أطفال غزة منهارون من الداخل كبيوتهم المهدمة

ما ذنب الأطفال حتى يدفعوا ثمن الحرب غاليا، فمن لم يمت منهم لا ينام الليل هادئا ولا يلعب في الشوارع دون أن يساوره الرعب والخوف مما رآه من أهوال الدمار، وخير دليل الحرب الأخيرة على غزة، فهؤلاء الأطفال لن ينسوا لعبهم التي ضاعت وغرفهم التي تهدمت، وهم بذلك سيعيشون بقية حياتهم غير أسوياء إذ أنهم لم ينعموا بطفولتهم كبقية أطفال العالم.
غزة (فلسطين) ـ وضعت الحرب أوزارها في غزة، لكن آثارها لا تزال ماثلة في غرفة نوم الطفلة شروق المصري ابنة التاسعة وشقيقتها رزان، 4 سنوات، فألعابهم مغطاة بالغبار الرمادي، والسقف بات منحنيا وملتويا، والشقوق في الجدران يمكنك أن تراها وقد تقطعت الرسوم الكرتونية التي زينتها.
نجت الفتاتان في الصباح الباكر من الغارة الجوية التي دمرت مبنى مجاورا في 19 مايو، قبل يومين من وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب، لكنهما مثل العديد من الأطفال في غزة، ستحملان ذكرى أهوالها ودمارها.
وكانت الحرب التي استمرت 11 يومًا هي رابع حرب بين إسرائيل والفلسطينيين، قد خلفت العديد من الضحايا. يشكل الفلسطينيون الغالبية العظمى منهم حيث خلّفت أكثر من 250 قتيلا.
ومثل الحروب الأخرى، تسببت هذه الحرب في إحداث خسائر فادحة لدى الأطفال، وقُتل ما لا يقل عن 66 طفلاً فلسطينيا، بالإضافة إلى صبي يبلغ من العمر 5 سنوات وفتاة تبلغ من العمر 16 عاما على الجانب الإسرائيلي.
وحذر أطباء نفسيون من التأثيرات النفسية للقصف الذي شهدته غزة على أطفالها الذين أرعبهم القصف والتفجيرات.
قالت علا أبوحسب الله، أخصائية علم نفس الأطفال لصحيفة نيويورك تايمز، “عندما أفكر في الأطفال الذين ماتوا، أفكر أيضا في الأطفال الذين نجوا، والذين انتشلوا من تحت الأنقاض وفقدوا أحد أطرافهم، أو أولئك الذين سيذهبون إلى المدرسة وسيرون صديقهم مفقودا”.
وحذرت منظمة “أنقذوا الأطفال” الفلسطينية من أن الأطفال في غزة سيعانون لسنوات قادمة. وبحسب المنظمة فإن “الأطفال في غزة يعانون من الخوف والقلق، وقلة النوم وتظهر عليهم علامات القلق مثل الاهتزاز المستمر والتبول اللاإرادي”.
ولا توجد نسبة حقيقية لعدد الأطفال الذين يعانون من اضطرابات نفسية في القطاع، لكن برنامج غزة للصحة النفسية، يشير إلى ازدياد هذه الحالات بالمئات شهريا.
وفي مخيم المغازي للاجئين جنوب قطاع غزة، مزقت غارة جوية سقف غرفة النوم التي كان يتقاسمها الطفل أنس الجاهد البالغ من العمر 4 سنوات مع أخته وتركت الأرضية مغطاة بالزجاج المهشم، لكنهما نجوا من هذا الهجوم.
وكانت هذه هي الحرب الأولى في حياته القصيرة، لكن معظم سكان غزة يتذكرون بوضوح الحروب الأخرى – بما في ذلك الحرب التي حدثت في عام 2014، والتي استمرت عدة أسابيع. وحتى المراهقين يمكنهم الإشارة إلى المنازل التي تم تدميرها في جولات القتال السابقة.
واضطرت ناريمان إلى ترك عصافيرها وسمكتيها في المنزل.. فقد شكّلت معاناة الحيوانات المنزلية خلال الحرب الأخيرة مصدر حزن إضافي لهذه الطفلة على غرار كثيرين من أطفال القطاع.
وانعكس الوضع سلبا أيضا على الحيوانات المنزلية التي استحالت مصدر قلق إضافي لأصحابها.
