أن أف تي وميتافيرس.. وجه السوق الجديدة التي تغيّرنا بسرعة

عالم الصكوك غير القابلة للاستبدال.
الثلاثاء 2022/02/22
ماذا يستفيد الشاري من صِّك الصورة؟

استهل الأديب والفيلسوف الجاحظ كتابه “التبصّر في التجارة” بحكمٍ من بعض الشعوب، فكتب لنا قائلاً “قالت الروم: إذا لم يرزق أحدكم في أرض فليتحوّل إلى غيرها. وقالت الهند: ما من شيء كثر إلا رخص، ما خلا العقل فإنه كلّما كثر غلا. وقالت العجم: إذا لم تربحوا بتجارة فاعتزلوا عنها إلى غيرها. وقالت الفرس: الرابح في كلّ سوق هو البائع لما ينفق فيها. ويا أيها الإنسان ليس بينك وبين بلد أنت فيه نسب! وقالت العرب: إذا رأيتم الرجل قد أقبلت عليه الدنيا فألصقوا به فإنه أجلب للرزق”.

شأن الكثير من الأمور في حياتنا اليوم والتي تمر بمسارات الأنظمة الاقتصادية، فإن مجال الفنون البصرية يتعرض إلى حد كبير لمتغيرات ومُحددات السوق، بمعنى أن الكثير من الأمور قد أصبحت صناعة بشكل من الأشكال، كما حدث للسينما والرياضة والموسيقى وحتى الأدب في بعض الحالات، دائماً هنالك فئة مبدعة أو موهوبة، وفئة تتلقى هذا النتاج الإنساني، وبينهما مُشغّلو هذه المجالات ومستثمروها كمنظمي الفعاليات ومنتجي الأفلام ودور النشر، وقد أسهموا في بدايات ظهورهم في إنعاش وتمكين هذا النتاج الإنساني، إلى أن تسللت ذهنية التربّح الجائر وتحصيل أكبر قدر من المال مقابل استثمارِ ثمنٍ أقل وأحياناً بخس في هذا النتاج، وهنا برزت ملامح استغلال المستثمرين للمبدعين والموهوبين، وتكوّنت الصناعة بوجهها التجاري، ومع مرور الوقت تفاقمت هذه المعضلة.

وفي ظل كل هذا وذاك، ولأن الفنان محب للحياة، سيبحث دائماً عن سُبلٍ بديلة وفرص جديدة، ويتمسك بكل خيط أمل يحفظ له مكانته ومكانة أعماله، فيتحسّن وضعه المادي ويكسر القيود التي تفرضها دور العرض ويطلق الحرية لأفكاره وأعماله.

الملايين على مدار الساعة

بدأ واقع افتراضي في الجيل الثالث لشبكة المعلومات (ويب 3) بالتبلور والتكوّن، مُفسحاً المجال للفنانين للولوج إليه بعيداً عن بيئة صناعة الفن واستغلالها وقيودها، إنه عالم الصكوك غير القابلة للاستبدال، أو كما يسميها البعض الرموز غير القابلة للاستبدال، لكن يبدو لي اصطلاح “رموز” من الأخطاء الشائعة، أو ما يُعرف اختصاراً بـ”أن أف تي”، وكذلك عالم الميتافيرس أو الكون الماورائي.

ولعل هذه المصطلحات قد ترددت على مسامعكم مؤخراً، ورأيتم كيف يتم بيع صور أو رسومات رقمية بسيطة التفاصيل، أو دقيقة ومعقدة، لقاء مبالغ تربو أحياناً على الملايين من الدولارات وبشكل يومي وعلى مدار الساعة، وعمليات البيع والشراء هذه في ازدياد مستمر مع دخول المزيد من الفنانين وجامعي الأعمال الفنية إلى هذا الميدان من باب الاستثمار فيه أو لاستخدامه في تطبيقات العالم الافتراضي والميتافيرس.

