أولريش شرايبر مخالب الأدب تمتد لإيقاظ المشهد السياسي العالمي

لندن- إذا كان من “زعيم” للمهرجانات الأدبية في العالم، فهو أولريش شرايبر، الذي أحدث نقلة نوعية في دورها في الحياة العامة ونقلها للتأثير في المشهد السياسي العالمي.
اقتحم شرايبر مشهد المهرجانات الكبرى بتأسيس مهرجان برلين الأدبي العالمي، لكنه لم يقف عن جعله المهرجان الأكثر عالمية والأكثر تحرشا بالملفات السياسية القاسية، بل أنشأ تحالفا عالميا للمهرجانات والنشاطات الأدبية والقراءات التي تطلق صرخة الأدب بوجه القسوة والظلم والانتهاكات في جميع أنحاء العالم.
التقيت أولريش شرايبر، الذي يميل أصدقاؤه إلى مناداته “أولي” لأول مرة في أبريل الماضي خلال معرض لندن للكتاب، بعد أن سمعت الكثير عن مهرجان برلين الأدبي العالمي، وعن نشاطاته التي تمكنك من تحريك الكثير من المياه الراكدة في المشهد الأدبي العالمي، وخاصة لإعلاء صرخة الأدب بوجه قسوة المواقف السياسية العالمية.
كان لديّ انطباع واسع عنه من خلال ما قرأته عن النشاطات التي نظمها وقضايا الشعوب التي قذفها على طاولة الأدباء العالميين والمتعلقة بشكل خاص بالانتهاكات العالمية لحقوق الإنسان. حدثني الكثير من الأدباء العرب، الذين شاركوا في تلك النشاطات، التي أصبح الأدب العربي أحد المحاور الرئيسية فيها، ليس في ألمانيا لوحدها، بل في جميع أنحاء العالم.
دور الأدب الغائب
حين التقيته وجدت أن تصوراتي على اتساعها، تبدو ضئيلة مقارنة بشعلة النشاط والبرامج التي يقودها لتصعيد دور الأدب في جميع القضايا العالمية، من فلسفات الأدب وجمالياته، إلى دوره في الحياة العامة والوقوف بوجه السياسات الغاشمة والانحرافات والانتهاكات وقضايا الشعوب والدفاع عن حقوق الإنسان على مستوى الشعوب والأقليات والأفراد.
رصد الانحرافات السياسية وتأثيرها على حياة الشعوب، قاد شرايبر على سبيل المثال إلى تنظيم قراءات أدبية حاليا في العشرات من المدن في العالم، للتنبيه إلى خطورة سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على نسيج المجتمع المدني والهوية والدستور التركي.
مهرجان برلين الأدبي يرتبط منذ البداية بالملفات السياسية من بوابة الأدب، مثل الدفاع عن حقوق الإنسان والقضايا السياسية المتصلة بالكتابة، مثل حرية التعبير وحوار الثقافات، وصولا إلى هوية المدن والشعوب والفساد في الحياة العامة من إدارة الدول إلى وحشية سياسات المصارف والشركات الكبرى
يقول شرايبر إن هدف تلك القراءات الأدبية، إطلاق صرخة عالمية عن خطورة توجهات وسياسات أردوغان على المجتمع التركي والدول المجاورة في أوروبا والشرق الأوسط، إضافة إلى دعم المجتمع المدني في تركيا لمواجهتها.
لا تقف نشاطات شرايبر عند تلك الخارطة الواسعة. بل تمتد إلى ثقافة الشركات والمصارف القاسية على الشعوب، وتستهدف السياسات الاقتصادية وإدارة الحكومات السيئة للملفات العامة، من أجل التوعية بآثارها المدمرة على حياة الشعوب.
طرق البداية المتقاطعة
كانت نشأة شرايبر الذي ولد في عام 1951 في مدينة زولينغ في غرب ألمانيا، تدفعه بقوة إلى أن يصبح مهندسا مدنيا، وأن يتسلم في النهاية شركة البناء التي يملكها والده. أصبح بالفعل عامل بناء ماهر، وواصل دراسة الهندسة مسائيا، إلى أن حدث الانقلاب الكبير حين تخرّج في العام 1972.
