أفراح القبة المسلسل الذي يعيد للدراما المصرية رونقها

عمّان - تمكن فريق عمل المسلسل المصري “أفراح القبة” المأخوذ عن رواية الراحل نجيب محفوظ، من حصد نجاح باهر، والاستحواذ على انتباه عدد كبير من الجمهور العربي منذ حلقاته الأولى في شهر رمضان المبارك الجاري. كما استطاع الابتعاد عن السباق الدرامي الرمضاني، والتفرد بمكانة متميزة عند المشاهد العربي.
هو عمل ممزوج بفنون عدة، من المسرح إلى الدراما التلفزيونية، بإحساس سينمائي يشعرك بأنك داخل رواية وخيالك هو الذي يصور الشخصيات الحقيقية.
كل حلقة من حلقات “أفراح القبة” بمثابة عرض تشويقي لما ينتظرنا في الحلقات اللاحقة. فكتّاب السيناريو يرمون لنا شظايا من الحكاية تتكشف شيئا فشيئا، بإيقاع محكم ومدروس، وأداء مذهل من نجوم العمل؛ جمال سليمان وإياد نصار ومنى زكي وصبا مبارك وسوسن بدر وصبري فواز وصابرين ورانيا يوسف.
مع هؤلاء جميعاً الشاب محمد الشرنوبي الذي يرسّخ خطواته على درب النجومية ويحفر له مكانا في الصدارة رغم حداثة تجربته الفنية، وهو مطرب بجانب كونه ممثلاً، يستغل هذه الموهبة في مشهد جميل عندما يصدح بمقطع من أغنية “الهوى غلاب” ليعزف على وتر جراح تحية، التي تشعر بالخذلان من طارق، ليهرب بعيداً عن مشاعره تجاهها.
مسرح سرحان الهلالي
في الحلقة الأولى من المسلسل، تتجول الكاميرا بين جنبات المسرح. لنتعرف على عالمه وأبطاله، ولتبدأ جلسة استماع بقيادة مدير المسرح سرحان الهلالي لمسرحية جديدة كتبها مؤلف شاب. سرعان ما يصيب الوجوم الأبطال، حينما يكتشفون أن المسرحية الجديدة ما هي إلا قصة حياتهم الحقيقية، تحكي حياتهم وفضائحهم وانكساراتهم.
في الرواية المطبوعة يقول نجيب محفوظ، على لسان أحد أبطاله “ما هي بمسرحية، إنها اعتراف، هي الحقيقة، نحن أشخاصها الحقيقيون”، بينما يقول على لسان أخرى واصفا مؤلف المسرحية إنه “مجرم لا مؤلف”، ورغم أن أبطال المسرحية يرفضون الواحد تلو الآخر التمثيل في هذه المسرحية الحقيقية، فإن مدير المسرح يصرّ على إخراجها مهما كلفه الأمر كنوع من التطهر.
أعد الرواية للاقتباس الكاتب محمد أمين راضي، مجرياً عملية تحويل النص الأدبي إلى نص درامي. لكنه اختلف بعد كتابته حول نصف الحلقات مع الشركة المنتجة والمخرج محمد ياسين، فقرر الانسحاب، وقد أكملت بعد ذلك الكاتبة نشوى زايد، رحلة تحويل الرواية التي تدور في أقل من مئتي صفحة، إلى مسلسل درامي في 30 حلقة، وهذا التحويل والاختصار هو التحدي الأهم، والذي سيظهر كفاءة المقتبسين.
|
إعادة السرد من وجهات نظر متعددة، هو الخط الأساسي الذي يلتقطه المسلسل، كما ظهر من حلقاته الخمس الأولى، ففي أول ثلاث حلقات، جرت الأحداث بإيقاع سريع ومشدود جدا، متماشية مع فكرة الرواية و المزيد من الغموض وتعقيد الشخصيات والتاريخ المضطرب الذي يعرض أمامنا، تحديداً في علاقة تحية عبده بالرجل الممثل طارق رمضان.
دراما طازجة
يقدم “أفراح القبة” دروسا في الكتابة الدرامية الطازجة، مع حرفة إخراجية وتمثيلية واضحة، قوامها النص والإضاءة والممثل والصراع بين الشخصيات الذي يقود الجميع الى مكان يولد من أجله الفعل الدرامي، حيث ينمو بدل أن تراوح هذه الشخصيات في أمكنتها، ويظل الصراع أحاديا وفي منحى واحد يغلق على العمل ويسقطه بالضربة القاضية.
