أولوية اجتماعية لتبديد مخاوف الشارع المصري من إهدار عوائد الصفقات

القاهرة- حمل إعلان الحكومة المصرية عن تركيزها الفترة المقبلة على أولويات اجتماعية تتناسب مع مطالب المواطنين، تأكيدا بأنها باتت معنية بشكل أكبر بتكريس الأمان الاجتماعي وتبديد مخاوف الشارع المصري من إهدار عوائد الصفقات الاستثمارية الكبيرة التي أبرمتها أو يمكن أن تبرمها قريبا.
ومنذ الإعلان عن مشروع “رأس الحكمة” بين مصر والإمارات مؤخرا لم يتوقف الجدل عمّا إذا كانت الحكومة سوف تمضي في طريق المشروعات الكبرى مستغلة عوائد الصفقة أم ستركز على توفير خدمات وأسعار مرضية للناس.
وتجلب هذه الصفقة استثمارات مباشرة بقيمة 35 مليار دولار، وصلت الدفعة الأولى منها إلى البنك المركزي (خمسة مليارات دولار)، وسيتم استكمال ما تبقى خلال شهرين، ومن المتوقع عقد صفقات أخرى مع جهات باستثمارات تبلغ 100 مليار دولار.
◙ الظرف السياسي الراهن يفرض على النظام المصري تحصين الجبهة الداخلية ومنع تآكل شعبيته، والحد من سموم التيارات المعادية
وقطعت الحكومة جدلا حول استفادة المصريين من عوائد الصفقات بتأكيد التركيز في الموازنة الجديدة للدولة على قطاعي التعليم والصحة، ومشروع “حياة كريمة” الذي يستهدف تحسين معيشة نحو 60 مليون مواطن.
وقال رئيس الحكومة مصطفى مدبولي في تصريحات له ردا على تشكيك البعض في خطة الحكومة الاستثمارية بعد الحصول على عوائد مالية إن “القطاعات الخدمية ستكون المستفيد الأكبر من الموارد التي ستدخل الدولة من مشروع رأس الحكمة، وعلى المصريين ألا يستمعوا مجددا إلى المشككين”.
ويتبنى الرئيس عبدالفتاح السيسي نهجا يقوم على إعادة صناعة الأمل في الشارع بإقناع الناس أن صوتهم محل اهتمام، على مستوى الغلاء وتحسين الأوضاع المعيشية، وسيتم تعويض المواطنين عن صبرهم وتحملهم للصعوبات السنوات الماضية.
وتعتقد دوائر سياسية أن تنازل الحكومة عن المضي في خططها التنموية الضخمة لصالح ترضية الشارع بخدمات تمس احتياجاته مرتبط بإدراك لصعوبة إقناع الناس بجدوى الصفقات المقبلة دون حصولهم على عوائد مباشرة لضمان تأييدهم لها.
وهناك قناعة داخل السلطة بأن تهدئة غضب الشارع له أولوية في الفترة المقبلة، فتحمّل المواطنين صعوبات كثيرة لتثبيت الأمن والاستقرار وتشييد مشروعات تنموية كبرى، يستوجب إعادة ترتيب الخطط للحفاظ على ما تحقق من مكتسبات.
ويرتبط ذلك بوجود ارتباك في توفير مخصصات مالية لقطاعات خدمية حيوية، ففي كل مرة تتحجج الحكومة بالظروف الاقتصادية الصعبة، لكن لديها الآن وفرة نسبية من عوائد صفقات يجب أن يشعر الناس بها عبر الإنفاق على ما يمس احتياجاتهم.
وينسجم التوجه الحكومي مع ما جاء في توصية لتقرير أصدره صندوق النقد الدولي حول مصر مؤخرا بشأن “الضرورة القصوى” لأهمية القيام بتوفير شبكة أمان اجتماعية للمتضررين من الأزمة الاقتصادية لإحداث توازن في السياسات العامة تقلل من التأثيرات السلبية على شريحة كبيرة من الفقراء.
ويعبّر التغير في توجه الحكومة عن حرصها على توصيل رسائل إيجابية للشارع تؤكد أنها تملك رؤية اقتصادية مختلفة عن تلك التي اتبعتها من قبل، بحيث تقوم الخطة الجديدة على المزيد من الاستثمار في ترويض الشارع.