وقبل الشروع في الحديث عنها بإسهاب لنشرح بعض هذه المصطلحات، فما هي “أن أف تي” أو الصِّكوك غير القابلة للاستبدال؟ لنقل إن لدينا صورة ضوئية “فوتوغرافية” فبإمكاننا رفع هذه الصورة على شبكة الإنترنت، وتحديداً على شبكة تُخزَّن بياناتها على عدد كبير -ربما المئات من الآلاف- من أجهزة الكومبيوتر المتصلة ببعضها البعض مُشكلةً ما يُعرف بشبكة سلسلة الكُتل أو البلوكتشين، والتي هي بمثابة سجلات متعددة النسخ، وعند رفع هذه الصورة عليها يتم إدخال خصائصها وبياناتها، مثل معلومات ملف الصورة كالحجم والأبعاد والألوان، وإلى من تعود ملكية هذه الصورة، وملكية الحقوق الفكرية، والسعر المُحدد للبيع، وغيرها من البيانات. كل هذا وذاك يُجمع في ما يُعرف بالعقد الذكي الخاص بهذه الصورة، والعملية هذه برمتها تُسمى “الصَّك”، وينتج عنها صك لهذه الصورة وهو مُتاحٌ للبيع والشراء بالعملات الرقمية المشفّرة. وبعبارة أخرى يقوم الفنان بصك أعماله الفنية وكأنه يصنع عملته النقدية ويحدد قيمتها الأولية بنفسه، وترتفع أو تنخفض هذه القيمة حين يتداولها الآخرون، والأمر أشبه إلى حدٍ ما بصك النقود المعدنية في عالمنا الواقعي.

الشاري أو المالك الجديد لهذا الصِّك، إما عبر الشراء المباشر أو المزادات، يحصل عليه ويُسجّله باسمه في محفظته الإلكترونية، وغالباً ليست لديه أيّ حقوق للملكية الفكرية، إلا إذا منحها المصوّر من خلال ذكر ذلك في العقد الذكي.

وقد يتساءل أحدنا: ماذا يستفيد الشاري من صِّك الصورة إن لم يكُ بإمكانه طباعتها وبيعها والاستفادة منها في الواقع الحقيقي؟ فنُجيب بأنه يحق للشاري بيع هذا الصِّك بسعر أعلى فيما بعد، لتنتقل ملكيته إلى شخص آخر ويحقق بذلك ربحاً، أو أن يعرضه في المعارض الافتراضية، أو يضعه في منزله أو مكتبه الافتراضي في الميتافيرس ويشاهده الحضور، أو أن يستخدمه في الألعاب الإلكترونية المبنية على الميتافيرس.

◙ المالك الجديد لهذه الصّكوك يحصل عليها ويُسجّلها باسمه في محفظته الإلكترونية، دون أيّ حقوق للملكية الفكرية
المالك الجديد لهذه الصّكوك يحصل عليها ويُسجّلها باسمه في محفظته الإلكترونية، دون أيّ حقوق للملكية الفكرية

ما هو الميتافيرس؟ تلك العبارة -التي لقيت مؤخراً هي الأخرى صدىً واسعاً- هي مصطلح يتركب من مقطعين: “ميتا” وتعني ماورائي باللاتينية، و”فيرس”  اقتطاعاً من الكلمة “يونيفيرس” أي الكون، وبدمجهما يكون لدينا ميتافيرس، بمعنى الكون الماورائي، وهو عالم افتراضي إذا أردنا تبسيطه فبإمكاننا القول إنه مثل الألعاب الإلكترونية التي يلج إليها اللاعبون من مختلف مناطق العالم عبر شبكة المعلومات الإنترنت ليكونوا على تواصل من خلالها، ويتحكم اللاعب فيها بشخصية يتنقّل بها من مكان إلى آخر، ويقوم بعدد من النشاطات كحلّ الألغاز أو مجابهة الأخطار والأعداء وقراءة المعلومات، وكأن اللاعب بها يغوص في غمار عالم هذه اللعبة، مبدياً اهتماماً أقل بالوسط المحيط به في الواقع.

 بيد أن عالم الميتافيرس بات أوسع وأعمق، فعلى غرار عالم الألعاب بإمكاننا في عالم الميتافيرس وضع النظارات ثلاثية الأبعاد والسماعات وحمل أجهزة التحكم، فننفصل بوعينا عن العالم الواقعي ونعيش تجربة غامِرة، نشتري فيها الأشياء ابتداءً من الأراضي الافتراضية والعقارات، والمعدات والألبسة والأحذية الرياضية وحتى مستحضرات التجميل للشخصيات التي نتحكم فيها، وكل هذا على شكل صكوك غير قابلة للاستبدال يبتاعها المستخدمون بالعملات الرقمية المشفرة.

وبالمجيء على ذكر بعض استخدامات الميتافيرس الأخرى غير الألعاب، حريّ بنا أن نذكّر بأنه تُقام فيه معارض فنية وحفلات موسيقية ومؤتمرات علمية وأكاديمية، وحتى معارض تجارية تُعرض فيها المنتجات والخدمات على شكل صور أو مقاطع مرئية أو مجسمات ثُلاثية الأبعاد وتفاعلية، ويبلغ حجم الإنفاق اليوم في الميتافيرس مليارات الدولارات.

