أن تكتب عن العراق كأنك تكتب عن كل العرب

الكتابة من أرض أخرى غير أرض المنشأ “الوطن”، مغامرة في حد ذاتها، إذ تنكشف أمام الكاتب عوالم من بعيد لم يكن ليراها بذلك الوضوح لو كان داخلها بدلا من أن تكون هي داخله. “العرب” التقت الكاتب والمترجم العراقي المقيم بأسبانيا عبدالهادي سعدون وكان لنا معه حديث حول الكتابة والترجمة.
الاثنين 2016/06/06
الصمت معناه الموت على الهامش

على غير العادة، سنبدأ من النهاية، من كلمته الأخيرة التي قالها الكاتب والشاعر العراقي عبدالهادي سعدون (مواليد بغداد 1968) والمقيم في أسبانيا، مخاطبا قارئ اليوم “لا تغرنك المظاهر البراقة خلف الكتب والأسماء الرنانة والجوائز والترجمات والمنشطات الأخرى التي تجتاحنا يوميا. انتبه فقط لما ترغب وما تختار فهو الوسيلة الوحيدة لاكتشاف الذات ومعرفة الآخر. الكتابة أقل المتع في هذا المحيط، أما القراءة فهي الكنز الأكبر في كل هذه المتاهة العظيمة التي تحيطنا”.

الوصول إلى الآخر

يؤكّد سعدون أنه لا يعرف حقا إن كان مقروءا وهل هناك من يهتم بجديده أم لا؟ فمن الصعب، كما يرى، معرفة ذلك حقا. لكنه لا ينفي أن هناك بعض الإشارات التي تصله بين حين وآخر تشعره بجدوى ما يعمل وما يكتب، وهي وإن كانت قليلة فهي مريحة له ذهنيا. لكن يعترف ضيفنا بأنه محظوظ لأن له أصدقاء مقربين من القلة يقرأون نتاجه الجديد ويناقشونه به، ويحرصون على التساؤل والتحريض، وهذا يكفيه على الأقل الآن ليشعر بجدواه وجدوى ما يكتبه.

وبالنسبة إلى عبدالهادي سعدون، البوح مستمر ولن ينتهي إلا بالتوقف نهائيا عن الكتابة، ليتحول إلى بوح داخلي ومناجاة أخرى. فهو يكتب ليشعر بفائدته في هذا العالم، موضحا “لي حيز، ولو صغير، ضمن هذا الكون الهائل من البشر. لا أكتب لغرض الدعاية أو الوصول أو التتويج، بقدر ما أكتب لأزيح عن كاهلي ثقل هذا الزخم الهائل من الذكريات والتجارب والممارسات الحياتية. أكتب بنفس تلك الرغبة التي حركت أجدادنا كي يتركوا ما يدل على مرورهم في هذا العالم المتغير. أحن للحكي والسرد والمطاولة فيه كأي حكواتي موقن بأن الصمت معناه الموت على الهامش”.

كتب سعدون للكبار والصغار، حيث كل كتابة صعبة بحد ذاتها. لكن في حديثه إلينا، يصدقنا القول بأنه في كل تجربته الكتابية كان وما زال متهيبا من فكرة الكتابة للطفل. يقول “في الكتابة للطفل ما يحتم عليك أن تتخذ زاوية وموقعا آخر هو موقع الطفل نفسه، تلك الآثار المتبقية في كل واحد منا، والشيء الأهم هو أن تكتب لهم بكل جدية وتفهم، لم يعد هناك مجال للتعاطي مع الطفل والناشئة بموقع السذاجة وتمرير التوافه العقلية، الطفل أشد نباهة وتلقيا من الكبار للنص الجيد من النص المصنع غير الناضج”.

الثورات العربية أتاحت للعديد من الكتاب تنوعا موضوعيا ومساحة من الحرية والتساؤل والتفكير الحقيقي للكتابة اليوم

وإن كان العيش خارج الوطن يعني للكاتب العربي مساحة لحرية الإبداع، وإن طرأت أي تحولات على مفهوم “الوطن” عنده بعد مغادرته يؤكد ضيفنا أن “الحرية تكتسبها من موقع البلد الذي أنت فيه، وأوروبا على أي حال أفضل في هذا المنحى من كل دول عالمنا العربي التي تفتقر لأبسط شروط الحرية، فما بالك بحرية الإبداع التي تعتبر حتى اليوم من أخطر مظاهر التحرر في سياسات دولنا العربية. ومن موقع بعيد ترى البلاد بصورة مغايرة وتدرسها بشكل مغاير وتتناولها بشكل مغاير كذلك. أعتقد بحالتي أنني فهمت العراق وناس بلدي من موقعي في أسبانيا، وكتبت فيه وعنه بشكل جذري لأنني لم أشعر ولو لمرة بابتعادي عنه أو عدم صلتي الحية به، على الرغم من مرور 22 سنة بعيدا عنه”.

