أنت فائز.. فلماذا الانتخابات؟

إذا كانت نتائج الانتخابات محسومة سلفا، وزواج الرئيس بالرئاسة قائم، ولا عريس سواه، فالسؤال المشروع هو: لماذا يتم إنفاق كل ذلك المال على عرس لا معنى له، وعلى زواج كاثوليكي مع السلطة، لا طلاق فيه؟
الخميس 2019/02/14
الكل يقر بأنه لا فائز إلا بوتفليقة

أعلن الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة عن ترشحه للانتخابات الرئاسية، وأعلنت الوقائع كلها أنه فائز. لم تلد نساء الجزائر خيرا من هذا المرشح، وعقرن من بعد ذلك. وما هذا بشيء جديد. فقد حقق الفوز أبطال كبار في تاريخ شعوبهم. سوى أن الرئيس بوتفليقة، بما يحظى به من محبة وإكبار وتقدير من عامة الجزائريين، صغارهم وكبارهم، حكم بلاده وهو واقف، وحكمها وهو جالس، وسيظل يحكمها حتى وهو نائم.

وهناك سبب وجيه لذلك، فالرجل واحد من آخر جيل التحرير. وهو بمكانته هذه يكتسب شرعية نضالية تكاد لا تعلوها شرعية أخرى. كما أنه قاد بلاده في ظروف تقلّبات صعبة، وخرج بها قادرة على النظر إلى المستقبل بقوة وثبات. وهو يستند إلى عصبية جبهوية، أين منها أقوى العصبيات. ولو كانت السياسة في الجزائر تواجه انقسامات وتشرذمات، فإنها تعبّر عن واقع لم يقرأه أحد خيرا من ابن خلدون.

وعلى حسبه، فـ”اعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام، ففيهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة، هي أشد التحاماً من النسب العام لهم، مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو إخوة بني أب واحد، لا مثل بني الأقربين أو الأبعدين. فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام، إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة والرئاسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكون في الكل”.

وكأن ابن خلدون، في دقة قراءته هذه، عضو في جبهة التحرير الوطني التي تجمع العصبيات كلها في النسب العام، ولكنها فيها من هم “أقعد” على المقعد. وكأنه يرى بأم عينيه ما يقرّره أهل ذلك “البيت الواحد” القاعد على نسبه المخصوص.

وأحسب أن الجزائر بهذا التشخيص، يجب أن تجعل “المقدمة” من بين أهم الكتب (أو الممنوعات حسب وجهة النظر). لأن كاتبها أضاف بعين المبصر من بعيد القول “لما كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها. فإذا وجب ذلك، تعين أن الرئاسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم، إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الأخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تفت لهم الرئاسة فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع ولا تنتقل إلا إلى الأقوى”.

والحال، فإن أهل “النصاب المخصوص” بين عصائب جبهة التحرير هم الذين أصروا على الرئيس أن يترشح، لكي لا تذهب عن غلبتهم الرئاسة إلى عصائب أخرى، فغلبوه على أمره.

وهذا يعني، بكل بساطة، أن لا أحد يمكنه أن يتفوق على الرئيس بوتفليقة أو رمزه، لا اليوم ولا غدا، ولا حتى في الأمد غير المنظور. فقد عقرت الجزائر لأن العصائب الأخرى فيها ولدت عاقرة من الأساس. أما جيل الشباب في هذا البلد فقد توقف عن أن يكون شابا. فهو لا من هذا الجيل انتسابا في الحياة، ولا يملك أصلا في الجيل الذي سبقه، ويعيش على البطالة والحرمان، مما لا يؤهله إلى أي مستقبل.

والرئيس بما يمتلكه من الخبرات ما يجعله ممثل الشباب، كما أنه وحده ممثل الأجيال السابقة واللاحقة.

ولئن كان البعض يعيب عليه أنه “مُقعد” وأن سمعه بات ضعيفا، وأنه لا تنطبق عليه “شروط الإمامة” كما صنفها ابن خلدون، (العلم والعدل والكفاية وسلامة الحواس)، فإن منتقدي بوتفليقة هم المقعدون وتنقصهم سلامة الحواس على نحو أشد. ذلك أنهم لا يحسّون بالمخاطر التي تتهدد الجزائر. كما أنهم مقعدون عن التأمل في الأحوال التي يمكن أن تنشب إذا ما غاب عنها رجل قادر على أن يمسك بكل الخيوط، ويصغي، بعين العقل أكثر من الأذن، إلى الرأي الراجح فيرجّحه بعزم لا يلين.

