"أمطري يا سماء" قصائد على ألسنة الأطفال

الشاعر المصري جابر بسيوني يقترح جماليات شجاعة في ديوانه الجديد.
الأحد 2023/12/10
شعر الأطفال يجنح إلى المبهج والسار (لوحة للفنان تحسين الزيدي)

أدب الطفل لا يتوقف على القصص بل نجد الشعر يحتل مكانة هامة للغاية في تنشئة الأطفال وشحذ خيالاتهم وقدراتهم اللغوية علاوة على أنه وسيلة تحفيز وترسيخ القيم الأخلاقية وروح الانتماء، خاصة في ما يقدمه من أناشيد سهلة الحفظ تمثل روافد معرفية مؤسسة لكل طفل. ولكن من النادر أن نجد قصائد مكتوبة بألسنة الأطفال دون فوقية أو وعظ، وهذا ما انتبه له الشاعر المصري جابر بسيوني في ديوانه الأخير “أمطري يا سماء”.

يحتوي ديوان الأطفال “أمطري يا سماء” للشاعر جابر بسيوني على أربع عشرة قصيدة، جاءت معظمها على لسان الأطفال، وقليل منها ما جاء على لسان الشاعر باعتباره الشاعر العليم في شعر الأطفال.

وهذا الأمر يجرنا إلى قضايا وإشكاليات الشعر المكتوب للأطفال، والشعر المكتوب عن الأطفال، فمن الشعر المكتوب عن الأطفال على سبيل المثال ما كتبه نزار قباني عن أطفال فلسطين في ختام قصيدته “هوامش على دفتر النكسة”:

يا أيها الأطفالْ../ من المحيط للخليج، أنتم سنابل الآمالْ/ وأنتم الجيل الذي سيكسر الأغلالْ/ ويقتل الأفيون في رؤوسنا/ ويقتل الخيالْ ../ يا أيها الأطفال أنتمْ ـ بعد ـ طيبونْ/ وطاهرون، كالندى والثلج، طاهرونْ/ لا تقرأوا عن جيلنا المهزومْ .. يا أطفالْ/ فنحن خائبونْ ..”.

أما ديوان “أمطري يا سماء”، فهو ديوان مكتوب للأطفال، وليس عنهم، ومن هنا فإنه يتمتع بجماليات النص الشعري للأطفال التي تحدثت عنها في كتابي “جماليات النص الشعري للأطفال”.

شعر مشرق

d

حملت القصيدة الأولى عنوان الديوان “أمطري يا سماء”، وهي تختلف تماما عن قصيدة “أمطري يا سماء” للشاعرة سعاد الصباح، المكتوبة للكبار، والتي تقول في مطلعها: أجل../ أمطري.. أمطري يا سماء/  فمأساتنا في الليالي سواء/ ونوحي معي بعد فقدان منْ../ نذرت له طول عمري البكاء/ أجل..”.

أما قصيدة جابر بسيوني فهي من قصائد الأطفال التي تحتفي بالطبيعة وأمطارها وفرحة الأطفال أثناء هذه الأمطار لدرجة أن في الرسم المصاحب للقصيدة، وهو بريشة رحاب جمال الدين، نجد أن الطفل بطل القصيدة يصور نفسه (سيلفي) بجهازه المحمول، وهو تحت الأمطار فرحا بها هو وأخوه الصغير أو صديقه الذي يركض وراءه طالبا منه أن يصوره أيضا وهو تحت المطر.

يقول الشاعر إن المطر: “يحتوي لهونا/ والتقاط الصور”. مع أن المطر إذا اشتد أكثر من ذلك ونزل بكثافة وغزارة فإنه قد يكون مؤذيا أو ضارا، وخاصة أثناء والفيضانات. ولكن الشاعر هنا، وشعر الأطفال بعامة لا يميل إلى المواقف الصعبة أو المؤلمة التي تجسد الخوف والرعب والهول أمام الطبيعة، فدائما شعر الأطفال يجنح إلى المبهج والمفرح والسار.