يشهد العمل حالة فريدة من التألق الجماعي لأبطاله، وتشعر في كل مشهد بعشق كل نجم أو نجمة للدور لدرجة التقمص، فأداء نجوم “أفراح القبة” أشبه بعزف سيمفوني لا تتخلله نغمة نشاز واحدة، وسيبقى كل دور عالقا لسنوات طويلة في ذاكرة الجمهور.
القدرة على الإدهاش
على صعيد الإخراج يبدو أن قدرة محمد ياسين على إدهاش المشاهد تزداد مع كل عمل جديد يقدمه. وتزداد حركة كاميرته رشاقة وأناقة، كما تفيض كادراته حساسية وتلتحم صورته بحميمية لافتة مع وجوه شخوصه، دون إغفال تفاصيل المشهد بكل مكمّلاته من أزياء وإكسسوار وديكور، وموسيقى تصويرية يضيف فيها هشام نزيه نجاحا جديدا في مسيرة تميزه.
في “أفراح القبة” يضع المخرج محمد ياسين شخصيات مسلسله أمام تحدّ من نوع خاص، يتجلّى في إعادة لعب حياتهم على المسرح، لا الاكتفاء بمراقبتها، والشرور تنمو حولها، كأن العبور من هذا الباب ضروري لإعادة اكتشاف العالم. وهو إذ يفعل ذلك، إنما يترك لمالك الفريق المسرحي سرحان الهلالي أن يتحكم بمصائرهم في هذه اللعبة التي يتداخل فيها الخيال مع الواقع، بحيث لا يعود ممكنا التمييز بينهما، أيهما ينتمي إلى الخيال، وأيهما إلى الواقع، طالما أن الرغبة عند مؤلف المسرحية في العمل الانتصار لرؤيته في الفن مهما قامت وظيفته على قراءة كل بواعث الشر المحيط به.
هو هنا يغوص عميقا في ماضي أبويه، والماضي المحيط بالشخصيات نفسها التي ستؤدي العمل على خشبة المسرح، وإذ يغرق الجميع في “أفراح القبة”، ويبدو عليهم ممنوعا الخروج منها لأن ما يريده المخرج المسرحي من إكمال البروفات والعرض إنما لتضييق تلك الهوة بين الواقع الذي يعيشه هؤلاء المهزومين، وبين الخيال الذي يبدو حلاّ سحريا للمأساة التي يعيشها المجتمع الذي ينتمون إليه، فمن ماضيه العائلي السيء ينطلق المؤلف المسرحي عباس كرم يونس في العمل لإعادة كتابة تاريخ هذه الشخصيات الملوّثة والمهزومة، وهو يعرض عليها تاريخها للتطهر من آثام الهزائم النفسية والاجتماعية التي تعيشها وسط خذلان إضافي تشكله السلطة التي تتحكم بمصائرها وتعيد رسم الطريق التي ينبغي المرور منها لتشكيل هذا التطهر.
|
المشاهد المشارك
تعدّ رواية “أفراح القبة” من الروايات الصوتية ذات الأبعاد والمدلولات الخاصة التي تعتمد على حكاية صوت الشخصية. وهي تتحدث بلغة المخاطب مثيرة بذلك نوعا من الجدل يأخذ بناصية الحديث، ويجعله يتنامى ويتصاعد من خلال موقف الشخصية شيئا فشيئا، والذي يصرّح بخيوطه الأولى بحذر شديد مما يجعل المتلقّي يشارك معه في الإمساك بخيوط هذا الحدث، ومحاولة معايشته من خلال ممارسة الشخصية لطبيعتها على خريطة الواقع.
وتعتبر صياغة الشخصية في مثل هذا النوع من الروايات، المحكّ الأساسي في نجاح العمل، وفي إبراز الدال والمدلول اللذين يسير وراءهما الكاتب، وفي تحديد أبعاد الخط الرئيسي المكونّ لصلب الحدث.
وكان نجيب محفوظ قد أوضح في أحد لقاءاته الصحافية عن سبب احتفائه بهذا النوع من الروايات والذى ظهر واضحا في العديد من أعماله بالقول “تعلقي برواية الشخصيات، يرجع ذلك إلى الفسحة الرحيبة التي تتيحها لي عملية التجديد والتكرار في إعادة صياغة شخصيات جديدة، ويمكنها أن تحمل صيغا ومدلولات وقيما تقعد الشخصية الواحدة عن الإحاطة بها، بل يستحيل أن تتجمع هذه الصياغة في ذات إنسانية واحدة نظرا لتضادها وتنافرها”.
