أن تقول للسياسي إنه لا أخلاقي مدح وليس ذما

لا علاقة بين الأخلاق والسياسة منذ بزوغ الفكرتين وإذا وجدت فإنها تتسم على الدوام بالتوتر والتصادم والعدائية.
الأحد 2023/04/16
السياسة ليست أخلاقا

غالبا ما نوصم رجال السياسة والدولة بالكذب والرياء والنفاق وتبني سياسات غير أخلاقية على الصعيدين الداخلي والخارجي، اعتقادا منا أننا ابتكرنا نظرية فكرية جديدة، أو أننا بهذا الوصم ننال منهم ونشهر بهم وننتقص من قدرهم ونحط من قيمتهم. لكن يغيب عن البال، وبسبب قلة الاطلاع والإدراك والفهم، أنه بهذا الوصم فإننا نثلج صدورهم ونقر بأنهم حقا رجال سياسة ودولة ونمنحهم الإطراء الذي يترقبونه على الدوام ويستمدون منه الشرعية وينهلون منه الطاقة التي يعملون بها.

بمعنى، كلما برهنا على عدم أخلاقية السياسيين ورجال الدولة، كلما أثبتنا بأنهم مؤهلون وأكفاء لهذه الحرفة شريطة أن تصب هذه اللاأخلاقية في خدمة الأكثرية النسبية من الدولة أو الشعب الذي يمثلونه، وليس في خدمة القلة القليلة المتمثلة بالأفراد أو الفئات أو الأحزاب إلخ. يحيلنا هذا الاستنتاج المألوف والمتعارف عليه نسبيا إلى سبر أغوار العلاقة الإشكالية التخاصمية بين الأخلاق والسياسة على المستوى النظري وتدعيم ذلك بأمثلة تاريخية وحاضرة حية.

لطالما احتلت العلاقة التنابذية بين الأخلاق والسياسة حيزا لافتا في الفلسفة والفكر على مر التاريخ. ولا تكاد تخلو نتاجات معظم الفلاسفة والمفكرين المؤثرين على مر العصور من تسليط الضوء على هذا المبحث الشائك والمضني ابتداء من هيراقليطس وثيوسيديدس وسقراط وأفلاطون وأرسطو ومرورا بمكيافيلي وهوبز ووصولا وليس انتهاء بكانط وشوبنهاور ونيتشه وفيبر وراسل وسواهم.

◙ السياسة تستند إلى القوة التي تسعى لضمان البقاء على أساس الجغرافيا السياسية. وتأمين البقاء في ظل النظام العالمي الفوضوي يستلزم دائما ابتعادا عن الأخلاق في نكهتها الفلسفية والدينية المعهودة

وفي خضم التنظير والمجادلة الفلسفية والفكرية التاريخية المتعاقبة واللامتناهية حول هذا الموضوع الحيوي تبلور تياران متناقضان إزاء طبيعة وماهية الصلة بين الأخلاق والسياسة. تيار يؤمن لا بل يجزم بالمقدرة على فلترة السياسة للانعتاق من الشوائب، وبالتالي لتصبح أخلاقية منذ الولادة وخلال التفاعل والتعامل والتعاطي مع مختلف الشؤون الداخلية والخارجية. وتيار مناوئ يشدد بأنه لا توجد علاقة البتة بين الأخلاق والسياسة وأنهما على طرفي نقيض في الطبيعة والماهية والأهداف، وأنه من المستحيل إنتاج سياسة أخلاقية، لذلك تم ابتداع ما بات يسمى تجاوزا بالأخلاق السياسية. والسبب ليس فقط لأن الأخلاق لا تشكل أحد مقومات نشوء وبلورة السياسة، لا بل وتعتبر نقيضا إن لم نقل مفسدا لها.

ينسب التيار الأول الذي يحاول عن عبث إقحام الأخلاق بالسياسة إلى سقراط وتلميذه أفلاطون ولاحقا كانط وراسل وغيرهم. تقول المعادلة السقراطية التي هاجمها نيتشه بشدة واصفا إياها “بأغرب المعادلات الممكنة”: عقل = فضيلة = سعادة.

 ويقدم أفلاطون نسخته الخاصة من هذه المعادلة عندما يمزج نظريته السياسية الطوباوية مع الأخلاق موضحا أن ركائز الحكم الرشيد هي أربع فضائل تتمثل في الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة. وعلى هذا الأساس دون كتابه جمهورية أفلاطون المثالية أو المدينة الفاضلة التي لم تر النور منذ 2400 سنة، وغالبا لن ترى النور في المستقبل لاستحالة تحقيق أطروحات الكتاب الغارقة في الطوباوية.