قرر فجأة أنه لا يمكن له أن يعمل في قطاع البناء، فعزم على الانتقال إلى برلين والالتحاق بالجامعة مرة أخرى لدراسة الفلسفة والسياسة واللغة والأدب الروسي. وبدأ منذ ذلك الحين ولعه بالأدب وتنظيم النشاطات الثقافية والأدبية في برلين ثم في مدينتي هامبورغ وشتوتغارت.
عمل في الصحافة في البداية في جريدة “العصور الجديدة” وهي جريدة ليبرالية تمثل حزب الخضر في ألمانيا، وساهم في تشكيل تجمع حمل اسم وأفكار الكاتب الألماني بيتر فايس، وخاصة مواقفه السياسية الليبرالية.
توغل شرايبر في السنوات اللاحقة في الحياة الثقافية والأدبية وألف كتابا بعنوان “النظرية السياسية عند أنتونيو غرامشي” في 1980 وأصدر “الكتاب الأبيض” في عام 1986 عن السياسات الثقافية وعلاقة السياسة بالثقافة، ونشر العديد من الأنطولوجيات الأدبية، إضافة إلى نشاطاته في الصحافة وتنظيم المهرجانات الأدبية، التي كانت هوسه الأول على مدى أكثر من 40 عاما.
|
مهرجان للأدب
كانت النقلة الكبرى في دور أولي شرايبر في الحياة الثقافية العامة، التي أصبح اليوم من أكبر محركي نشاطاتها العالمية، حين ولدت فكرة إنشاء مهرجان أدبي عالمي في نهاية تسعينات القرن العشرين. يقول شرايبر إن فكرة تأسيس مهرجان برلين الأدبي جاءته حين كان يشارك في مهرجان أدبي في بلدة أرلاند في جنوب ألمانيا عام 1998 حين تساءل: لماذا لا يوجد مهرجان أدبي لمدينة برلين؟
وبدأ فورا بكتابة فكرة المهرجان العابر لجميع الحدود، وانطلق بعدها في جمع التمويل لمدة 3 سنوات، إلى أن أعلن عن تأسيس مهرجان برلين الأدبي العالمي، الذي عقد لأول مرة في عام 2001.
منذ البداية كانت الفكرة أن يكون مهرجانا عالميا وأن يكون 80 بالمئة من المشاركين فيه من خارج ألمانيا، وقد أصبح بسرعة من أكثر المهرجانات عالمية، من حيث تنوع الكتّاب المشاركين.
ارتبط المهرجان منذ البداية بالملفات السياسية من بوابة الأدب، مثل الدفاع عن حقوق الإنسان والقضايا السياسية المتصلة بالكتابة، مثل حرية التعبير وحوار الثقافات. وصولا إلى هوية المدن والشعوب والفساد في الحياة العامة من إدارة الدول إلى وحشية سياسات المصارف والشركات الكبرى.
وسرعان ما اتّسعت النشاطات التي ينظمها شرايبر خارج إطار الموعد السنوي لمهرجان برلين الأدبي، وأصبح ينظم العشرات من اللقاءات والتجمعات الثقافية والقراءات المتعلقة بحقوق الإنسان في بلدان العالم.
اتّسع مهرجان برلين الأدبي سريعا منذ سنواته الأولى وأصبح يستضيف كل عام ما بين 150 إلى 200 أديب من غير الألمان ومن جميع أنحاء العالم، إضافة إلى نشاطات أخرى، يتعلق الكثير منها بالأطفال والشباب.
يقول شرايبر إن مهرجان برلين الأدبي، كان منذ البداية حريصا على استقطاب أبرز الأدباء في العالم، لكنه ركز بدرجة أكثر على البحث عن الأسماء الجديدة الصاعدة. وكان منصة انطلاق الكثير من الأسماء المغمورة التي كانت في بداياتها إلى الفضاءات العالمية. وقد ساهم في سطوع أسمائها وانتشارها لاحقا.
سرعان ما اتّسعت النشاطات التي ينظمها شرايبر خارج إطار الموعد السنوي لمهرجان برلين الأدبي، وأصبح ينظم العشرات من اللقاءات والتجمعات الثقافية والقراءات المتعلقة بحقوق الإنسان في بلدان العالم
الانفتاح على الأدب العربي
شرايبر يروي كيف كان الأدب العربي يحتل مساحة اعتيادية. حين كان المهرجان يدعو كل عام أديبا عربيا واحدا أو اثنين. حتى العام 2009 حين حدثت النقلة النوعية وازداد حضور الأدب العربي بدرجة كبيرة.
