أيام كورونا "السوداء" تقود إلى هستيريا جماعية

بسبب فايروس كورونا لا يختلف إقبال الناس في مختلف أنحاء العالم على شراء السلع الاستهلاكية بمختلف أنواعها، وتشبه لهفتهم لهفة حيوان الهامستر وهو يأكل. السياسيون يحذرون من ردود فعل مفرطة، ورغم ذلك يقبل عدد متزايد من الناس على شراء السلع لتخزينها تحسبا لحالات الطوارئ.
تونس - لم يؤثر تزايد انتشار فايروس كورونا على اقتصاد الدول والشركات والقطاعات الإنتاجية فحسب، بل امتد إلى جميع مناحي الحياة في مختلف المجتمعات العربية والغربية، حيث سجل إقبال كثيف على شراء السلع والمواد الغذائية، تحسبا لأي حظر على الخروج والجولان. وعملا بمقولة رب ضارة نافعة، مثّل هذا الإقبال فرصة جيدة للتجار حيث يتناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي بغضب الارتفاع المسجل في بعض المواد الغذائية.
في تونس مثلا، تضاعف سعر الثوم ثلاث مرات، حيث تهافت عدد كبير من العائلات على المحلات التجارية بُغية شراء المؤونة وتخزينها خوفا من نفادها، في صورة توسع دائرة الوباء، ما أدى إلى تسجيل نقص في بعض المواد الغذائية.
كما شهدت الأسواق التونسية نقصا في بعض المواد الاستهلاكية مثل مادة الدقيق والمياه المعدنية والحليب والسكر، بسبب اللهفة والإقبال المبالغ فيهما.
وقال ياسر بن خليفة المدير العام للأبحاث والمنافسة بوزارة التجارة، إنه لا وجود لأزمة في المواد الاستهلاكية كما يعتقد بعضهم بل إن النقص يعود إلى الإقبال الكثيف عليها وعلى العديد من المواد الغذائية الأخرى، وذلك مباشرة بعد الإعلان عن وجود حالة كورونا في تونس.
كما دعا بن خليفة التونسيين إلى عدم اللهفة مشيرا إلى أن وزارة التجارة تدخلت لضخ المواد الغذائية ولها مخزونها الذي يفي بالحاجة.
ويقول محمد (40 عاما) “لقد دهشت حينما دخلت إلى سوبر ماركت في المروج في الضاحية الجنوبية من العاصمة التونسية؛ لقد أفرغت كل الرفوف من محتوياتها، لم يتركوا شيئا.. فقط الشوكولاتة والبسكويت”.
ولا يختلف الوضع في تونس عن باقي الدول العربية، ففي أحد المتاجر الكبرى في بيروت، تقول إحدى المتسوقات “لا أذكر أننا قمنا بالتموين بهذه الطريقة من قبل”.وقال رئيس جمعية أصحاب السوبر ماركت نبيل فهد “ليست هناك أزمة على صعيد تأمين المواد الغذائية، لكننا شهدنا في الأسبوع الماضي تهافتاً من قبل المواطنين على شراء بعض السلع الأساسية مثل الأرز والسكر والطحين والحبوب بحوالي 5 أضعاف مقارنة مع الأيام العادية. وتزامناً مع ارتفاع الطلب على هذه المواد تغيرت أسعارها بسرعة، لأنّ وكلاء هذه المواد حوّلوا تسعيرها إلى الدولار، فزادت أسعارها (بنسبة) 15 في المئة”.
ويبدو ان هذا الانخراط العاطفي في عملية الشراء قد أصبح سلوكا عالميا إذ ذكر أحد محرري “العرب” في لندن أن عملية التسوق في العاصمة البريطانية تحولت إلى ما يشبه البحث عن الكنز، تتخللها نقاشات حامية الوطيس بين أشخاص “مستميتين” في أخذ نصيبهم من السلع التي يعتقدون أنها ستنفذ في أيام كورونا “السوداء”. ويضيف “سمعت أيضا عجوزا مسنة بجانبي تتحدث عن رعب كورونا الذي جعلها تخزن الأكل في الثلاجة وتتحاشى الخروج للتسوق خوفا من الإصابة، صادفت كذلك بعضهم من جيراني في أحد المراكز التجارية القريبة من منزلي في تويكنهام، وقد اشتعلت لديهم الرغبة في التسوق، فبالغوا في شراء المواد الغذائية، حتى أنني خلت لوهلة ان المحل سيوصد أبوابه قريبا أو ربما يعاني من أزمات مالية بعد أن رايت أرفف المتاجر تكاد تخلو من السلع”.