لم تحوّل أعمال فنية لكاتب روائي، مثلما حدث مع الأديب العالمي وصاحب نوبل نجيب محفوظ، حيث يجد المؤلفون في أدبه أرضا خصبه لتقديم أعمال سينمائية ودرامية، لما يتمتع به أدب محفوظ من واقعية وبناء درامي وقوالب أدبية تشبه إلى حد كبير العمل الفني، من بداية ووسط ونهاية.
ورغم أن السينما نالت قدرا أكبر من التلفزيون في تحويل أدب نجيب محفوظ، وكان له نصيب الأسد من الأدب التلفزيوني، حيث قدم محسن زايد الثلاثية وقد بدأها عام 1987، وكانت بطولة محمود مرسى وهدى سلطان وصلاح السعدني ومعالى زايد وكمال أبو ريّة وأخرجها يوسف مرزوق، كما عالج محسن زايد أيضا رواية “الحرافيش” لمسلسل “السيرة العاشورية” بطولة نور الشريف في مطلع الألفية الثالثة وشارك نور الشريف البطولة إلهام شاهين وماجدة زكى وأحمد بدير.
شهد مسلسل “أفراح القبة” إشادة كبيرة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أعرب الغالبية عن إعجابهم بالمسلسل واختيار النجوم وأدائهم لأدوارهم، فضلا عن الكتابة والإخراج.
|
العودة لشراء الكتاب
في ظاهرة لافتة للنظر تهافت القراء من جديد على المكتبات لشراء رواية “أفراح القبة”، حيث أعلنت مكتبة الشروق في القاهرة منذ أيام، أن الرواية من ضمن أكثر 20 عملا مبيعا في هذه الفترة.
“أفراح القبة” استطاع تحقيق المعادلة الصعبة في شهر رمضان المبارك الذي يعتبر الموسم الدرامي العربي الوحيد، فإلى جانب تحقيق نسبة مشاهدة عالية على القنوات التي يعرض عليها، نجح كذلك في حصد إعجاب النقاد الذين أشادوا به، معتبرين أنه “دراما مختلفة عن السائد”، وهو ما جعل منه الحصان الأسود لدراما هذا العام.
واعتبر نقاد ومخرجون أن سرّ نجاح المسلسل هو احترم عقل ووجدان المشاهد العربي، لما به من مقومات وعناصر تساهم في أن يحتل المرتبة الأولى. ومن بين النقاد الذين أشادوا بالعمل المخرج علي بدر خان، حيث اعتبر أن مسلسل “أفراح القبة” يعد لونا مختلفا عما تعود عليه المشاهد في متابعه الأعمال الدرامية، وهو ما يميزه عن غيره من المسلسلات، ورأى بدر خان أنه لو عرض العمل خارج السباق الرمضاني كان سيكون أفضل له، وهو ما يتيح للجمهور المشاهد متابعته بهدوء وتركيز أكثر.
من جانبه قال المخرج محمد فاضل إنه كان يتوقع نجاح مسلسل “أفراح القبة” قبل عرضه على الشاشة خلال شهر رمضان الحالي لأنه نص أدبي لروائي كبير مثل العالمي نجيب محفوظ، وأيضا لمخرج كبير ومتميز مثل محمد ياسين، يتمتع بقدرة ووعي فني، فهو يعلم ماذا يريد، وبالإضافة إلى وجود كوكبة كبيرة من الممثلين المتميزين.
والعمل من وجهة نظر الناقدة المصرية خيرية البشلاوي يقدم أجواء غير مستهلكة بالنسبة إلى المشاهد، فهو يحترم عقل ووجدان المتفرج، واحترامه لفكرة الدراما نفسها، فالعمل ليس به عنف أو ابتذال كما هو الحال في أغلب الأعمال الدرامية التي يتم عرضها.
أما الناقد السينمائي طارق الشناوي فقال عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك إن مسلسل “أفراح القبة” يعدّ من أفضل المسلسلات التي نشاهدها حتى الآن، لأنه خرج على الشكل التقليدي والمتعارف عليه في الدراما، فهو حالة مغايرة وصادقة.
أما الناقدة ماجدة موريس فقد قالت إنها تعتبر مسلسل “أفراح القبة” عودة للأعمال الأدبية على الشاشة وهو الطريق الصحيح بالنسبة إلى الدراما، لضرورة تقديم الأدب المصري للجمهور، وبالتالي تتسع قاعدة القراء، مع الحفاظ على الهوية الثقافية.