أنسي في جنة الأشباح
بلغني، من صديق عزيز، أن الشاعر أنسي الحاج مريض، مريض بشدة وينام كثيرا، فلا يصحو إلا لينام. وأنسي عندي هو ذاك الشاعر المتمرد، لا يمكن لصورته أن تحضر إلا على هذا النحو. وبصرف النظر عن مواقفه الأخيرة من أحداث عصره، وأكثرها إيلاما وتراجيدية تلك التي تقع في الجوار اللبناني، ولهيبها بات يلفح يوميات اللبنانيين. أنسي، بعيدا عما صدر عنه مؤخرا، نحو ثورة الشعب السوري، وبدا مخزيا أن يصدر عن شاعر، كانت له، بخلاف ذلك، مواقف مشرفة من فكرة الحرية، وحق الكاتب والإنسان في التعبير عن وجوده وأفكاره.
أتذكر مقالته الشجاعة سنة 1966 التي دافع فيها من بيروت، وببلاغة نبيلة، عن حق المفكر عبد الله القصيمي في الإقامة في ما كان يسمى يومها سويسرا الشرق، وقد سكت عن ترحيله عنها إلى القاهرة، كتاب وشعراء غيره. كانت بيروت في ذلك الوقت، وكذلك بعده، واحة الحريّات وملجأ قريبا لكل طالب حريّة وباحث عن الأمان بعيدا عن قمع المستبدين وإرهابهم وزنازينهم، على رغم أن أيدي هؤلاء كانت في مرات كثيرة طويلة وطائلة.
في مقاهيها، الدولشفيتا مثلا، كان في وسعك أن تلتقي حول طاولة واحدة بالشاعر العربي الباحث عن الهواء لرئتيه، والسياسي المعارض، والثائر الهارب من الملاحقة، والمفكر المطرود من جامعته بسبب أفكاره، والعسكري الذي فشل انقلابه، أو أطاح به انقلاب، فقد كان صدر بيروت يتسع لهؤلاء وغيرهم، ممن دفع بهم الاستبداد العربي إلى الرحيل عن الأوطان.
ولو أنت فتشت اليوم مذكرات هذا وذاك من الشعراء والكتاب والمفكرين والسياسيين والثائرين والعسكريين العرب، ممن كتبوا مذكراتهم، سوف تعثر على شارع الحمراء، ومكتبة أنطوان، وشارع المكحول، ومقهى الدولشفيتا، وساحة البرج، وفندق السان جورج، والجامعة الأميركية، وصخرة الروشة، وشارع الفاكهاني، ومخيم صبرا، وغيرها من المعالم البارزة في بيروت عاصمة الهاربين من قمع عواصمهم.
لكن بيروت لطالما كانت شارعا زائغا، ومدينة خطرة، بكل المعاني، عرفت تحولات شتى بدّلت في ملامحها، فبيروت الستينات التي لمع فيها نجم غير شاعر وأديب ومفكر لبناني وعربي، لن تكون المدينة نفسها في العقد التالي، خصوصا بعد توقيع اتفاق القاهرة، وتشريع العمل الفدائي المسلح، وستعمل الحرب الأهلية التي اندلعت سنة 1975 على تقسيم بيروت ونزع القشرة السويسرية عنها، وفي العقد التالي سيتكفل الاجتياح الإسرائيلي الذي أخرج المقاومة من لبنان في خريف 1982 أن يسجل باسم أحد أحياء المدينة الذي يقطنه لاجئون فلسطينيون ما اعتبر مذبحة العصر، وتدمير جزء من عصب التمرّد في المدينة، وإسباغ وجه جديد على بيروت المغدورة التي ستطلق حركة مقاومة ضد الاحتلال، سرعان ما ستتمكن إيران من اختطافها تماما، ومذ ذاك وحتى اليوم ستكتسب بيروت وجها آخر.
