تعدها فرصة لن تتكرر، كم من العطلات ضاعت علينا تسديدا لدين أمي تجاه هذه الأسرة التي ولدت على يديها؟ وكم من النزهات الصيفية والسهرات العائلية أفسدتها مكالمة هاتفية ونحن على درج البيت؟

وكأن أمي باعت جهازا كهربائيا بشهادة ضمان ضد الأعطال مدى الحياة.

هذا الموقف ليس استثناء ولكنه القاعدة المعمول بها مع بني البشر، فصانعو المعروف لا يتذكرهم أحد في الخير وإنما تلوك سيرتهم الألسنة حال حدوث أي خطأ.

رفقا بمن أسقونا العسل فلا ذنب لهم ولا خطيئة في شوائب مترسبة تسكن الإناء.

21