أنالينا بيربوك وزيرة خارجية ألمانية خضراء في عالم يحترق

الخضر في أوروبا يمثلون نظام قيم أخلاقية، ومشروعًا لتغيير وجه الرأسمالية لتكون قوة مصالح اقتصادية وعدالة اجتماعية واحترام لحقوق الإنسان.
الخميس 2021/12/16
بالأحمر الذي هو كل ما ينبغي

ارتدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في أول جولة خارجية لها رداء أحمر. ذهبت به إلى باريس، ولم تخلعه حتى عندما وصلت إلى بروكسل. ولأنه رمز شديد الجاذبية فقد اختارته مرشحة “الجمهوريين” في فرنسا فاليري بيكريس لتلفت به الانتباه لدى انتخابها لقيادة حملة الحزب اليميني في انتخابات الرئاسة الفرنسية في أبريل المقبل.

رموز الراديكالية

بيربوك تنتقد "دبلوماسية الصمت البليغ" عن الانتهاكات الرأسمالية، حين تشير إلى أن صمت ألمانيا وخوفها لا يتماشيان مع ثقلها ووزنها على الساحة الدولية

لفْت الانتباه يليق بنموذج فرنسي للفهم. إنه لون في زي. ولكنه ليس مجرد زي بالنسبة إلى امرأة تقول به ما لا تجرؤ بيكريس على قوله أو تبنيه.

كان أحمر بيربوك يتعلق بإشارة يسارية لم يكن المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز ليقف حائلا دونها؛ فأصوله المناهضة للرأسمالية تجعله ليس أقل سعادة برداء وزيرة خارجيته مما يمكن لزملائها في حزب الخضر.

لعله يرى فيها ماضيه أيضا؛ فالرجل الذي قاد في أربعينياته الحملة من أجل “اشتراكية راديكالية للتغلب على الاقتصاد الرأسمالي” يستطيع أن يرى في وزيرة خارجيته ما لم يستطع أن يمضي به قدما في الاقتصاد، فهو كوزير مالية سابق بات يعرف تماما أين تكمن قوة الاقتصاد الرأسمالي، ولكنه بات يعرف أيضا أن سياسة خارجية تستند إلى معايير أخلاقية هي واحدة من أول مسالك التقويم.

بيربوك بالأحمر، هي أول رموز تلك الراديكالية التي انتقدت “دبلوماسية الصمت البليغ” عن الانتهاكات قائلة “إن صمت ألمانيا وخوفها لا يتماشيان مع ثقلها ووزنها على الساحة الدولية”.

ثم عادت بيربوك لترتدي الأحمر خارج اجتماعات وزراء خارجية الدول الصناعية السبع. فبرزت وكأنها تأتي من عالم جديد يفرض لونه على الطبيعة الداكنة لأردية الوزراء التقليديين.

أحمر بيربوك يتعلق بإشارة يسارية لم يكن المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز ليقف حائلا دونها
أحمر بيربوك يتعلق بإشارة يسارية لم يكن المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز ليقف حائلا دونها

ومنذ أن قاربت ضفاف المسؤولية صارت بيربوك تحتشم في ملابسها أكثر، لكي لا تُظهر مفاتن جسد لا يزال غضا. فالرياضية السابقة وابنة الواحد والأربعين عاما ليست فاتنة الوجه فقط؛ ما زالت بقوام رشيق، فرس من الطراز الرفيع، حتى لتكاد أن تكون نقيضا تامّا للترهل الجسدي الذي انتهت إليه أنجيلا ميركل.

لم ينظر العالم إلى ميركل في جسدها الذي بلغ بها حد الإنهاك، حتى أنه خذلها ذات يوم عندما وجدت نفسها ترتجف على منصة الشرف خلال استقبالها الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في يونيو 2019.

ميركل امرأة تفوق التصور الشكلي، كيفما كان. كانت، بالحكمة التي أدارت بها شؤون البلاد على امتداد 16 عاما، أكبر بكثير من أن تؤخذ بتفاصيل من هذا النوع. شُفيت من ذلك الارتجاف، وبقيت الحكمة تنير طريق بناء ألمانيا. وسلمتها قوية لشولتس.