الغريب في الأمر أن الزمن الذي عاش فيه سقراط وأفلاطون في اليونان القديمة كان متخما بالنزاعات وكان من أبرز معالمه غياب الاستقرار، حيث كان نظام الدولة المدينة هو السائد في بلاد الإغريق آنذاك. وكان هناك المئات من المدن الدول الإغريقية المتناحرة. ويوحي هذا الأمر بأن ما تفلسف فيه وحوله سقراط وأفلاطون وأرسطو لم يعكس واقع أثينا وبقية الدول المدن اليونانية.

ستيوارت هامبشاير: ما زال هناك جدل متصاعد حول مصداقية مفهوم "قوة الحضارة" والذي يفضل البعض استبداله بـ"حضارة القوة" التي كانت وما زالت الأكثر حضورا وتجليا
ستيوارت هامبشاير: ما زال هناك جدل متصاعد حول مصداقية مفهوم "قوة الحضارة" والذي يفضل البعض استبداله بـ"حضارة القوة" التي كانت وما زالت الأكثر حضورا وتجليا

بعبارة أخرى، لم تكن فلسفتهم تدور حول الواقع المعاش أو الظاهري وإنما كانت تحوم حول الواقع الافتراضي أو العالم الحقيقي الواجب خلقه، أو أنه كان لهم عالم خاص بهم معزول عن الواقع الذي كانوا حريصين على عدم الإبحار فيه والالتفات إليه والتصادم معه. وهذا ما حدا بنيتشه إلى القول في كتابه “أفول الأصنام”، “إن أخلاقية الفلاسفة الإغريق انطلاقا من أفلاطون محددة بدوافع مرضية”.

ويلقي نيتشه بالمسؤولية على عاتق أفلاطون حول تخيل العالم الموهوم أو ما يصفه بعالم الخرافة والمثل. وكنتيجة يرى نيتشه أن أفلاطون يجسد مثال الفيلسوف المنحط والجبان حيث يقول في نفس الكتاب “أفلاطون جبان أمام الواقع، ونتيجة لذلك يبحث له عن ملاذ في المثل”.

لم تكن هناك علاقة بين الأخلاق والسياسة منذ بزوغ الفكرتين، وإذا وجدت فإنها كانت تتسم على الدوام بالتوتر والتصادم والعدائية. والسبب أن السياسة تدور حول العالم الواقعي والمحسوس وتجسد الجزء الفاعل والطاغي من الطبيعة البشرية الشريرة والطافحة كما يؤكد ذلك توماس هوبز (1588 – 1679)، بينما تدور الأخلاق كمفهوم هلامي حول العالم الافتراضي أو الطوباوي الذي يدور في مخيلة البعض.

السياسة تستند إلى القوة التي تسعى لضمان البقاء على أساس الجغرافيا السياسية. وتأمين البقاء في ظل النظام العالمي الفوضوي يستلزم دائما ابتعادا عن الأخلاق في نكهتها الفلسفية والدينية المعهودة. وعندما تتعارض الأخلاق مع بقاء الدولة والسيادة عندها تموت الأخلاق وتحيا السياسة. وعندما يتم ضمان البقاء، تولد نزعة مضاعفة القوة، والأخيرة بدورها تستحضر النفوذ، وعندما يصبح النفوذ هدفا، تولد نزعة الهيمنة، وكل نزعة من هذه النزعات تحفر للأخلاق قبورا ليس لها قعر.

عندما اندلعت الحرب بين الإمبراطورية الإخمينية والدويلات اليونانية 499 – 449 ق.م، كانت الأخيرة متحدة في مقاومة كورش الكبير. لكن بعد أن وضعت الحرب أوزارها والتي تكللت بانتصار اليونانيين على الفرس، اندلعت الحروب البيلوبونيسية بين أثينا وأسبرطة 431 – 404 ق.م، واضطرت أسبرطة إلى طلب المساعدة من أعداء الأمس، الفرس الإخمينيين، ضد إخوتهم في أثينا خوفا من زوال دولتهم.

رجل الدولة البروسي أوتو فون بسمارك 1815 – 1898 عبر بمرارة عن هذه الإشكالية عندما علق في بداية العقد السابع من القرن التاسع عشر على محاولة بولندا في الاستقلال، وعندها لم تكن دولة ذات سيادة “إن عودة مملكة بولندا بأي شكل يعني ظهور حليف لأي عدو يقرر أن يهاجمنا”. ولذلك طالب بسمارك وبشدة أن تقوم بروسيا “بسحق أولئك البولنديين حتى يفقدوا الأمل ويموتوا. ورغم أنني متعاطف مع موقفهم، فلا مفر لنا من إبادتهم، إذا أردنا البقاء”.

