أيام طه حسين السيرة الذاتية
لم أدرك معنى السهل الممتنع إلا حين قرأت مؤلفات طه حسين. أولها “المعذبون في الأرض” التي سحرتني بأسلوب فريد منذ المقدمة، وإن ساءني منها مناخها القاتم الطاّفح بالمآسي، فضلا عن تدخل الكاتب في أكثر من موضع لإبداء رأي خارج عن النسيج السردي.
وثانيها كتاب الأيام، في جزئه الأول، سيرة ذاتية صيغت في شكل مروية ينهض بها سارد عليم، تصور كفاح امرئ شاء له قدره أن يفقد البصر ولم يتخط عامه الرابع، ولكن إعاقته تلك لم تمنعه من طلب العلم والأخذ بأسبابه، بدءا بما كان يتداول في الكتاتيب من حفظ القرآن ومجموع المتون، وانتقالا إلى الجامع الأزهر كي يلمّ بعلوم ذلك العصر، ويصبح شيخا، كما شاء له أبوه، يتحلّق حول عموده الطلاب.
وقد أبدى الصبيّ نبوغا منذ صغره، وقدرة على تجاوز حجب الظلام، وحسّا نقديا حادّا، تبدى في نقده سلوك مشايخ بلدته النائية في صعيد مصر، وعاداتها البالية، وأمراضها المستشرية التي ذهبت ببصره وأودت بإحدى أخواته، ثم في نقده مشايخ الأزهر وأساليب التدريس فيه، كوصفه في آخر الكتاب ما تناهى إلى سمعه أول مرة من شيخه ذي الصوت المحشرج حول مسألة الطلاق، ما جعله يحتقر “العلم” منذ تلك اللحظة. وهو ما أثار حفيظة المشايخ مرة أخرى، عند صدور الكتاب عام 1927، أي بعد الضجّة الصاخبة التي رافقت كتابه “في الشعر الجاهلي”، الذي استعمل فيه منهج الشكّ الديكارتي.
هذا الكتاب، الذي وضعه طه حسين وهو لم يتمم الأربعين، استفاد فيه هو أيضا مما اطلع عليه من آداب الغرب في القصة والرواية أثناء دراسته في فرنسا، من جهة دقة الوصف وتخير اللفظ المناسب لتسمية الأشياء بأسمائها دون تعميم، ولكنه نهل مما اختزنته ذاكرته من لغة القرآن الكريم، الذي حفظه في سن التاسعة، طلاوةَ أسلوبه وصفاء لغته ورشاقة عبارته، فجعل لجملته إيقاعا تطرب له الأسماع، دون تصنّع ولا زخرف.
فالرجل يكتب بإشراق قل نظيره في الأدب العربي المعاصر، سواء في قصصه ورواياته، أو في محاضراته وحواراته، أو في كتب النقد والمقالة، وحتى في كتابه الشائق “على هامش السيرة”. اكتشفت “الأيام” في مطلع الستينات عند دراسة مقتطفات منه ضمن النصوص المبرمجة، وحفظت ذلك الموقف المؤثر يوم جلس الصبيّ لتناول العشاء بين أهله، فأخذ اللقمة بكلتا يديه، وإذا بأبيه يقول له في أسى “ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بنيّ”.
“كتاب الأيام” مثال فريد لأدب السيرة، صاغه طه حسين كعمل أدبي سردي، يمكن أن يقرأ بمعزل عن سيرة صاحبه، إذ يلمس فيه القارئ ما للكفيف من قدرة فائقة على إدراك الواقع في شتى تجلياته أفضل من المبصرين، وكان ديكارت أول من قال “إن للأعمى أنوارا لا يملكها المبصر”. وأما ما قيل عن اختيار طه حسين الدور الأجمل، فذلك من طبيعة هذا الجنس، ألم يقل مونتاني في مفتتح مذكراته “أنا نفسي مادة كتابي؟” وأما عن اعتداده بنفسه، فهو أمر مشروع، ولا نحسب أن ضريرًا بلغ مبلغه على مرّ التاريخ عدا عظيمين آخرين هما هوميروس والمعريّ، وإن شئنا الدقة أضفنا الفيلسوف اليوناني ديمقريطس.
كاتب من تونس مقيم بباريس