ويوضح أن حضور الأدباء العرب قفز منذ ذلك العام وازداد بشكل كبير جدا، بعد أن التقى شرايبر بمحرر مجلة بانيبال للأدب العربي باللغة الإنكليزية صموئيل شمعون، الذي يقول إنه كان أحد أسباب الزيادة الكبيرة في حضور الأدباء العرب في المهرجان.
في ذلك العام دعا مهرجان برلين الأدبي 36 أديبا عربيا، فكان نقطة تحول كبرى في علاقة المهرجان بالأدب العربي. ويدافع شرايبر عن ذلك بالقول إن ذلك مبرر جدا بسبب قرب المنطقة العربية من أوروبا وتأثير الأحداث فيها على مستقبل العالم.
قام شرايبر منذ ذلك الحين بزيارات كثيرة إلى مصر ولبنان والإمارات والمغرب وتونس والكويت وفلسطين وغيرها من البلدان العربية، ليلتقي مباشرة بالأدباء العرب ويطلع على المشهد الأدبي العميق دون وصاية من المؤسسات الرسمية.
ويقول إن تلك الزيارات ساهمت في توطيد علاقة المهرجان بعدد كبير من الأدباء من داخل البلدان العربية، إضافة إلى العلاقات الواسعة مع الأدباء العرب المغتربين في أنحاء العالم وخاصة في أوروبا.
أهمية مهرجان برلين، أنه يعد الأكثر حيوية في خلق وتعميق الحوار الثقافي بين الأدباء المشاركين، الذي يتم فتحه على طاولة الكثير من القضايا العالمية الساخنة، إضافة إلى قراءة أعمالهم وعرضها على جمهور ألماني واسع وما يتبعه من تغطيات صحافية وعقود مع الناشرين.
|
يشير شرايبر إلى أن مهرجان برلين الأدبي يختلف عن بقية المناسبات الثقافية لأنه يتصل مباشرة بالأدباء دون وساطة من الدوائر الحكومية. ويرى أن الكثير من التظاهرات الثقافية العالمية التي استضافت الثقافة العربية فشلت في تقديم الأدب العربي بسبب اعتمادها على القنوات الرسمية.
ويذكر التظاهرة الكبيرة التي نظمها معرض فرانكفورت للكتاب قبل سنوات، حين استضاف عددا كبيرا من الأدباء العرب، وجعل الأدب العربي ضيف الشرف في المعرض. لكنه يعتبر أن المعرض تعرض لانتقادات كثيرة، لأنه قدم صورة مشوّهة للمشهد المعاصر للأدب والثقافة العربيين، بسبب اعتماده على جامعة الدول العربية في توجيه الدعوات، ونتج عن ذلك هيمنة الطابع الرسمي والمحاباة، فكان بعض المشاركين المرشحين من قبل الحكومات دون المستوى الملائم.
قام شرايبر بتأسيس ما أطلق عليه “التحالف العالمي” (وورلد ألاينس) الذي يضم 9 مهرجانات أدبية عالمية، منها مهرجانات نيويورك وبكين وملبورن وأدنبرة وتورينتو وسامالو في فرنسا وجايبور في الهند، إضافة إلى المهرجان العالمي للمؤلفين ومهرجانات أخرى.
وأصبح هناك برامج لتبادل الكتاب والنشاطات بين تلك المهرجانات. كما بدأ شرايبر في العام الماضي بتنظيم مهرجان أوديسا في جنوب أوكرانيا وهو مهرجان يستضيف نحو 30 أديبا من أنحاء العالم. وستعقد دورته الثانية هذا العام في سبتمبر المقبل.
يقول الكثير من الكتاب الذين التقيتهم في معرض لندن للكتاب مؤخرا إن هوس أولي شرايبر بتنظيم المهرجانات الأدبية والثقافية ساهم على مدى 15 عاما في تغيير مشهد الثقافة العالمية. ويؤكد هؤلاء على أن شرايبر تمكن من خلق علاقات واسعة بين أدباء العالم، إذ كانت سببا مباشرا في انتشار الكثير من الأسماء الكبرى حاليا، وفي فتح الأبواب لترجمة أعمال مئات الكتاب إلى لغات أخرى.