وأعتقد أننا كشعراء يكتبون للأطفال، نريد أن يستقبل الأطفال العالم أكثر إشراقا وأكثر بهجة ومرحا، حتى وإن كان الواقع أكثر بؤسا ويأسا وإحباطا ووجعا، وكاتب الأطفال في هذا الأمر لا يكذب ولا يتجمّل ولا يزيف الواقع، ولكنه يريد للوردة أن تتفتح وتصبح أكثر إشراقا وجمالا، ويريد مستقبلا أفضل للبشرية وللعالم.

والطفل هو الوردة التي تتفتح وهو المستقبل الأفضل للبشرية بطبيعة الحال. ماذا تصنع الوردة إذا أنا قدمت لها الإحباط واليأس أو زرعت حولها الدمار والقنابل والفشل، وسقيتها من الدماء بدلا من الماء، إنها سرعان ما تذوي وتذبل وتموت، فليس لديها عوامل المقاومة بعد، وعلى ذلك نحكم على كل الورود والأزهار بالموت السريع، قبل أن تتشبث بأيّ أمل في الحياة، وهكذا الطفل.

ديوان "أمطري يا سماء" مكتوب للأطفال وليس عنهم ومن هنا فإنه يتمتع بجماليات النص الشعري للأطفال

وقد رأينا في قصيدة “أمطري يا سماء” هذا التوجه من الشاعر جابر بسيوني، وهو ما سنجده في معظم قصائده للأطفال سواء في هذا الديوان، أو غيره من الدواوين التي أصدرها للأطفال من قبل.

القصيدة جاءت على لسان الطفل الصغير وهو يتغنى بالمطر، لعب فيها الشاعر على إيقاعات مشطور بحر المتدارك الأصلي (فاعلن) ولعب على تنويع القافية، ولكن غلب على هذا التنويع رويّ الهمزة، ومن خلال لفظة واحدة نستطيع القول إن شاعر هذه القصيدة، إسكندري، حتى وإن لم نعرف اسمه، وهذه اللفظة هي “النوة” المتداولة بكثرة في المفردات اليومية لفصل الشتاء في الإسكندرية، ويوجد جدول بالنوات التي تستقبلها الإسكندرية، طوال أيام الشتاء.

ومن “أمطري يا سماء” ننتقل إلى قصيدة “فرحة” وهي في نظري من أجمل قصائد الديوان، ففيها الخفة والحركة، وفيها الشقاوة والبهجة والمتعة، ساعد على ذلك إيقاع بحر الخبب السريع، الذي يتناسب تماما مع تلك الحالة المرحة والفرحة التي عليها الطفل، فهو بارع في تقليد الأصوات، ومنها صوت الخروف، وأصوات السيارات، وهو يحاكي كل النبرات، فهو يعلن عن مواهبه الفنية، وهو بارع في لعبة التخفي والعزف على المزمار.

وقد ظهرت براعة الشاعر في استخدام كلمة “صوت” للخروف دون أن يذكر المأمأة، وفي استخدام كلمة “أصوات” للسيارات، فالسيارات متنوعة الأصوات والكلاكسات، أما الخروف فله صوت واحد لا يتغير ما بين خروف وخروف، ولكن صوت السيارة يتغير ما بين سيارة وأخرى، وموديل وآخر، وهكذا جاءت الألفاظ مناسبة للمعاني.

وممّا يذكر لهذه القصيدة التي جاءت على لسان الطفل، هو تكرار لفظة “أنا”، فالطفل دائما يعتز بنفسه، كما يحب أن يلفت الانتباه له، ويكون محط أنظار الجميع، وقد تحقق كل هذا في تلك القصيدة الطفلية الجيدة.