ومؤخراً شرعت الكثير من الشركات العالمية تتهافت على هذا الفضاء الجديد كنوع من الاستثمار في المستقبل، ومنها أديداس ونايكي وفيسبوك التي غيرت اسم الشركة الأم إلى “ميتا” تناغماً مع عصر الميتافيرس، وحسب بلومبرغ فإن حجم الإنفاق فقط في مجال “أن أف تي” من بداية العام 2021 حتى منتصف ديسمبر بلغ قرابة 41 مليار دولار.

مجتمعات تتشكّل

◙ عالم الميتافيرس يمكّننا من شراء الأشياء ابتداءً من العقارات الافتراضية والأحذية الرياضية ومستحضرات التجميل
عالم الميتافيرس يمكّننا من شراء الأشياء ابتداءً من العقارات الافتراضية والأحذية الرياضية ومستحضرات التجميل

البعض منكم يظن أن هذا ضرب من الجنون، وهذا يعيد إلى الأذهان ما اعتقده الكثيرون حيال عالم الإنترنت وإرسال الرسائل الإلكترونية بدلاً من الورقية في ثمانينات القرن الماضي! نعم، نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من استخدامات التقنية بمحاسنها ومساوئها، وربما نتذكر هنا قول أرسطو “إن الصواب في اختيارنا لغاية ما منوطٌ بالفضيلة”. أصبح العديد من الفنانين يصكّون أعمالهم الفنية في الرسم والتصوير والتصميم والمقاطع المرئية، وحتى النحت وغير ذلك من الفنون البصرية على سلاسل الكتل، وقد أخذ التصوير الضوئي حيّزاً كبيراً في هذا الميدان، فتشكلت مجتمعات على تويتر وكلوب هاوس وعدد من شبكات التواصل الاجتماعي لتداول المواضيع المتعلقة بالتصوير الضوئي؛ فما إن يشارك مصور مستجد في فضاء الـ”أن أف تي” في إحدى المحادثات ضمن “مساحات تويتر” حتى يلقى ترحيباً وتشجيعاً من الرواد الذين جُلُّهم من المصورين والفنانين، فيجيبون على كل التساؤلات والاستفسارات، ويسدون النصائح لهذا الفنان القادم إليهم حديثاً، ويساعدونه على ترويج أعماله بعد أن يقوم بصكها على سلسلة الكتل، ويؤمّنون التواصل بينه وبين مقتني صكوك الأعمال الفنية، وقد يكون البعض منهم أيضاً مصوراً لكنه إما أُعجب بعمل ما أو يريد دعم المصورين الهواة أو المحترفين في بلده أو في بلدٍ نامٍ، أو قد وجد فرصة لشراء عمل أنجزه مصور عالمي أو اقتناء صورة حصلت على جائزة دولية ليبيعها بثمن أعلى فيما بعد.

ويقوم بعض المصورين اليوم بمنح نسخة مطبوعة من الأعمال التي تُباع لأوائل المشترين، وذلك لإضفاء قيمة ملموسة وبُعد واقعي أيضاً على هذه العملية، بغرض تشجيع المقتنين على شراء صكوك أعمالهم.

ولا تقتصر المحادثات تلك على نشر الأعمال فحسب، بل تدور أحاديث حول التجربة الفنية للمصور، أو سرد قصة صورة ما، أو الأساليب والتقنيات المتبعة في التقاطها، كذلك يأخذ الحوار منحى فنياً نقدياً بُغية تعزيز ثقافة الفن وتبادل الأفكار وحثّ الزملاء المصورين على تطوير مهاراتهم.

 باختصار، هذا هو المكان الذي وجد فيه الكثير من المصورين والفنانين البصريين ضالتهم بين أقرانهم بكل رحابة صدر، فأعمالهم الفنية تحظى باحترام هنا، وكأن هؤلاء أدركوا ما جاء به الجاحظ في القرن التاسع الميلادي، والذي وضعناه في غرّة هذا المقال، فبدأوا يلجأون إلى حيث يُرزقون، واعتزلوا قيود صناعة الفن والمستغلين فيها، ومضوا إلى عالم افتراضي يحسّن لهم عالم الواقع، ففيه يبيعون الأعمال الفنية، ويحافظون على ملكية الحقوق الفكرية، ويعبّرون عن فنهم بعيداً عن كلمة “ممنوع” ويتجاوزون المحظور.