ويوضح ضيفنا أن كتابته عن العراق معناها أنه يكتب عن المشهد العربي برمته، لأن العراق جزء مكمل لأجزاء أخرى يكتب عنها كتاب آخرون في بلدان عربية أخرى، كما يقول. ويضيف “ثم إن ما يمر به العراق لا أجده بعيدا بشكل كبير عما يمر به الناس في سوريا أو اليمن أو مصر أو أي بلد آخر. مشاكلنا وأحلامنا ورؤانا تكاد تقترب بشكل كبير. أنا في أي قراءة لرواية عربية أو لمجموعة قصصية لكاتب عربي أجدني أتلاقى وإياه في الكثير من الهم والطرح والتناول. فكلنا نشارك بشكل أو بآخر بطرح حصاة صغيرة في بركة كبيرة لا يكتمل مشهد تحركها الأكبر إلا بهذه الأجزاء الصغيرة متناهية الصغر. البدء من الأنا وفهمها يوصلك إلى فهم الآخر”.

دليل التعافي

عن الواقع الأدبي في العالم العربي بعد “الثورات العربية” يقول ضيفنا “الثورات العربية لم تستطع خلق تيار سياسي مهم في عالمنا العربي، لكنها أتاحت للعديد من الكتاب تنوعا موضوعيا ومساحة من الحرية والتساؤل والتفكير الحقيقي لما يمكن أن تكون عليه الكتابة اليوم وأهميتها لتحريك المجتمع من عدمه. كل تحرك نوعي في مجتمعاتنا يساهم بخلق حركته الفكرية والثقافية، وهذا بحد ذاته دافع مهم في التنويع والنتاج الإبداعي، والدليل هو هذا الزخم الهائل من التجارب والأسماء التي ظهرت وما تزال في الواقع الأدبي العربي”.

الترجمة تأتي باعتبارها الجانب الآخر من تجربة سعدون الإبداعية

تأتي الترجمة باعتبارها الجانب الآخر من تجربة سعدون الإبداعية، حيث ترجم العديد من الكتب عن اللغة الأسبانية، إلا أنه سبق وأشار في أكثر من موقع ومقال إلى أنه ليس مترجما محترفا، على الرغم من كثرة الكتب التي قام بترجمتها. يقول “موقعي في عالم الترجمة مثل موقع المحب المتأمل لمعشوقة. كلما وجدت كتابا أو نصا يستحق القراءة، أبذل جهدي كي يقرأه غيري، من هنا جاء حرصي الكبير على الترجمة. الترجمة مهمة وضرورية لكل مجتمع، وعالمنا العربي ما زال في طور الصبا قياسا لحركات الترجمة في العالم. مع ذلك كل ما نقوم به من جهود فردية تضاف للنسق العام وهذا يساهم بدوره في بناء حركة ثقافية وذهنية سليمة”.

ويضيف “أما الشطر الثاني من التساؤل كوني مترجما للأسبانية ولغات أخرى، ربما أكون محظوظا بحكم قرابتي الشديدة من اللغة الأسبانية وعالمها، وهذا يسهل الكثير للمترجمين المستعربين الذين نقلوا أعمالي الأسبانية. أميل للمراجعة والمشاركة أكثر من ترجمة ونقل أعمالي بنفسي إلى الأسبانية، وهذا ما أجده سليما لأنني مهما عرفت بأعمالي، فالأسباني المستعرب يفهم لغة بلده أكثر مني وسينقل أعمالي أفضل مني بكثير. الترجمة على أي حال تمنحك فرصة معاينة الذات عبر لغات وأعمال أخرى، وهذا دليل التعافي لكل كاتب حتى لا يقع في مطب التهويل وتضخيم الأنا”.

في ذات الخصوص، ما زال عبدالهادي سعدون مصرا على أن اللغة العربية لغته وأداته الرئيسية للكتابة والتعبير، أما الأسبانية فهي لغة مساعدة لا غير، حتى لو كتب فيها كل الكتب المتبقية في رأسه. يقول “كل واحد منا يولد مع لغة ويموت معها، أما البقية فهي أشبه بالنزوات التي تتولد بين حين وآخر، والتي نستخدمها لضرورات التواصل مع الآخر لا غير”.

يذكر أن العديد من نصوص عبدالهادي سعدون ترجمت ونشرت في كتب ومجلات و دوريات مختلفة إلى اللغات التالية: الأسبانية،الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الفارسية، الكردية، التركية، الكاتلانية، الغاليثية، الإيطالية، المقدونية، الصربية وغيرها. ومن أعماله مجموعة قصصية بعنوان “اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر”، “كنوز غرناطة” للأطفال، ديوان شعري “تأطير الضحك”، ديوان شعري “ليس سوى ريح” ورواية “مذكرات كلب عراقي”.

15