الجد والجدة

جابر بسيوني لا يكذب ولا يتجمل ولا يزيف الواقع، ولكنه يريد للوردة أن تتفتح وتصبح أكثر إشراقا وجمالا
جابر بسيوني لا يكذب ولا يتجمل ولا يزيف الواقع، ولكنه يريد للوردة أن تتفتح وتصبح أكثر إشراقا وجمالا

أما قصيدة “علمني جدي” فقد كانت أيضا على لسان الطفل مع دخول حوارية قصيرة بينه وبين الجد، وجاءت أيضا على تفعيلة بحر الخبب، ولكن شتان ما بين سرعة الإيقاع في القصيدة السابقة “فرحة”، وهدوء الإيقاع في قصيدة “علمني جدي” مع أنهما ينتميان إلى البحر نفسه، ربما دخول صوت الجد الذي يسدي النصيحة وينقل الحكمة للحفيد، قد أسهم في هدوء الإيقاع، ولكنني وجدت لفظة أراها صعبة النطق على لسان الأطفال، وهي “يستطرد” في قول الطفل عن الجد: “وبعطف يحنو ويستطرد”.

 ربما عامل التقفية مع “يستشهد” في السطر الذي سبقها هو سبب الإتيان بها. إن صعوبة كلمة “يستطرد” هو مجيء حرف الطاء بعد حرف التاء. فالطاء صوت انفجاري مهموس لثوي ينطق أحيانا تاء، أما التاء فهو صوت أسناني لثوي انفجاري مهموس، وأحيانا تبدل التاء طاء، ومن هنا تأتي صعوبة تعاقب هذين الحرفين معا على هذا النحو في كلمة “يستطرد” خاصة في عالم الأطفال الذي لا يعرف علم القراءة والتجويد بعد، وكيف تنطق الحروف الصعبة على هذا النحو.

وقد ذكرني قول الجد لحفيده: “فالدرس له وقت/ واللعب له وقت”. بقولي في قصيدة “قالت الشمس” في ديوان “حديث الشمس والقمر”: “فللدرس وقت/ وللعب وقت/ وللأكل وقت/ وللنوم وقت”. وهو ما كانت تحدث به الشمس جميع الأطفال.

أما في قصيدة جابر بسيوني فإن الجد هو الذي يخاطب حفيده ممثلا لجميع الأطفال.

وتحضر الجدة – بعد الجد – في قصيدة “جدتي” لنلتقي بمجزوء بحر الكامل، على لسان الطفل أو الطفلة، فلا يوجد تعيين لأحدهما، على عكس القصائد الثلاث السابقة التي جاءت على لسان الطفل المذكر. فمما يحسب لهذه القصيدة أنها تصلح للجنسين معا، الطفل والطفلة، الذي أو التي تخاطب الجدة التي غاب صوتها، ولم تتدخل في سياق القصيدة على عكس الجد في القصيدة السابقة الذي كان له حضور ووجود مهمان.

إن الاحتفاء بالجدة في مثل هذه القصيدة، احتفاء بالقيم والوفاء وتأكيد على تواصل الأجيال الصغيرة مع الأجيال الكبيرة في جو تسوده الألفة والحب والعطف والحنان، وهي قيم تربوية عظيمة جدا ينقلها الشاعر للأطفال على لسان الأطفال أنفسهم.

ولعلنا نتذكر قصيدة “الجدة” لأمير الشعراء أحمد شوقي، التي يقول في مطلعها: “لي جدة ترأف بي/ أحنى عليّ من أبي/ وكل شيء سرني/ تذهب فيه مذهبي”.

وسنلاحظ أن القصيدتين مختلفتان عن بعضهما البعض اختلافا بيّنا، فنرى في قصيدة شوقي أن الجدة تدافع عن حفيدها الذي يحتمي بها عندما جاء أبوه كي يضربه لسبب ما، فتذكّر ابنها بأنه كان مثله وهو صغير، وتؤنبه قائلة: “ألمْ تكنْ تصنع ما/ يصنع إذْ أنت صبي؟”.

شعر الأطفال عامة لا يميل إلى المواقف الصعبة أو المؤلمة التي تجسد الخوف والرعب والهول أمام الطبيعة

أما قصيدة بسيوني فهي تختلف في بحرها الشعري، وفي توجهها مع الجدة عن توجه شوقي. وقد حافظ الشاعر على روي التاء المكسورة طوال القصيدة، ولم يلجأ للتنويع، أو الثنائيات. وأتوقف عند قول الشاعر: “وحنان قلبك لقمتي”، فأرى أنها صورة شعرية جميلة في حد ذاتها، ولكنها صعبة على الطفل الذي من المفروض أن يتصور أن الحنان؛ هذه اللفظة المجردة، غير الملموسة وغير المرئية وغير المدركة بحواسه الخمس، تتحول إلى لقمة تؤكل.