ووجدت دوائر حكومية صعوبة في الحفاظ على الاستقرار السياسي دون توزيع عادل للاعتمادات بشكل يراعي تقليص الإنفاق على المشروعات الكبرى وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية، ما يفسر تأكيد رئيس الحكومة أن الموازنة الجديدة خدمية بامتياز.
ويرى متابعون أن تصويب مسار الإنفاق يحمل ترضية للمعارضة، في ظل أوضاع أمنية متقلبة في المنطقة، وإذا كان المصريون اعتادوا استقبال الصدمات بصمت، فالحكمة تقتضي إعادة ضبط البوصلة بإجراء استباقي قبل انفلات الأمور.
وتنظر شريحة من المواطنين بشك في جدية الحكومة لتنفيذ تعهداتها، حيث تتعامل بتقشف مع احتياجات القطاعات الخدمية، مثل الصحة والتعليم والنقل، ومهما أعلنت عن وجود نوايا لتغيير هذا التوجه، فالثقة بها لن تُرمّم بسهولة.
ويؤيد معارضون أن تمضي الحكومة في الإنفاق على مشروعات تنموية شريطة أن يتم توجيه مخصصات لملفات تمسّ احتياجات الناس، وإذا كان هناك توجه لتجييش الشارع خلف الصفقات الاستثمارية، على الحكومة أن تقتنع بعدم حدوث ذلك مجانا.
وقال أمين عام حزب المحافظين (معارض) ومقرر لجنة الإصلاح المالي بالحوار الوطني طلعت خليل إن خوف الشارع من توظيف عوائد الصفقات في المزيد من المشروعات التنموية الكبرى، مبرر ومنطقي، لأن الحكومة لديها أزمة في عدم التوازن بين الإنفاق على التنمية والخدمات.
◙ الصفقة تجلب استثمارات مباشرة بقيمة 35 مليار دولار، وصلت الدفعة الأولى منها إلى البنك المركزي (خمسة مليارات دولار)
وأضاف لـ”العرب” أن الحفاظ على الاستقرار لا يكون بالوعود بقدر ما يحتاج إلى تنفيذ على الأرض، ومن المهم أن يقتنع الناس بوجود تغيير ملموس في فقه الأولويات مع الاقتناع بأن لا أحد ضد التنمية، لكن استمرار العناد يقود إلى معارضة مجتمعية عشوائية، ويجب أن يكون الإنفاق وفق ظروف البلد، لا رؤية الحكومة.
ودأبت الحكومة المصرية على التعامل مع بعض المشروعات بشكل استفزازي، كأن تخصص مبالغ كبيرة لإنشاء قطار كهربائي من دون تطبيق مفهوم التنمية المتوازنة والتحرك في مسارات تنموية وخدمية معا.
لكن هناك مؤسسات دولية كبرى أشادت بالرؤية الاقتصادية للحكومة المصرية وتوقعت أن تحقق معدلات تنموية جيدة إذا استمرت على المسار نفسه مع زيادة نصيب الحماية الاجتماعية، فالمشكلة تبدو كامنة في تعامل الحكومة مع الملف الاقتصادي على أنه يخصها وحدها ولا تقبل التفاوض حول توجهاتها.
ويعد تعديل أولويات الإنفاق من المؤشرات الإيجابية ودليلا على أن الحكومة بدأت تستمع إلى أصوات من خارجها، ومطالبة الآن بتنفيذ ذلك عمليا، فالانسحاب من الوعود هذه المرة مجازفة سياسية، بعد أن بالغت في إقناع الناس أن عوائد الصفقات ستغيّر حياتهم.
ويفرض الظرف السياسي الراهن على النظام المصري تحصين الجبهة الداخلية ومنع تآكل شعبيته، والحد من سموم التيارات المعادية التي تعبث بعقول البعض من المواطنين وتقول إن عوائد الصفقات الاستثمارية “وهم كبير وخداع للناس”، ما يتطلب من الحكومة قرارات سريعة تُشعر الناس أن الأوضاع قابلة للتحسن.
ومن الضروري أن تقتنع الحكومة بأن الاستقرار السياسي لا يعني توقف القلق والتعايش مع الأزمات، فالمعادلة قد تهتز فجأة، والحكمة تقتضي علاجا حاسما لترويض الناس ولو دفعت فاتورة مالية باهظة، إذ ستجني بعدها مكاسب سياسية بعيدة.