ولكن فتنة الجسد تفرض نفسها في النهاية، وهو ما صار يدفع بيربوك إلى ارتداء العريض والمستور. إنما بقي الأحمر حرا وناطقا، ليقول كل الأشياء الأخرى.

 تضع بيربوك خاتم زواج عريضا لكي يكون فاقعا لمن يريد أن يتفحص التفاصيل. إلا أنها تضعه في يدها اليمنى لتقول إن زوجها دانيال هوليفليش أكثر من مجرد زوج. والصور التي جمعتهما ساعة تولت حقيبة الوزارة من سلفها الاشتراكي هايكو ماس كشفت عن نظرة حب جلي لذلك الرجل الذي جند نفسه لرعاية ابنتيهما، بينما شرعت بيربوك تخطو خطواتها الأولى في أداء مسؤولياتها الحكومية الجديدة.

كانت تريد أن تكون هي المستشارة التي ترث ميركل. ولكن هفوات صغيرة قطعت عليها الطريق، رغم أنها حققت لحزبها مكانة أكبر مما كان عليه على طول الخط. بل إن استطلاعات الرأي وضعت الخضر، في إحدى المراحل، في مقدمة الأحزاب الألمانية الكبرى. وبدا أن حلم المستشارية قريب، قبل أن يعود شولتز ليمسك بزمام المبادرة ويوقف تراجع حزبه الاشتراكي الديمقراطي.

قوة ألمانيا

العالم الذي يراقب بيربوك اليوم لم ينظر إلى ميركل من خلال جسدها الذي بلغ بها حد الإنهاك
العالم الذي يراقب بيربوك اليوم لم ينظر إلى ميركل من خلال جسدها الذي بلغ بها حد الإنهاك

الألمان يساريون اليوم أكثر مما كانوا في أي وقت. شولتز نفسه بدأ حياته السياسية ناشطا يساريا يطالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة ومناهضة الفقر في العالم.

الأحمر رسالة قوة أيضا. بيربوك هي التي تمثلها أكثر من غيرها في تحالف “إشارة المرور” الذي يجسد ألوان الأحزاب الثلاثة التي شكلت الحكومة الألمانية الجديدة؛ الاشتراكيون بالأحمر، والليبراليون بالأصفر، والخضر بالأخضر.

الدبلوماسية “الموجهة بالقيم” كانت هي أول المفاتيح لعالم تريد بيربوك ألا يقيم موازينه على القوة العسكرية أو الاقتصادية وحدهما، وإنما على قواعد الحق أيضا.

“الحق يتعين أن يتوافق مع تلك القواعد لا مع ما تملك من القوة”. هذه إشارة مبكرة يمكنها أن تكون صارخة في وجه كل الذين يعتمدون على القوة في فرض ما يعتبرونه حقا.

انطلقت بيربوك من هذا المعيار إلى باريس وبروكسل وليفربول، حيث عقد اجتماع نظرائها في الدول الصناعية السبع. وانتهى الاجتماع بموقف موحد متوقع، في تحذير روسيا من الإقدام على ارتكاب غزو جديد لأوكرانيا، والصين من مواصلة الانتهاكات لحقوق مواطنيها والتزاماتها تجاه المناخ، وإيران من مواصلة الاختراقات التي يمكن أن تفضي إلى بناء أسلحة نووية.

ولكن لا يزال للفكرة من وراء “الدبلوماسية الموجهة بالقيم” أن تتحول إلى أداة عمل فعلي. الطريق طويل. وبيربوك أرادت في خطواتها الأولى أن تتعرف عليه وتتصرف بحذر لكي لا تتعثر. ولكنها قدمت رمز اللون ليكون إشارة إلى ما سيأتي.