أما عندما نقول له إن “العلم غذاء”، وهو عنوان القصيدة الخامسة في الديوان، فربما تكون الصورة أكثر قربا ومنالا، لأن الشاعر هنا أطلق لفظ “الغذاء” ولم يحدده في لقمة أو نوع معين، والجميل في هذه القصيدة أنها جاءت على لسان الطفل – أو الطفلة – الذي يحاسب نفسه، على أفعاله طول اليوم، وماذا حصّل من العلم، وهو موقف حميد، يترك أثرا جميلا في الطفل المتلقي الذي ربما يريد أن يقلد طفل القصيدة في محاسبة نفسه وسؤالها عن الاستفادة التي يخرج بها بعد أن ينتهي يومه.

ويعدد لنا طفل القصيدة – التي جاءت على إيقاع الخبب – الأشياء التي خرج بها أو تعلمها في يومه المنقضي، فقد عرف أن الجمع من الناس يسمى القوم، وأن كلمة غطس لا تعني كلمة عوم، وأن الزهر صنوف منه المعروف.

وأتوقف عند تعبيرات أخرى جاءت تقريرية ومباشرة: مثل البحر كبير، والنهر طويل، والكذب حرام. ربما تصلح هذه التعبيرات وهذه الصفات لطفل أقل في سنه من الطفل الذي كتبت له قصائد الديوان، وأتصور أنه طفل العاشرة وما بعدها، وللأسف لم يكتب على غلاف الديوان الصادر عن سلسلة “سنابل” بالهيئة المصرية العامة للكتاب 2023 السن الموجهة إليه قصائد الديوان، وكانوا يفعلون ذلك من قبل.

وأخشى أن تفسر كلمة “الإمساك” الذي هو الصوم، على أنه مرض الإمساك، فيختلط الأمر على الطفل ما بين إمساك رمضان، ومرض الإمساك.

وينهي الشاعر قصيدته بخلاصة القصيدة أو الغرض منها، وهو إيصال فكرة أن العلم غذاء وأساس مثل الأكل ومثل النوم.

عالم الطفل

ي

لا يزال الشاعر يعزف على أوزان بحر الخبب في قصيدته “مكتبتي” التي جاءت على لسان الطفل أو الطفلة، فلا فرق، ليبين أهمية القراءة وتحصيل الكتب في كل فروع المعرفة، إلى جانب وجود “اللابتوب” والتعامل مع الآخرين عن طريق “الإيميلات”، وقد وردت الألفاظ الأجنبية كما هي بنطقها الأجنبي، ووضعها الشاعر بين قوسين، للفت النظر أنها كلمات ليست عربية. وأعتقد أن مثل هذه المفردات فرضتْ نفسها على قاموس حياتنا اليومية، وأصبح الجميع – صغارا وكبارا – يستخدمونها كما هي، فدلالتها واضحة، ربما أكثر من قولنا “الحاسوب المحمول” و”رسائل البريد الإلكترونية”، وهكذا.

وهذه شجاعة من الشاعر الذي يخاطر بكتابة الكلمات الأجنبية بنطقها غير العربي في نصوص عربية للأطفال. ولكن أليست اللغة كائنا حيا يتطور مع تطور مفردات العصر، وها هي الإيميلات واللابتوب والكمبيوتر وفيسبوك وتويتر أو إكس وروبوت، وغيرها أصبحت من مفردات العصر التي استوعبتها لغتنا العربية.

وأتوقف عند قول الشاعر أو قول الطفل: عندي مكتبة من صنع يدي. وأتساءل: هل في استطاعة طفل في العاشرة، وما بعدها بقليل، أن يصنع مكتبة من خشب الزان الوردي؟ أفهم أنه يستطيع تكوين الكتب التي تحتويها المكتبة من اختياراته لها. ولكن صناعة المكتبة الخشبية، قد تحتاج شابا ناضجا أو رجلا، كالأب مثلا، أو الأخ الأكبر، أو النجار.