ويوضح البروفيسور الأميركي جون ميرشماير في مقدمة كتابه “مأساة سياسة القوى العظمى” بأن الولايات المتحدة كانت على دراية تامة باندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعلى الرغم من ذلك لم تقم بأية محاولات لتفادي وقوعهما. وفي محاضرة جديدة حول الحرب الروسية – الغربية في أوكرانيا، يؤكد ميرشماير بأن واشنطن كانت على علم بأن روسيا ستجتاح أوكرانيا، لكنها لم تحاول منع نشوب النزاع. لا بل على العكس من ذلك تماما، قامت وتقوم بتأجيج وتعقيد النزاع. والهدف هو توريط وإنهاك وإضعاف الأطراف المختلفة في النزاع بما فيها الاتحاد الأوروبي ليتسنى لواشنطن المزيد من الهيمنة وتسيد المشهد الدولي. والساحتان الدولية والإقليمية زاخرتان بمثل هذه الشواهد في سوريا واليمن وليبيا وأفغانستان وغيرها.

◙ أفلاطون يقدم نسخته الخاصة من هذه المعادلة عندما يمزج نظريته السياسية الطوباوية مع الأخلاق موضحا أن ركائز الحكم الرشيد هي أربع فضائل تتمثل في الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة

وعلى هذا الأساس يقول الفيلسوف والناقد الأدبي الإنجليزي ستيوارت هامبشاير (1914 – 2004) “لم يتم إنشاء وبقاء الحضارات العظيمة في الماضي من قبل أشخاص فاضلين ويتمتعون بإحساس دقيق بالعدالة. على العكس من ذلك، فقد كانت بشكل عام نتاجا لطموح مفرط وشهية كبيرة للسلطة والمجد”. وهذا لم يتحقق سوى عن طريق استخدام القوة والبطش وعن طريق النهب والسلب.ولذلك ما زال هناك جدل واسع ومتصاعد حول دقة ومصداقية مفهوم “قوة الحضارة” والذي يفضل البعض استبداله بـ”حضارة القوة” التي كانت وما زالت الأكثر حضورا وتجليا. وهذا يقودنا إلى الحديث عن الأخلاقية النسبية في أعمال وأفعال السياسيين ورجالات الدول والتي تخضع للجغرافيا السياسية والاعتبارات القومية والعرقية والدينية والمذهبية. فعندما استنجدت أسبرطة بالإخمينيين ضد أشقائها في أثينا، كانت تلك الخطوة أخلاقية نسبيا من وجهة نظر الأسبرطيين، لكنها كانت غير أخلاقية من وجهة نظر الأثينيين. وعندما دعا بسمارك إلى سحق البولنديين انتقاما لميولهم الاستقلالية، كانت تلك المطالبة أخلاقية نسبيا من وجهة نظر البروسيين، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة إلى البولنديين.

 وهذا ينطبق أيضا على الدول والإمبراطوريات الدينية التي يؤكد ميكافيلي باستحالة مقدرتها على التوسع لولا استعمال القوة والبطش المنافي للأخلاق “وبهذه الطريقة استطاع جميع الأنبياء المسلحين أن ينتصروا في ما فشل فيه غير المسلحين منهم”. ولهذا يقول نيتشه على لسان نبيه زرادشت في كتاب “هكذا تكلم زرادشت”، “إن لكل شعب بيانه الخاص عن الخير والشر”. وبالتالي تعذر ويتعذر الإتيان بما يمكن تسميته “بالأخلاق العالمية أو الكونية”.

ولهذا السبب تم ابتكار الأخلاق السياسية، بعد العجز عن تقديم السياسة الأخلاقية، في إيحاء لا لبس فيه بأن السياسة لها أخلاق أو عادات أو طبائع خاصة بها أساسها القوة والمصلحة والعنف والنفوذ والسيطرة والهيمنة. وكنتيجة فإن تعارض السياسة مع الأخلاق في نسختها الفلسفية أمر لا يعيب السياسة ولا ينتقص من قيمتها، بل على العكس من ذلك تماما فإن هذا التعارض يضفي قيمة جديدة إلى السياسة كونها تشير إلى واقعيّتها وبالتالي إلى جدواها، شريطة أن تخدم مصالح الأغلبية على الجغرافيا السياسية الواحدة.

9