تحالف "إشارة المرور" يجسد ألوان الأحزاب الثلاثة التي شكلت الحكومة الألمانية الجديدة؛ الاشتراكيون بالأحمر، والليبراليون بالأصفر، والخضر بالأخضر

ألمانيا قوة يعتد بها. ويتعين عليها أن تؤدي دورا يتجاوز الحذر التقليدي الذي وسم سياساتها الخارجية على امتداد كل العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. والأحمر إشارة خروج من عالم الخشية والتردد والخوف.

بيربوك تقول إن الرياضة علمتها الشجاعة. والشجاعة هي أول الطموح. وفي المنافسة على الترشيح للمستشارية وقفت لتخاطب مؤتمر حزبها بالقول “أنتم لا تنتخبون رئيسة للحزب،

ولكن مستشارة لألمانيا”. ففازت برئاسة الحزب بالشراكة مع روبرت هابيك، وهو ليس بأقل منها إخلاصا لمبادئ المساواة وحقوق الإنسان والدفاع عن البيئة، باعتبارها وجها شديد الصلة بتلك الحقوق، وبالموقف من الصناعات التي تركض وراء الربح على حساب مستقبل البشرية.

كان أبوها يقودها، في الصغر، لتشارك معه في التظاهرات المناوئة للأسلحة النووية. وفي سعيها لمناهضة الظلم أرادت بيربوك في مطلع أعوامها العشرين أن تكون صحافية. وهي جربت ذلك بالفعل قبل أن تنضم إلى حزب الخضر في العام 2005.

“إذا كان للمرء طموح ما، فهو بطبيعة الحال يريد أن يظهر بأنه يمكنه تحقيق ذلك”، هكذا تتحدث بيربوك التي التزمت بهذا المبدأ منذ نشأتها الأولى في هانوفر عاصمة ولاية ساكسونيا السفلى، وحين سافرت في سن الـ16 عامًا إلى الولايات المتحدة الأميركية وبقيت هناك سنة كاملة، ثم عندما عادت لتدرس القانون العام في هانوفر، وتتخرّج من  كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وكذلك في تلك الميزة النادرة بين السياسيين الألماني حين يقال عن بيربوك إنها يمكن أن تجري مقابلات باللغة الإنجليزية بطلاقة.

مواقف صلبة

حلم بيربوك بأن تكون المستشارة تبدّد بسبب هفوات قطعت عليها الطريق
حلم بيربوك بأن تكون المستشارة تبدّد بسبب هفوات قطعت عليها الطريق

يتهم البعض بيربوك بارتكاب سرقات أدبية واختلاق معلومات غير دقيقة في سيرتها الذاتية، وعدم الإبلاغ عن مبالغ تلقتها بقيمة 25 ألف يورو، كما ينتقدها كثيرون لكونها لم تشغل في السابق أي منصب حكومي، وأنها قليلة الخبرة، حتى أنها بعد إلقاء أحد خطاباتها سجّل لها الميكروفون كلمات بذيئة رددتها وهي تغادر المنصة.

لكنها في الوقت ذاته واجهت حملات كراهية وتمييز جنسي غير مسبوقة ولم يواجهها أي مرشح منافس، حسبما أعلن حزبها. إلا أنها هزمت كل تلك التحديات، وستكون بيربوك العضو الثاني في حزب الخضر الذي يتولى حقيبة الخارجية بعد يوشكا فيشر الذي برز في عهد غيرهارد شرودر.

الخضر الآن في أوروبا هم الأحمر كما ينبغي أن يكون، بوجهيه؛ كنظام قيم أخلاقية، وكمشروع لتغيير وجه الرأسمالية لتكون قوة مصالح اقتصادية وعدالة اجتماعية واحترام لحقوق الإنسان. أما هذه الأخيرة فليس بمعناها الفردي فقط وإنما بمعناها الإنساني الجامع أيضا.

يصعد الخضر رغم كل حملات المنع والتضييق التي يتعرضون لها، ليتحولوا إلى قوة ضاغطة تحل مكان القوى المنحسرة، وهكذا يأتي أحمر بيربوك ليكون رمزا لموقف صلب حيال قضايا الحقوق والتمسّك بالتغيير.

12