ولعلي أستطيع أن أثير مشكلة تشكيل الحروف كي تنطق نطقا سليما، ينقل المعنى المراد، وقد لاحظت بعض الأخطاء في تشكيل الحروف، مما يعود بالضرر على فهم الطفل للمعنى، أو يظن أنه المعنى السليم فيحفظه بخطئه على أنه صحيح، ومثال على ذلك: قَطَعَ (التي وردت بثلاث فتحات على القاف والطاء والعين) والشاعر قد يقصد (قطع) الزان، أما لو كان الشاعر يقصد السؤال: من قطع الزان، فكان يجب إثبات علامة الاستفهام في نهاية السؤال، ليكتمل المعنى.

مثل هذه الإشكاليات مهمة في عالم الكتابة للأطفال، قد لا تكون مهمة أو ضرورية في عالم الكتابة للكبار، لأن الكبير سيفهم المقصود من تلقاء نفسه، وسيدرك أن هناك خطأ ما. أما عند الصغير فالأمر مختلف. وليس هذا مسؤولية الشاعر بقدر ما هو مسؤولية المراجعة اللغوية والتدقيق لدى الناشر.

ومن مجزوء بحر الرمل تأتي قصيدة “تعلم يا صغيري” التي أثبت الشاعر أنها مقررة منذ عام 2018 ضمن منهج الصف الرابع الابتدائي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وهي قصيدة تحريضية على أهمية العلم تحفل بأفعال الأمر، مثل: انهل، اقرأ، خذ، استشر، وغيرها. كما تستلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة عن خشية العالم واتخاذ العلم درعا. فهي قصيدة حافلة بالمعاني والقيم والمثل والحكم التي نريد أن ننشئ أطفالنا عليها. وربما لهذا السبب قررت على الصف الرابع الابتدائي في دولة الإمارات، أي أطفال سن العاشرة تقريبا. ومن الحكم التي وردت بالقصيدة: “كم من البلدان هانتْ/ حين ضاع العلم منها/ تركته واستهانتْ/ فنأى الإشراق عنها”.

من ملامح هذا الديوان كثرة القصائد التي جاءت على لسان الطفل أو الطفلة، فكان بطلها والضمير المتحدث فيها

وهو في هذا يذكرنا ببيت مشهور لأمير الشعراء أحمد شوقي يقول فيه: “بالعلم والمال يبني الناس ملكهم/ لم يبن ملك على جهل وإقلال”.

والقصيدة تأتي على لسان المعلم أو الأب، وليس على لسان الأطفال كما في القصائد السابقة.

القصيدة الثامنة تحمل عنوان “أحب بلادي”، وهي قصيدة – كما يتضح من عنوانها – تعلو فيها النزعة الوطنية، ويعلو فيها إيقاع مجزوء بحر المتقارب، وتأتي ثنائية القافية على لسان الطفل أو الطفلة، وبها بعض أخطاء التشكيل اللغوي التي يفضل الابتعاد عنها عندما نكتب للأطفال.

وفي حوارية خببية جميلة بين الطفل وأبيه تأتي القصيدة التاسعة “ما أجمل أن تسعد غيرك”، وفيها يعاتب الأب ابنه عندما حجب شروح الدرس عن الأصحاب، وينصحه بأن يبسط كفه ويعاون الآخرين، ويضرب الأب أمثلة من عالم النمل والنحل، تقترب من عالم الطفل. وأتوقف عند لفظة أو كلمة مجردة قد تكون صعبة الفهم والتصور لدى الأطفال مثل لفظة “جلال” في قول الأب: وعلى درب الماضين لعون الناس جلال.