ولا شك أن هناك مشكلات كثيرة، إلا أنه بحكمته ما يزال قادرا على توظيف كل ما يتاح له من إمكانيات لمعالجتها. ومن بين ذلك، المنافسات على الرئاسة من قبل أشخاص لا يملكون القدرات على إدارة الصراعات التي يمكن أن تندلع في بلادٍ ما عرفت إلا سفك الدماء قبل حين من الوقت، ولعشر سنوات متواصلة.

والكل يقر، إقرار قناعة وثقة وإيمان، بأنه لا فائز إلا بوتفليقة، ولا بديل عنه، ولا غريم له، ولا تجدر الثقة بأي أحد سواه.

فإذا كان ذلك كذلك (وهناك أكثر)، فلماذا الانتخابات؟

تقول مصادر الحكومة الجزائرية إنها خصصت، بموجب مشروع قانون المالية لعام 2019 ما قيمته 50 مليار دينار لتغطية مصاريف تنظيم الانتخابات الرئاسية. أو ما يعادل 423 مليون دولار. وهذا رقم فلكي بالمقاييس المحلية.

وبحسب الديوان الوطني للإحصاءات فقد بلغ معدل البطالة في البلاد 11.7 بالمئة في سبتمبر 2018، مقابل 11.1 بالمئة في أبريل 2018. وهو ما يعني أن هناك 1.462 مليون عاطل عن العمل. 19.5 بالمئة منهم من النساء، و29.1 بالمئة منهم من الشباب، وبينهم 668 ألفا غير حاصلين على شهادة، أو بنسبة 45.7 بالمئة من مجموع العاطلين عن العمل، أي أن نظام التعليم لم يشفع لهم، ولا نظام الحياة.

فإذا كانت نتائج الانتخابات محسومة سلفا، وزواج الرئيس بالرئاسة قائم، ولا عريس سواه، فالسؤال المشروع هو: لماذا يتم إنفاق كل ذلك المال على عرس لا معنى له، وعلى زواج كاثوليكي مع السلطة، لا طلاق فيه؟

هذا مال، لو تبرّعت به سلطة الرئيس لأحياء الفقراء، لكان أنفع. ولو خصص لتوفير مواطن شغل للشباب، لكان أفضل من إنفاقه على عملية انتخابية محسومة سلفا.

أفهل يذهب المرء لمشاهدة فيلم، يعرف شخوصه ويعرف قصته، ويعرف نتائجه، بل ولا يوجد فيه معترك أصلا؟ بكلام آخر: دراما من دون دراما. وبطل لا مقابل له؟

في عالم العاقلين، هذا غير معقول. ولكن في عالم غيرهم، فإن كل شيء ممكن. وعلى الأقل، فإن الانتخابات في ظل العصبيات القائمة، عمل لا علاقة له بالمنطق، ولا بالحكمة في إنفاق المال، كما لا علاقة له بقواعد اللعبة ولا خلدونياتها.

لقد كان الاعتقاد، أن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وضع الجزائر على سكة الاستقرار بما يكفي لكي يرتاح. ولكن ثبت أن ذلك الاعتقاد باطل. ليس برغبته بالضرورة، ولكن قيل له إنه هو وحده رجل الاستقرار. فإذا ترجّل، كبت الجزائر. ولهذا السبب، فإن بقاءه في السلطة، ضرورة لا مفر منها.

فقط قلة من البشر، قالوا قولا آخر: لقد أديتَ الواجب، وحان الوقت لجوادك أن يكف عن الركض.

لقد أصبحت مشاهدة هذا الفيلم، مرة بعد مرة، قدرا من أقدار الزمان. والجزائريون، شيبهم وشبانهم، يقبلون الأمر على أنه مصاب أليم حلّ بهم. فلماذا يتوجب عليهم أن يدفعوا ثمن التذاكر؟

8