في الستينات، عندما لمع نجم أنسي الحاج شاعرا متمردا، وواحدا من اثنين اعتبرا أبرز رائدين لقصيدة النثر العربية، كانت بيروت تشهد نهاية حقبة شعرية وأدبية عربية، وتؤسس، براديكالية ملحوظة، لزمن شعري جديد، خرج فيه الشعر العربي بلغته وأخيلته وأزيائه وتطلّعاته على كل الأعراف التي ظلت راسخة في فن الشعر حتى أواسط القرن العشرين، وكان أساسها العمود.
لقد أعطت بيروت زوّارها والمقيمين فيها من الأدباء العرب، أكثر مما أعطتهم كل العواصم التي زاروها أو أقاموا فيها فترة من حياتهم.
لكن هذه الصورة لبيروت تعرضت للاهتزاز مرارا، رغم مكابرتها وصمودها في وجه الحملات المتعاقبة عليها، من داخل ومن خارج، كان أخطرها على الإطلاق هو ما صنع صورتها الراهنة في ظل حالة اختطاف لكامل لبنان، المشلول والأسير عند مرجعية سياسية وفكرية وعسكرية تبعد آلاف الأميال عن لبنان.
على هذا القوس من التحولات عبرت صورة أنسي الحاج، من شاعر متمرد يصدح بـ: “لن”، و”كلمات”، ويطل برأسه من قلعة الاعتدال، حتى لا نقول اليمين السياسي اللبناني، “النهار”، أبرز المنابر المعبرة عن كيان الدولة اللبنانية، كما جرى تعريفه في أدبيات شارل مالك، إلى شاعر نزيل “الأخبار” التي لا يعترف أصحابها بالكيان اللبناني إلا بوصفه خندقا من خنادق المشروع الإيراني العابر للحدود. وهو، وإن كان يشترك مع زياد الرحباني في سكنى هذه القلعة، فإن الفارق الأساسي بين الشاعر والموسيقي، أن الثاني لم يؤمن يوما بالكيان اللبناني، بل لطالما كان ينتسب بأفكاره إلى تلك اللينينية الفانية التي لم يبق من أنصارها في المشرق العرب سوى حفنة من التعساء، في حين لم يفصح أنسي الحاج يوما عن ولعه بأية إيديولوجيا شمولية، على العكس من ذلك كان، باستمرار، صوتا مفردا، بل وأميل إلى أن يردد مع الفوضويين: “الفرد هو الحق أما المؤسسة فهي الباطل”.
من المؤسف، أن أنسي الحاج، اضطر، لسبب ما، أن يسكن هو وزياد غرفة واحدة في قلعة تسكنها الأشباح.
أعترف أنني، ولفترة من الزمن، شغفت بشعر أنسي الحاج. لم أعد كذلك اليوم، لكنني أعتبره أحد الأصوات الشعرية العربية التي لم يكن من الولع بها بد، لا سيما بالنسبة إلى أولئك الشعراء الذين سكنوا تلك المدينة بيروت في مقتبل أعمارهم، ولعبت بيروت دورا ما في ظهور تجاربهم وأسمائهم. أنسي كان بين تلك الأصوات المُلْهِمة لأصواتنا، نحن الذين اعتبرنا الشعر أفقا للتمرد، وفضاء جديدا وجريئا لاختبار الحواس والأفكار.
أفكر به اليوم، أفكر بأنسي متمنيا له العافية، ومسترجعا بعد “لن”، الذي أضجره إعجابنا به، إلى “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"، “ماذا صنعت بالذّهب ماذا فعلت بالوردة”، “الرأس المقطوع"، “ماضي الأيام الآتية”.
لعل أنسي نفسه، كتب سيرته، وسيرة مدينته، واستشرف مصيره ومصيرها، على طريقته، بدءاً من عناوين مجموعاته الشعرية. وما من شك عندي في أن شعر أنسي بعض ضوء مرسل إلى المستقبل.