ومن حوارية الأب والابن، إلى حوارية الأسرة الخببية في القصيدة العاشرة “ما أجمل فعل الخير”، ويصور فيها الشاعر جلسة الأسرة – التي نفتقد مثلها كثيرا في سنواتنا الأخيرة – لمناقشة الأحوال الإنسانية، ولم يقل لمناقشة الأحوال الأسرية، فالتركيز على العالم الخارجي في جلستهم الأسرية أكثر من التركيز على العالم الداخلي، أو عالم الأسرة داخل البيت، وأعتقد أنه ما دامت هناك جلسات أسرية بصفة دورية، فلن نجد شكوى أو تذمرا أو غضبا داخليا، لذا انتقل الحوار عن العالم خارج المنزل، فهم يناقشون كفالة طفل الشارع، ولماذا نتركه يصارع؟ وتكثر أمثال الحكمة على لسان الأب والأم والأخت الكبيرة في هذه الجلسة الأسرية، وعندما يفهم طفل القصيدة معنى الكفالة المجتمعية وأنها من وجوه الخير، يتحمس لعمل الخير بأن يوفر مصروفه اليومي ويساعد طفل الشارع.

d

ومن مشطور الخبب تأتي قصيدة “الجار أمان” ثنائية القافية، على لسان الطفل، وفي مثل هذا النوع من القصائد لا بد من الاستعانة أو استلهام الأحاديث النبوية الشريفة عن الجار، وهو ما أتى به الشاعر ووظفه توظيفا مناسبا، وهي قصيدة أقرب إلى النشيد أو الأغنية في إيقاعاتها الخببية.

ومن أفضل قصائد الديوان،- بعد “فرحة” – القصيدة الخببية “أعشق كل الألوان” التي تأتي على لسان الطفل، والتي تحفل بالحركة والألوان المختلفة، وتدخل شخصية العم – لأول مرة – بعد شخصيات الأب والأم والأخت والمعلم، في قول الطفل: عمري عشر سنين، علمني عمي التلوين. ولأول مرة أيضا يصرح الطفل بسنه.

في هذه القصيدة الجميلة نلتقي عالم الألوان الذي يتحرك ويموج ويتداخل، فلكل لون معنى وحياة، وهكذا يعلمه العم أن اللون حياة، وصولا إلى العلم المصري ذي الألوان الثلاثة: الأحمر والأبيض والأسود، والذهبي اللامع لون النسر المصري، نسر صلاح الدين.

وكم وددت من الشاعر أن يتعمق أكثر في الألوان، فيذكر للطفل أسباب اختيار ألوان العلم المصري، أو معنى هذه الألوان الثلاثة، ولماذا تم اختيارها دون الألوان الأخرى، ليعرف الأطفال القراء ويتثقفون من خلال القصيدة.

القصيدة الثالثة عشرة عبارة عن باقة ورد في نغم خببي، يختارها الطفل ويهدي منها، وهي تعد امتدادا للقصيدة السابقة عن الألوان، لأننا سنجد أيضا في “باقة ورد” ألوان الورد الأبيض والأحمر والأصفر والأخضر والبمبي، فهي ألوان خمسة، مقابل سبعة ألوان في قصيدة “أعشق كل الألوان”. وعالم الألوان من العوالم المحببة للأطفال بصفة عامة، يفرحون بها ويختارون من خلالها ملابسهم وألعابهم وأكلاتهم ومشروباتهم، وفعلا الألوان حياة بالنسبة إلى الأطفال.

وأتوقف عند دلالة اللون البمبي بالنسبة إلى الطفل، حيث يرى الشاعر أن هذا اللون لليالي السعد، وعليه نكتب “مع كل الود”. وأتساءل: ما الذي سيفهمه الطفل في هذا السياق، سيظل معنى اللون البمبي – من خلال هذا السياق – غائما في تصوره ومدركاته. وكنت أتوقع من الشاعر أن يذكر أصنافا من الورود والأزهار تناسب الألوان التي ذكرها، فما صنف الورد الأبيض الذي يهديه للجد، وما صنف الورد الأحمر الذي يهديه لزميله مجدي، وهكذا، فهناك الورد الجوري، وهناك الورد البلدي وهكذا، وكان يمكنه اللعب على رائحة الورود أيضا، وبذلك يكتسب الطفل ثقافة جديدة من خلال القصيدة. وقد استطاعت الرسوم المصاحبة ترجمة هذه الأنواع ولكن لم تكتب على الرسم بالطبع أن هذا الورد الأبيض هو النرجس، أو غيره.