تحمل الطفلة ناريمان العقاد ذات السنوات التسع وعاء زجاجيا تضع فيه سمكتها حور التي نجت من قصف إسرائيلي قريب من منزلها في خان يونس جنوب القطاع، على عكس سمكتها الاخرى حورية.
فبعد غارة جوية استهدفت الحي، ذهبت ناريمان مع ابن عمتها محمود إلى البيت وعثرا على السمكة بين الركام والدمار.
وانتشر شريط فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي لأحمد وناريمان يظهرهما فرحين بالعثور على السمكة.
يقول أحمد في الفيديو مبتسما وهو يحمل الوعاء “أنقذناها من البيت”، لترد ناريمان “وسنذهب الآن لإحضار العصافير”.
واضطرت عائلة ناريمان العقاد لإخلاء المنزل بعد أن تلقت اتصالا تحذيريا بضرورة المغادرة لأن الطائرات الإسرائيلية ستقصف مقر مصرف مجاور لها.
وكانت ناريمان قد حصلت على السمكتين الذهبيتين بالإضافة إلى طائرين أزرقين أطلقت عليهما اسم “علوش” و”ملوش”، كهدية من والدها في عيد ميلادها السادس.
تقول الطفلة، “أصرّيت على العودة إلى البيت مع والدي بعد توقف القصف لأخذها معي وإحضار ملابس العيد”.
ووجدت ناريمان الحجارة والركام تغطي ملابسها التي وضعتها على سريرها الذي تكسر، بينما سقطت نافذتا الغرفة.
وتتابع، “سمعت زقزقة علوش وملوش تحت الركام، ووجدت حوض السمك قد تكسر”.
ويشير والدها بسام العقاد إلى أن ناريمان “أصرت على أخذ السمكتين، ووجدنا حوض الأسماك مكسورا. ووجدنا القليل من المياه فيه ثم نقلنا السمكة بسرعة إلى الوعاء الصغير وحملت السمكة، وأخذت قفص العصافير”.
محمود المصري، 14 عامًا، يشارك غرفته مع ستة أشقاء. وفي الساعة 3 صباحًا، خرج أفراد عائلته من المبنى بعد أن حذرهم الجيش الإسرائيلي من الإخلاء.
وقال المصري، “كنت أخشى أن نُقتل بطائرة مسيرة في هجوم آخر بعد عودتنا”.
وفي منزل آخر، تحاول ميساء أبوالعوف (22 عاما) تهدئة روع شقيقها البالغ من العمر عامين ونصف العام بعد أن خسرا عددا كبيرا من أفراد عائلتهما في قصف جوي إسرائيلي.
وأضافت، “الجميع بحاجة إلى دعم نفسي. ابن عمي عمر (16 عاما) استشهد جميع أفراد عائلته وتم انتشاله من بين الأنقاض بعد أن قضى 12 ساعة هناك. ومن هول الصدمة ما زال يبكي بحرقة ولا يريد الكلام”.
ويحذر الأخصائي النفسي محمد أبوالسبح من أن يصبح الأطفال الذين تعرضوا “لصدمات هائلة” في غزة، عنيفين.
ويشرح أبوالسبح أن “الاضطرابات النفسية تظهر غالبا عبر اضطرابات سلوكية سيئة وعنيفة. وتحدث الحروب زيادة في العنف لدى الأطفال في المدارس أو داخل البيوت”.
وبحسب أبوالسبح، فإن غالبية الأطفال في قطاع غزة “يعانون من الاكتئاب والقلق واضطراب السلوك”.
وحذر الأخصائي من أن هناك “نسبة كارثية” من الأطفال الذين يحتاجون لإعادة تأهيل. ويتابع “أنا غير متفائل، هذه الحرب ستنشئ جيلا عدوانيا عنيفا يميل إلى الكراهية”.
ويقول الكيان الإسرائيلي الذي يفرض حصارا منذ 2007، إن الإغلاق ضروري لمنع حماس من إعادة التسلح، بينما يرى الفلسطينيون والجماعات الحقوقية أنه شكل من أشكال العقاب الجماعي.
وفي كلتا الحالتين، سيمر وقت طويل قبل أن يعود الأطفال الذين تحطمت غرف نومهم إلى مكان يشعرون فيه بالأمان.