أنموذجان من المخبولين

الأنموذجان الكريهان من المخبولين، الذين لا طرف لأيهما من التحبب وخفة الظل، فهما المستبد المأزوم الرعديد، والأصولي الغبي المعقد. هذا الثاني، تراه في كل وقت عابسا كأنما يفتح للناس على جبهته صفحة عذاب القبر.
الأحد 2019/01/06
الأصولي عابسا في كل الأوقات

يختلف الحُمق عن الجنون. فالأول يتعلق بداء الغفلة وديمومة الخطأ في اختيار الوسيلة والسبيل إلى المُراد، على الرغم من صحة المقصود. أما الثاني، أي الجنون والخَبل، فهو الخلل في الاثنتين: الوسيلة والمقصود. وعليه فإن مقصود الأحمق صحيح، لكن سلوكه الطريق إلى الغرض غير صحيح. والمصيبة في المجنون، لأن أصل مقصده فاسد، وهو ــ مثلما قالت العرب ــ يختار ما لا يُختار!

لا يعتب المرء على الحمقى، وإن كان يألم أو يضحك، لعجزهم عن التمييز. لكن الجنون خطير، وأقل ما يفعله العقلاء لكي يتحاشوا أذى أفاعيله، هو عزله وتسكينه عند الهيجان، والحيلولة دون تمكنه من التحكم في مصير ثلاث عزات!

الحمقى والمغفلون لا يتقصدون الناس بالأذى، مثلما يفعل المخبولون. قيل إن طائرا طار من أمير أحمق، فأمر أن يُغلق باب المدينة. غير أن ذلك الأمير، لو كان مجنونا، لرأى أن المدينة نفسها هي التي أغوت الطائر وحثته على الهرب، ما أوجبَ خنقها أو إلهاءها بالفتنة أو المسغبة!

ضرر الأحمق أغلبه لنفسه، وقد تنتج عنه بعض الطرائف. وفي التراث هناك الكثير من نوادر الحمقى. بعض هذا الكثير يتعلق بأبي غُصن، وهو النسخة العربية الأموية، من جُحا الضاحك المُضحك، التي قلدتها استنبول في شخصية الشيخ نصرالدين خوجة. ففي طرائف الاثنين، كان الحُمق مردودا على صاحبه، مضحكا لسواه. عندما يحرق البخور لكي يتبخر وتصيب النار ثيابه يقول “والله لا تَبَخّرتُ، بعدئذ، إلا عريانا” وكأن الثوب أغلى من البدن. وعندما تهب ريح شديدة فيرتعد الناس ويدعون الله ويتوبون، يصيح جُحا “يا قوم، لا تُعجّلوا بالتوبة، فإنما هي زوبعة وتسكُن!”.

والأرجح، أن جُحا لو وقف خطيبا، فإنه سيُطرب السامعين، ولن يُحزن الناس على حاله وعلى أحوالهم، ولن يتبدى في ناظرهم مخبولا يُتّقى شرُّه، لا سيما عندما يقلب الأولويات أو تختلط عليه الأمور في حال الهيجان فيرسل وصفا لموصوف خاطئ، في سعيه العقيم إلى استعادة المفقود. كان يفتش بانفعال ورعونة عن جارية هربت من صاحبه، فسأله عابرو السبيل “ما شأنك؟” فقال “هلا مرت بكم جارية لرجل مخضوب اللحية؟”. وضحك الناس لأنه يصف صاحب الجارية التي يفتش عنها ولا يصفها!

أما الأنموذجان الكريهان من المخبولين، الذين لا طرف لأيهما من التحبب وخفة الظل، فهما المستبد المأزوم الرعديد، والأصولي الغبي المعقد. هذا الثاني، تراه في كل وقت عابسا كأنما يفتح للناس على جبهته صفحة عذاب القبر. لا تنفرج شفتاه عن ابتسامة، فما بالنا بالضحك حتى النواجز، على نحو ما أباحه النبي لنفسه عندما حث على المفاكهة وقال الدنيا ساعة وساعة. ولا نعلم إن كان الأصولي الغبي، يبتسم للمرأة عند مواقعتها، أم يواقعها عابسا، مثلما لا تعلم كيف ظهرت الزبيبة: من السجود أم من فرك الجبهة بإصبع الإبهام، مثلما هو ادعاء الوطنية عند المستبد الضال!

24