ويتابع المحرر “أعتقد أن هذا التهافت على الشراء يعكس استجابة محسوسة لشعور شائع بالخوف، بسبب رواج الكثير من الأخبار والشائعات الزائفة حول الفايروس، ما أثر على وعي المستهلكين ورفع حمى الشراء، لكن كل ما سيجنونه هو ارتفاع أسعار السلع”.
غريزة القطيع
مع ارتفاع عدد حالات الإصابة بفايروس كورونا في العالم شهدت المتاجر اختفاء العديد من السلع، مثل الأرز والمعكرونة وزيت الطبخ والطحين والبسكويت وحليب الأطفال الرضع والحليب طويل الأمد والشاي، بسبب حالة الهلع التي دفعت السكان إلى تخزين المواد الغذائية ومواد التنظيف. وباتت الصور التي تُظهر بعض المتاجر ذات الأرفف الخالية شائعة في بعض بلدان العالم.
وأصدرت الحكومة الألمانية عددا من التوصيات لمواطنيها، طالبتهم فيها بـ”توفير مواد غذائية لمدة عشرة أيام” و”توفير الماء الصالح للشرب بنحو 14 لترا في الأسبوع الواحد للشخص الواحد، لاسيما الماء المعدني وعصير الفواكه” و”أن تكون جميع المواد الغذائية قابلة للتخزين دون تبريد”.
وأظهر استطلاع للرأي أن 80 في المئة من محلات بيع المواد الغذائية غير مستعدة لمجاراة “الإيقاع المجنون” الذي يسير به المستهلك، وإقباله المحموم على هذه المواد، كما أظهر الاستطلاع أن واحدا من بين كل عشرة أشخاص شرع بالفعل في تخزين تلك المواد. وبسبب الأزمة، بدأت المتاجر تفرض قيودا على الكمية التي يمكن شراؤها من تلك السلع، التي تشهد نقصا حادا مع زيادة الإقبال على شرائها وتخزينها.
وأدى انتشار فايروس كورنا حول العالم إلى تعزيز مخاوف بعضهم من أن يتحول الأمر إلى سيناريو “كارثي”، مما دفعهم إلى شراء وتخزين السلع المختلفة بصورة مبالغ فيها، لكن هناك من يحذر من ردود الفعل غير المحسوبة التي قد تسهم في تحول الأمر إلى “فوضى” في بعض المجتمعات.
عقلية القطيع تلعب دورا في جعل الناس يقبلون على الشراء عندما يرون غيرهم يتهافتون على المتاجر، وفق بعض الخبراء
ويرى بعض الخبراء أن المبالغة في الدعوات إلى تخزين السلع بهذا الشكل ليس لها ما يبررها، وقد تؤدي إلى المزيد من القلق الذي يدفع الناس إلى ما يعرف بـ”هستيريا الشراء”. ويقول محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، إن حالة “الخوف الهستيري” التي تظهر في مثل هذه المواقف معروفة، ويجب التعامل معها بشكل دقيق، حتى لا تتحول إلى “هستيريا جماعية” تضر جميع أفراد المجتمع.
ودفع الهلع من انتشار فايروس كورونا الناس إلى التهافت على الشراء والتخزين. وهذه الظاهرة لها عواقب عديدة، منها أنها تتسبب في رفع الأسعار ونقص السلع التي قد يكون آخرون في حاجة ماسة إليها، مثل الكمامات التي يحتاج إليها عمال الرعاية الصحية.
ويفسر الخبراء هذه الظاهرة بالقول إن الخوف من المجهول في أوقات الأزمات والاعتقاد بأن الاستجابة ينبغي أن تعادل جسامة الحدث، قد يدفعان الناس إلى الشراء بكميات تفوق احتياجاتهم، رغم أن رد الفعل الأمثل في هذه الحالة هو غسل اليدين فقط.