وسائل التواصل والحرب القادمة

◙ الشاري أو المالك الجديد لهذه الصّكوك، إما عبر الشراء المباشر أو المزادات، يحصل عليها ويُسجّلها باسمه في محفظته الإلكترونية
الشاري أو المالك الجديد لهذه الصّكوك، إما عبر الشراء المباشر أو المزادات، يحصل عليها ويُسجّلها باسمه في محفظته الإلكترونية

يذهب البعض إلى أن الأمر برمّته محضُ فُقاعة ستنفجر يوماً، وتحوم الشكوك حوله، تماماً كما نُظِر إلى العملات الرقمية قبل أكثر من عشر سنوات، بل وإلى اليوم ثمة آراء مناهضة لفكرة لامركزية هذه العملات والشبكات بالرغم من الأرباح التي حققها طيف واسع من المتداولين، لكن على الجهة الأخرى هنالك آخرون يقولون بديمومة هذا الفضاء الجديد خصوصاً وأن كُبرى الشركات المنتجة والاستثمارية والمشاهير والشخصيات المعروفة باتوا لا يألون جهداً في الاستثمار في هذا القطاع، فهل هم غافلون عن مآلات انفجار هذه الفقاعة قبل التوجه إليها؟

وحسب ما التمست شخصياً، ثمة رأيٌ ثالث يعتقد أن هذه السوق ستكبر إلى حد معين، وأن حدثاً ما كأزمة اقتصادية عالمية أو تشريعات وقوانين حكومية أو ربما قيام حرب مؤثرة عسكرية كانت أو تجارية، سيلقي بظلاله على هذه السوق فتنكمش وتعيش مرحلة ركود لفترة بين سنة أو اثنتين، ثم تنهض من جديد، وقد تطرأ عليها بعض التغييرات مثل سنّ بعض القوانين أو ربطها بعملات مركزية أو ما شابه، أو أن تبقى دون تغيير جوهري، لتتابع مسيرها لأن الاحتياج إليها سيكبر مع نهوض جيل جديد من الشباب ودخول المزيد من الرواد، والمؤشرات اليوم فيها تنحو نحو الارتفاع، وهذا ما ألمح إليه بعض الضالعين في المجال ومن رواده ومن أكبر مستثمريه مثل غاري فاينرتشوك.

الكثير من الشركات العالمية تتهافت اليوم على الميتافيرس كنوع من الاستثمار في المستقبل، ومنها أديداس ونايكي وفيسبوك، وحسب بلومبرغ فإن حجم الإنفاق فقط في مجال "أن أف تي" من بداية العام 2021 حتى منتصف ديسمبر بلغ قرابة 41 مليار دولار

وتبدو جدية هذا الأمر بالغة إلى درجة أن تخطو شبكات التواصل الاجتماعي تجاه عالم الميتافيرس وما فيه من صكوك، وإن لم تفعل فسيكون مصيرها الانحسار أمام تمدد الميتافيرس الذي يجمع الناس ولا يمس بخصوصية البيانات الشخصية، فمنصة فيسبوك أصبحت “ميتا” كما ذكرنا، وشركة تويتر بدأت بإعادة صياغة بعض جوانب منصتها لتتناغم وتتوافق مع احتياجات عالم الصكوك غير القابلة للاستبدال، وسمح مسؤولوها بربط المحافظ الإلكترونية بالحسابات، وذلك لتسهيل الإجراءات وتداول المعلومات حول هذا المضمار، وهي أكثر شبكة تواصل اجتماعي يرتادها معشر الـ”أن أف تي” والميتافيرس.

وختاماً، يبدو أن مقدمة كتاب الجاحظ، الذي يُقال إنه انتقل إلى ذمة الله جرّاء سقوط رفوف من الكتب الورقية عليه، تسري على أيامنا هذه ويُحتذى بها في هذا العصر الذي يجتمع فيه العرب والعجم في عوالم افتراضية، ولربما كان لجحوظ عيني صاحبنا مَلَكة أورثتنا تبصّره في تجارة زماننا أيضاً، لكن هل نَستبصر نحن اليوم مثله ما سيعقب عصر الميتافيرس بعد أجيال؟

 

__________________

https://twitter.com/benginahmad

https://www.instagram.com/benginahmad/

https://facebook.com/Bengin.Ahmad.Cilini

12