ألف سنة من الغرام

المراثي الشعرية تُحرج بقدر ما توجع، فيها شحنة عاطفية يمتزج فيها الزمني المؤقت بالتباهي في الانتصار على ما هو زائل.
السبت 2024/07/13
الرثاء سبب للغرام

تُحرج المراثي الشعرية بقدر ما توجع، فيها شحنة عاطفية يمتزج فيها الزمني المؤقت بالتباهي في الانتصار على ما هو زائل.

والمراثي مدائح عن طريق الندب، حين يستمع المرء إلى مرثية كُتبت بخيلاء الحب يحسد الميت على ما تركه من أثر عظيم في نفوس محبيه، حينها يكون الشعر باباً للخلود. ففي كل حرف من بيت لا يُنسى تقيم روح الغائب في زمن مترامي الأطراف هو زمن الشعر.

نقرأ “علو في الحياة وفي الممات/ لحقا تلك إحدى المعجزات” حسب أبي الحسن الأنباري، ونقرأ “ولو أن النساء كمَن فقدنا/ لفضلت النساء على الرجال” حسب أبي الطيب المتنبي، ونقرأ أيضاً، “أيا شجر الخابور ما لك مورقا/ كأنك لم تجزع على ابن طريف” حسب الفارعة بنت طريف، ولا يُنسى بيت قاله جرير في رثاء الفرزدق “لتبك عليه الأنس والجن إذ ثوى/ فتى مضر في كل غرب ومشرق”.

ولكن “حطيت على القلب إيدي وأنا أودع وليدي وأقول يا عين إسعفيني يا عين وبالدمع جودي يا عين/ من يوم ما سافر حبيبي”، شيء مختلف عن كل المراثي الشعرية العربية، يسمعه المرء بلسان أم كلثوم في أغنية يظنها الكثيرون وصية في الغرام لولا أنها الأغنية التي تضمنت أكبر عدد من الآهات من بين أغاني كوكب الشرق، حتى الأغنية التي تحمل عنوان “الآهات” لا تتفوق عليها في ذلك.

“الأولة في الغرام” هي تلك الأغنية، كتبها الشاعر بيرم التونسي من أجل أن يواسي صديقه زكريا أحمد بفقدان ولده.

كانت أم كلثوم وهي صديقة الاثنين قد خططت لتلك المكيدة الشعرية التي نتجت عنها واحدة من أعظم أغانيها بالرغم من أنها لم تغنها إلا مرة واحدة. وحكاية تلك الأغنية تبدأ بوفاة محمد ابن الشيخ زكريا أحمد.

حين زارت أم كلثوم ملحنها المفضل وجدته صامتا وغارقا في حزنه بحيث أنه لم يذرف دمعة واحدة تعينه على الخروج من عتمة حزنه. حينها اتصلت بصديقه بيرم التونسي الذي لم يسمع بما جرى لصديقه بسبب إقامته في الإسكندرية، وبدلا من أن يأتيه باكيا جاءه محمولا على الشعر.

وما أن قرأ الشيخ زكريا القصيدة حتى انهار باكيا وأسرع إلى عوده وصار يلحنها “الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين/ والثانية بالامتثال والصبر أمروني وأجيبوا منين/والثالثة من غير معاد راحو وفاتوني قولولي فين”، تلك أغنية خلقها خيال الواقع.

ولولا تلاقي عبقريات ثلاث في لحظة إلهام حزين لما كان من الممكن أن يتحول الرثاء إلى سبب للغرام.

قرأت ذات مرة في كتاب الماوردي “نصيحة الملوك” أن أحد الحكماء العرب رأى الخليفة يبكي على قبر أمه فقال له “لقد أعزها الله بوقوفك على قبرها ولم يذلها بوقوفها على قبرك”.

أعتذر للقراء بسبب هذا المقال الحزين ولكن “الأولة في الغرام” وهي أغنية لا تُنسى في إمكانها أن تكون عنوانا لألف سنة من الغرام.

18