أنثروبولوجي مغربي يثبت أن جحا مريد للصوفية ووريث فلسفي لسقراط

فاس (المغرب) - قدم عالم الأنثروبولوجيا والمتخصص في التصوف المغربي فوزي الصقلي، مساء الأربعاء في مدينة فاس إصداره الأخير الذي حمل عنوان “حكمة ومقالب جحا”. ويميط الصقلي في كتابه الجديد، من القطع المتوسط والصادر عن دار النشر “Le Courrier du Livre”، اللثام عن “الرسائل الخفية” لـ70 حكاية روحية كان بطلها الأسطورة جحا، الشخصية التي ظلت تلفت الانتباه منذ قرون في المغرب والبحر المتوسط والشرق الأقصى.
وخلال اللقاء الذي نظمته الجمعية الديمقراطية للفرنسيين في الخارج سجل الكاتب أن جحا، المعروف باسم “جحا” في مصر أو "الملا نصرالدين حجة" في البلقان وفي آسيا، يعد شخصية مثيرة للإعجاب منذ فترة طويلة، تتميز بحملها مجموعة من التعاليم. وأشار عالم الأنثروبولوجيا إلى أن “جحا يعتبر شخصية غامضة، فهو في الآن ذاته مهرج وغريب الأطوار، وحكيم وغبي”، معتبرا أنه بمثابة مريد للصوفية ووريث فلسفي لسقراط.
وتابع بالقول "الدرس الحقيقي، بحسب بطلنا، لا يتمثل في تقديم عرض بارع، الذي أصبح اليوم متاحا بمجرد القيام بنقرة على الشبكة العنكبوتية، بل يكمن في إعادة توجيه المتعلم نحو معرفة يحملها بداخله دون أن يعرفها”، مضيفا أن “جحا يفضل أن يتنكر في هيئة مهرج، ويستخدم صوت الفكاهة والضحك. إنه مثل سقراط تماما”. وبالنسبة إلى الصقلي فإن جحا، من خلال مغامراته التي لا تعد ولا تحصى حيث يظهر مع حماره، “يعلمنا في كثير من الأحيان أمورا أساسية ودقيقة للغاية”، مشيرا إلى أن “هذه الشخصية تتيح لنا إدراك، بحس داخلي، حقيقة لم نتمكن من إيجاد التعبير المناسب لها”.
وجاء في مقدمة الكتاب أنه تم تناقل حكايات جحا، الشخصية الأسطورية التي هي في الوقت نفسه غريبة الأطوار، وحكيمة ومهرجة، شفهيا من جيل إلى جيل، من البحر المتوسط إلى الشرق الأقصى. وتتضمن هذه الحكايات بعض تعاليم الصوفية. وتابع المصدر ذاته أنه "من خلال جوانبها الخالدة، ظلت حكايات جحا تكتسي طابعا راهنيا، كما هو الشأن بالنسبة إلى مرايا روحنا، فهي تعكس غرورنا وأوهامنا وتيهنا.. فجحا يمثل هنا شخصية روحية، تثير مواقفها فينا الحيرة والصدمة”.
ومن خلال هذه القصص السبعين المضحكة التي أماط الكاتب فوزي الصقلي اللثام عن رسائلها الخفية والعميقة، تأتي كلمات جحا وكأنها إلهام ينير تصرفاتنا ووجودنا. وتكمن أهمية الكتاب في كون غالبية الجماعات الاجتماعية في مختلف بلدان العالم تمتلك في رصيدها السردي والفكاهي شخصية جحا، وقد صممت تلك الشخصية بما يتلاءم مع طبيعة تلك الأمة وظروف الحياة الاجتماعية والثقافية فيها، وقد تختلف الأسماء أحيانا كثيرة، لكنها في الجوهر والمضمون واحدة تقريبا.
وجحا عبر التاريخ يتمظهر ويتجلى في مختلف بلدان وجنسيات العالم، فجميعنا يعرف جحا العربي، وجحا التركي، والإيراني، وهو هناك في بلغاريا أيضا غابروفو المحبوب، وأرتين أرمينيا، صاحب اللسان السليط، وآرو يوغسلافيا المغفل، وغيرهم. ولكن بغض النظر عما إذا كان جحا شخصية حقيقية هنا أو هناك، أم هو اختراع لشخصية، فإن ذلك لا ينفي كونه راويا من الطراز اللافت والمحبب، الذي يلقى تقديرا من قبل مختلف الشعوب والثقافات فهو الذي أضحك ويضحك الملايين من البشر، بنوادره الطريفة التي تحمل الدهشة والنكتة والسخرية والقصة والسرد اللافت والجاذب.
وتتفق كل البحوث على أن جحا هو شخصية خيالية من التراث الشعبي في الكثير من الثقافات القديمة، ونسبت إلى شخصيات عديدة عاشت في عصور ومجتمعات مختلفة. وفي الأدب العربي نسبت شخصية جحا الشهيرة إلى أبي الغصن دُجين الفزاري الذي عاصر الدولة الأموية. وهو أقدم شخصيات جحا وإليه تنسب النكات العربية. أما في الأدب التركي فنسبت قصص جحا من إسطنبول إلى الشيخ نصرالدين خوجه الرومي الذي عاش في قونية معاصرا الحكم المغولي لبلاد الأناضول.
وجحا هو رجل فقير كان يعيش أحداث عصره بطريقة مختلفة ويتماشى مع تلك الأحداث شبه الحقيقية، فقد كان يتصرف بذكاء كوميدي ساخر وانتشرت قصصه ومواقفه التي كان يتعامل معها في حياته اليومية، وكانت تنتقل في البداية شفهيا ثم صارت من أشهر نوادر الأدب العربي، ونتج عن ذلك تأليف الكثير من الأحداث الخيالية حوله.