ويقول ديفيد سافيدج، أستاذ مساعد في علم النفس السلوكي والاقتصاد الجزئي بجامعة نيوكاسل في أستراليا، إن الاستعداد للكوارث الوشيكة، كالكوارث الطبيعية، هو تصرف عقلاني. لكن شراء 500 علبة فاصوليا مطهوة تحسبا لانقطاع الاتصالات لأسبوعين فقط، لا يمت إلى المنطق بصلة.
غير أن هذا النوع من السلوكيات قد يؤدي إلى شح السلع، كما حدث في عام 2017، حين ضرب مدينة هيوستن الغنية بالنفط في تكساس إعصار هارفي، وتوقفت إمدادات البنزين والديزل في الولايات المتحدة مؤقتا، إثر الفيضانات والتدابير الاحترازية التي اتخذتها معامل تكرير النفط.
ويقول ستيفن تايلور، إن المشكلة تفاقمت عندما هرع الناس إلى محطات البنزين لملء سياراتهم بالوقود، وساهموا في ارتفاع أسعار النفط لمدة عامين.
ويضيف الأخصائي النفسي بجامعة بريتيش كولومبيا، أن تخزين السلع قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في الأسعار. فإذا تضاعف سعر السلعة، يظن المستهلك أنها ستنقص، وهذا يؤجج الشعور بالقلق.
ويعزو بين أونهايم، مدير مؤسسة “ميتابيوتا” لأبحاث الأمراض المعدية، هذا التهافت على الشراء إلى الخوف من اختلال سلاسل التوريد والإنتاج العالمية بسبب تفشي الفايروس في الصين، التي تعد الحلقة الأقوى في سلسلة التوريد العالمية، وشاعت مخاوف من نقص الأدوية والكمامات والسلع الاستهلاكية الأخرى.
ويقول تايلور إن ثمة فارقا كبيرا بين الاستعداد للكوارث وبين الشراء بدافع الهلع. ففي الحالة الأولى يعرف معظم الناس السلع التي يحتاجون إليها في حال نقص المياه أو انقطاع الاتصالات، لكن المشكلة أن الغموض الذي يكتنف آثار تفشي فايروس كورونا المستجد يدفع الناس إلى الإفراط في الإنفاق.
ويرى تايلور أن الهلع قد يحفّز الناس على بذل كل ما في وسعهم لتبديد مخاوفهم، مثل الانتظار في طوابير لساعات أو شراء سلع بكميات تفوق احتياجاتهم.
وقد اجتاحت العالم حمى الشراء مرات عديدة من قبل، كما في عام 1962، حين كان العالم يترقب وقوع حرب نووية في أوج أزمة الصواريخ الكوبية. وهرعت العائلات الأميركية إلى تخزين المعلبات وقوارير المياه.
وفي مطلع الألفية الثالثة ظهرت مشكلة الصفرين، حين تنبأ بعضهم بوقوع كوارث وتوقف أجهزة الكمبيوتر وانهيار الأسواق العالمية أو سقوط صواريخ بحلول عام 2000، واستجاب الناس حينها لا بتكديس السلع غير المعمرة فحسب، بل أيضا بتكديس الأموال، ما حدا بوزارة الخزانة الأميركية إلى إصدار أوامر بطباعة 50 مليار دولار إضافية تحسبا لتهافت المودعين على سحب النقود.
ويفسر تايلور ذلك بالقول إن الناس في هذه الظروف يحتاجون إلى اتخاذ خطوات تتناسب مع حجم الأزمة وفقا لرؤيتهم. ويعتقد الكثيرون أن غسل اليدين هو إجراء بسيط، لا يليق بجسامة الكارثة. ولهذا يؤْثرون إهدار المال في شراء السلع أملا في أن تحميهم من المرض.
ويقول أوبنهايم إن الشراء بدافع الهلع هو حيلة نفسية للتعامل مع الخوف، أو وسيلة لاكتساب شيء من السيطرة على الموقف.
ويشير سافدج إلى عامل آخر قد يدفعنا إلى التهافت على الشراء وهو الخوف من إضاعة الفرص؛ فقد تعترينا الكآبة عندما ندرك أننا ضيعنا فرصة شراء أوراق المراحيض التي نحتاج إليها.