بحر الخبب وتفعيلاته (فعلن فعْلن) كانت هي المسيطرة على قصائد الديوان

ونختتم هذه الباقة من القصائد الطفلية بقصيدة مهمة عن كاتبنا الكبير الراحل نجيب محفوظ، وهي تختلف كلية عن القصائد الثلاث عشرة السابقة، ولكنها تتفق مع معظمها في البحر الشعري، فقد جاءت من الخبب، متنوع القوافي، ولكن على لسان الشاعر نفسه، وأستطيع أن أقول إنه في هذه القصيدة هو الشاعر العليم – مثل الروائي العليم في عالم الرواية – لأنه يقدم ما يعرفه أو يعلمه هو، ولا يعرفه، ولا يعلمه الطفل الذي كانت تجئ القصيدة على لسانه في نصوص سابقة بالديوان.

ومن خلال القصيدة يعرف الطفل أسماء أشهر أعمال نجيب محفوظ مثل: ميرامار، والكرنك، وبداية ونهاية، وقصر الشوق، وبين القصرين، وعصر الحب، أما “أولاد حارتنا” فقد غير الشاعر اسمها ليكون “أولاد الحارة” وهنا تكون الخطورة في تغيير أسماء الأعمال المشهورة في عالم الأطفال لضرورة وزنية أو إيقاعية، وسوف يعرف الطفل من خلال القصيدة أن هناك رواية اسمها “أولاد الحارة” وعندما يسأل عنها لن يجدها. وإنما سيجد “أولاد حارتنا” و”حكايات حارتنا”، ولكن الشاعر ذكر “أولاد الحارة”، وهو يصدقه، وهنا يكون المأزق.

وأشير هنا إلى الرسم المصاحب للقصيدة الذي أتى ببورتريه رائع لنجيب محفوظ، وذكر اسم “السكرية” ضمن ما ذكره من أسماء روايات نجيب محفوظ، والشاعر لم يذكر اسمها في قصيدته، والطفل المدقق والمقارن بين القصيدة والرسم المصاحب لها، ربما يسأل عن “السكرية”، وأرى أنه ما دام اسم هذه الرواية لم يرد في النص الشعري، فلم يكن هناك داع لكتابة اسمها مع بورتريه نجيب محفوظ الرائع الذي نختم به هذا الديوان الجميل الذي يعد إضافة جديدة لعالم الأطفال الشعري في حديقة الشعر العربي، بموضوعاته وقيمه التربوية والفنية.

من خلال استعراضنا لقصائد ديوان “أمطري يا سماء” نستطيع أن نستخلص بعض الظواهر أو اللمحات، ومنها أن بحر الخبب وتفعيلاته (فعلن فعْلن) كانت هي المسيطرة على قصائد الديوان وبلغت عشر قصائد، أما مشطور المتدارك (فاعلن) فقد حظي بقصيدة واحدة، مثله مثل مجزوء الكامل، ومجزوء الرمل، ومجزوء المتقارب. وهذا يتماشى مع إيقاعات الشعر المكتوب حاليا للأطفال، سواء العمودي أو التفعيلي، وغاب مجزوء بحر الرجز تماما، وهو البحر الأكثر تداولا بعد الخبب في دواوين شعر الأطفال عامة.

أيضا من ملامح هذا الديوان كثرة القصائد التي جاءت على لسان الطفل أو الطفلة، فكان هو – أو هي – بطلها والضمير المتحدث فيها، وقد بلغ عدد هذه القصائد إحدى عشرة قصيدة، بينما جاءت قصيدة واحدة على لسان الأب أو المعلم، وأخرى على ألسنة الأسرة، وأخيرة بلسان الشاعر العليم نفسه. وهو ما يكشف عن معايشة الشاعر لعالم الأطفال، وقدرته على التعبير عن هذا العالم بسهولة ويسر واقتدار.

10