ويقول الخبراء إن عقلية القطيع تلعب دورا في جعل الناس يقبلون على الشراء عندما يرون غيرهم يتهافتون على المتاجر. ويقول تايلور إن الأخبار التي نقرأها على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية، تبالغ في وصف ندرة السلع، وهذا يحفّز الناس على التنافس في شرائها.
ويرى بعضهم أن حمى الشراء قد تكون مدفوعة بقرارات عقلانية. ويقول أوبنهايم، إن بعضهم قد يقرأ مقالات عن اختلال سلاسل التوريد في الصين أو نقص الكمامات في هونغ كونغ، ثم يتخد قرارا منطقيا بتخزين الكمامات تحسبا لنقصها. وقد يؤجل بعضهم الآخر الشراء حتى آخر لحظة، خشية إهدار النقود في شراء مستلزمات قد لا يستخدمها في حال عدم وقوع الكارثة.
ويعلل بعض الخبراء في هونغ كونغ التهافت على الشراء في أوقات الأزمات بانخفاض الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الأزمة.
وينصح أوبنهايم بالاستجابة لتساؤلات الجمهور لتبديد مخاوفهم، حتى نقلل من التهافت على الشراء.
السيطرة على التهويل

ثمة خطط بديلة قد تسهم في الحد من التهافت على شراء السلع في أوقات الأزمات، على رأسها تخزين كميات معقولة من السلع الغذائية تحسبا للطوارئ والأزمات على مدار العام. فعندما يهرع الناس إلى المتاجر في نفس الوقت لشراء السلع قد يعمد التجار إلى المبالغة في ترفيع أثمانها أو قد تنقص السلع التي يحتاج إليها الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض.
وينصح الخبراء بانتقاء مصادر الأخبار لتفادي نشر الشائعات والأخبار الملفقة.
ويقول علماء النفس إن مزيجا من غريزة القطيع والتغطية الإعلامية الكبيرة للأخبار المتعلقة بالفايروس هو سبب المشكلة.
وقالت كايت نايتنغيل، المتخصصة بعلم نفس المستهلك، ومقرها في لندن، “كنا لنكون أكثر عقلانية لو لم نسمع كثيرا عن الأخطار المحتملة للفايروس في وسائل الإعلام”. وأضافت “إما أن نتجنب الموضوع، وإما نتصرف بشكل جنوني ونخزّن أي شيء قد نحتاج إليه”.
وأوضح أندي ياب، المتخصص بعلم النفس وشارلين تشن المتخصصة بالتسويق والأعمال في سنغافورة، أن الشراء الجنوني لسلع غير طبية مثل ورق المرحاض، “يمنح الناس شعورا بالسيطرة (مفاده أنني) سأحصل على ما أحتاج إليه عندما أريد”.
وقال متخصصون إن مشاهدة الصور وقراءة المنشورات غير المحدودة عبر وسائل التواصل الاجتماعي “تشوهان تصورنا وتجعلاننا نعتقد أن الأمور أكثر خطورة مما هي عليه بالفعل”.
ورأوا أنه مع تزايد حالة عدم اليقين تتحول منتجات، مثل الأقنعة الجراحية ومعقم اليدين، إلى “سلع لحل المشكلات… وتبدو كما لو كانت تساعد الناس على السيطرة على الفايروس”.
وباتت الأقنعة المخصصة للاستخدام الواحد، والتي عادة ما تباع في مقابل بضعة سنتات، من المقتنيات القيّمة ويتفاقم هذا الأمر بسبب القيود المفروضة على الواردات من الصين، المنتج الرئيسي لها، بحيث تحتفظ الحكومة بالمزيد منها للاستخدام الداخلي.
في لندن، تباع الأقنعة في الوقت الراهن بأكثر من 100 مرة من سعرها المعتاد، فيما قالت السلطات الفرنسية إنها ستتولى بيع أقنعة الوجه وإنتاجها.
وقالت الناطقة باسم منظمة الصحة العالمية فضيلة شايب “الطلب مدفوع بالشراء المجنون والتخزين والمضاربة”.
وقالت كايت “في النهاية، نحن نحتاج إلى مجتمعاتنا للبقاء. لذلك فهي غريزة بدائية أن نفعل كل ما يفرضه علينا المجتمع”.